شرح حديث لا صلاة بحضرة طعام ولا هو يدافعه الأخبثان

شرح حديث لا صلاة بحضرة طعام ولا هو يدافعه الأخبثان

حكم الصلاة بحضرة الطعام وما في معناه

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وله -أي: لـ مسلم - عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا صلاة بحضرة طعام، ولا هو يدافعه الأخبثان ) ].
تقدم نظير ذلك في الجزء الأول، ولربما كان من الأنسب ضم هذا الحديث إلى الحديث المتقدم: ( إذا قدم العشاء وحضر المغرب فابدأوا بالعشاء )، وعلل العلماء ذلك بأنه إذا كان العَشاءُ موجوداً، وانصرف إلى الصلاة فربما انشغل ذهنه وباله، أو تطلعت نفسه إلى الطعام، فيكون تشويشاً في خاطره، وقد ذُكر عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه تناول طعام العشاء فإذا به يشم رائحة شواء -لحم يشوى-، فأراد المؤذن أن يقيم، فقال: اصبر حتى ننال من هذا الشواء، حتى لا تتعلق نفوسنا به ونحن في الصلاة.
في قوله: (لا صلاة) هل تكون (لا) نافية أو ناهية؟ فإذا قلنا: نافية فإنها تنفي الصلاة، وإذا صلى تكون الصلاة قد وجدت لا أنها انتفت! لكن الذين يقولون: إنها نافية لا يقصدون نفي الماهية، ولكن يقصدون نفي صفة تتعلق بها، أي: لا صلاة كاملة.
أو: لا صلاة مستوفاة، أو: لا صلاة مقبولة، فيأتون بصفة يمكن أن تتوجه لا النافية عليها، فتقع الماهية بدون تلك الصفة.
ولكن الذين يقولون: (لا) ناهية، يقولون: النهي موجه للمخاطب المكلف، فقد نهاه أن يفعل، فإن امتثل، امتثل النص، وإن لم يمتثل أوقع المنهي عنه ويتحمل مسئوليته.
والجمهور على أن قوله: (لا صلاة) نهي، فلا ينبغي للمصلي أن يصلي وهو على إحدى هاتين الحالتين.
قوله: ( لا صلاة بحضرة طعام ) أي: إذا وضع الطعام، وأقيمت الصلاة، والطعام موجود في محل الصلاة، فلا صلاة بحضرة هذا الطعام؛ لأنه ينشغل به عن الصلاة.
وإذا حضر الطعام، وكان الطعام -كما يقولون الآن- في غرفة الطعام فهل تكون الصلاة بحضرة طعام؟ قالوا: هو كذلك، على معنى ( إذا قدم العشاء والمغرب فقدموا العشاء )، فالسبب في النهي هنا هو عين السبب في النهي هناك.
ولكن -كما أشرنا سابقاً- الفقهاء رحمهم الله يبحثون في الإجزاء وعدم الإجزاء، والصحة وعدم الصحة، والآخرون ينظرون إلى شيء آخر زيادة على ذلك، وهو كمال الصلاة خشوعاً، وكمال الصلاة في الخضوع فيها، وفي استحضار القلب، وفي عدم التشويش فيها، وفي عدم الموانع التي تؤثر على الصلاة، فإذا صلى والطعام حاضراً فهل الصلاة باطلة أو صحيحة؟ وإذا كان النهي مرتبطاً بالعلة، فإنه إذ حضر الطعام وأنا شبعان، أو حضر الطعام عند أن قمت من طعام آخر فعلة النهي غير موجودة، فهل تكون الصلاة صحيحة أو باطلة؟

هل تصح الصلاة بحضرة الطعام

قالوا: لا، ليست باطلة؛ لأن النهي متعلق بالتعليل.
فلا صلاة لمن هو في حاجة إلى الطعام، كأن يأتي وقت الإفطار وهو جائع، وكالقادم من السفر الذي لم يجد الطعام، فمن كان وجود الطعام سيشوش عليه أثناء صلاته، ويذهب خشوعه فلا يصل، إلا إذا ضاق الوقت، فلو قُدِّم الطعام في آخر الوقت ولم يكن صلى، فهو بين أحد أمرين: إن أكل خرج الوقت، وإن صلى فهو مشوش، فماذا يفعل؟ والجواب: أن التشويش متفاوت، واجتناب التشويش ليس من صلب وأركان الصلاة، وإنما هو من تحسين وتكميل الصلاة بتوفير الخشوع والخضوع.
فهو من المحسنات، ولا ينبغي إضاعة الضروري من أجل تحصيل التحسين، فإذا ضاع رأس المال فكيف تبحث عن الربح؟ فإذا ضاق الوقت وقُدِّم الطعام فقد تعارض هنا تحقيق إتيان الصلاة المفروضة عليه مع تحصيل تحسينها بالخشوع والخضوع.
يقول ابن دقيق العيد -وهي قاعدة عجيبة جداً-: إذا عاد الفرع على الأصل بالإبطال حكمنا بإبطال الفرع؛ لأنه سيبطل أصله.
والخشوع في الصلاة فرع عن الصلاة، فإذا قمنا بالحفاظ على الفرع سنضيع الأصل، فهذا الفرع يصبح ملغياً باطلاً، ونحافظ على الأصل.
وهذه القاعدة لها أصل في كتاب الله، ومعمول بها عند عوام الناس، أما أصلها في كتاب الله فهي قضية الخضر -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- مع نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام لما لقيا غلاماً فقتله، فموسى عليه السلام لم يتحمّل، فهذا على جانب من التشريع، وهذا على جانب آخر، فقال: { أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا } [الكهف:74].
فقال: يا موسى! قلت لك أول الأمر يجب أن تصبر، ثم بين له بعد قوله: { سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً } [الكهف:78]، فقال: { وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً } [الكهف:80].
فالغلام فرع بالنسبة للأبوين، وهذا الفرع يخشى منه أن يبطل الأصل وهو الأبوان بأن يرهقهما طغياناً وكفراً، والكفر هلاك، فقام الخضر وأتلف الفرع، وأبقى الأصل سليماً، ثم بيّن لموسى ذلك فقال: { فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً } [الكهف:81]، فما دام الأصل باقياً فإنه يأتي بفروع كثيرة.
والعامة تقول: إن بقي العود فالجثة تعود، أي: إذ مرض إنسان مرضاً شديداً، وكان بوزن أربعة، وصار مثل العود، فمادام العود باقياً فالجثة التي راحت تعود.
وكذلك المزارع حينما تكون عنده شجرة، حملت من الثمر ما يكسر الجريد ويفسد الثمر، أو يكسر الأغصان ويفسد الثمرة -والفاكهة ثمرة عن الشجرة-، فيجيء الفلاح بطبيعة الحال وبفطرته فيقطع من الثمرة هذه -وهي خضرة- حتى تخف الثمرة على الأغصان، ولا تنكسر فتفسد الشجرة، وتفسد الثمرة، فهو أتلف بعض الفرع إبقاءً على الأصل.
وهكذا هنا، فإذا قُدِّم الطعام وكان الوقت ضيقاً فإن أكل خرج الوقت، فحينئذٍ تعارض الأصل مع تحصيل الفرع، والفرع إذا حصلناه كانت النتيجة إضاعة وإبطال الأصل، فيحكم على الفرع بالبطلان، ونقول: يصلي مهما كانت حالته، فيصلي بقدر ما استطاع، ثم يرجع إلى طعامه، وهذه ناحية.

حكم مدافعة البول و الغائط في الصلاة

الناحية الثانية قوله: (ولا هو -أي: المصلي- يدافعه الأخبثان)،

معنى يدافعه الأخبثان

المدافعة: مفاعلة من الدفع، فهذا يدفع يميناً وهذا يدفع يساراً، كما إذا كان شخص داخل غرفة وآخر خارجها، فهذا يدفع الباب من أجل أن يفتح ويدخل، وهذا يدفع الباب من أجل أن يرده، فهناك مدافعة، ومثله لمشادة والمخاصمة، ففيها طرفان متضادان، فهنا المصلي طرف في المدافعة، والأخبثان طرف آخر، وقد فسر الأخبثان بقوله:(حاقن، أو حاقب)، فإذ كان يحس بالحاجة إلى تفريغ البول أو الفضلات، فإن الله تعالى جعل عضلات للمحلين تسمى العاصرة، أو الحافظة، أو القابضة، فتنقبض حتى لا يخرج شيء، وعند الحاجة للإخراج إذا امتلأ محل التجمع تشعر هذه العضلة بحاجة الإنسان إلى التفريغ، فترتخي وتفتح الطريق، ويخرج ما كان داخله، فحينما يحس الجهاز من الداخل بالامتلاء، فطبيعة تكوين الإنسان تقوم بالتفريغ، وكما يقولون: تُعطى الإشارات إلى تلك العضلة لترتخي ولتسهل الطريق للإخراج، فالإنسان بدوره قد يدافع هذا الغرض، ويبقى الأخبث يدفع للخروج، والإنسان يشتد على عضلته للمنع من الخروج، فهذا يدافع ليخرج، وهذا يدافع ليبقي الداخل في محله.
وإذا حصلت هذه المدافعة، فهل يكون هناك خشوع؟! فهو في معركة، وهو في حالة غير طبيعية، والقاعدة عند الأطباء أنه لا ينبغي تأخير الإفراغ عن وقت حاجته، ويذكرون مضاره في الغشاء المخاطي أو غيره، والصداع الذي يترتب على الإمساك أو حصر البول.
وهذا أمر جبلي في حياة الإنسان، فإن أحس قبل الدخول في الصلاة ببوادر ارتخاء العضلة، وببوادر الدفع للخروج -وهذا أمر طبيعي- فلا ينبغي أن يضغط على نفسه تكاسلاً عن الإفراغ والوضوء، فيقول: أصلي أولاً وبعد ذلك أذهب لقضاء الحاجة، فلا يجوز ذلك؛ لأنه معه سعة الوقت، وعنده حاجة تعود عليه بالمضرة، وتعطل عليه الغرض من الصلاة، وهو قوله تعالى: { وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي } [طه:14]، ومدافعته مع أخبثيه تلهيه عن ذكر الله سبحانه.
فعليه أن يستجيب، وأن يفرغ ويخرج أحد الأخبثين، أو كليهما معاً، ثم بعد ذلك يجدد وضوءه، ويدخل في الصلاة بدون مدافعة، وهنا يستطيع أن يتذكر، ويستطيع أن يتأمل، ويستطيع أن يحس بالخضوع بين يدي الله سبحانه.

حكم قضاء الحاجة عند ضيق الوقت

بقيت مسألة، وهي إذا ضاق الوقت ودافعه الأخبثان، إذ الجوع يمكن الصبر عليه، بخلاف المدافعة.
قالوا: إن كان باستطاعته أن يؤدي الصلاة -ولو بالتخفيف- قبل أن يخرج الوقت صلى، ونرجع إلى قاعدة التحسين والتأصيل، وإن وجد في نفسه أنه لا يستطيع فلا يصل، وعليه أن يقضي حاجته ولو خرج الوقت؛ لأنه إن لم يفعل آذى نفسه، وربما حدث منه في صلاته ما لا ينبغي، وتفسد عليه الصلاة، ويكون لا هو حصل هذا، ولا حصل على ذاك.

الحكمة من النهي عن الصلاة بحضرة الطعام أو عند مدافعة الأخبثين

وقوله: ( لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان )، العلة التي يشترك فيها حضور الطعام ومدافعة الأخبثين هي التشويش، فإبعاداً وتخلصاً من دواعي التشويش عليه وهو في الصلاة يقدمان على الصلاة.
فإذا وجد شيء آخر من طبيعته أن يشوش على المصلي فهل يدخل في الصلاة وهذا المشوش موجود، أم أنه له أن يزيله عنه، ويدخل في الصلاة وهو مطمئن، وذلك في سعة الوقت؟ والجواب أن له أن يقضي على سبب التشويش، ونستطيع أن نقول: يوجد نص في هذا، وإن لم أجد من ذكر ذلك، ولكنَّه ينطبق على ما نحن فيه، فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه خرج للصلاة، وأقيمت الصلاة، وكبر في الصلاة)، فتذكر أنه نسي شيئاً وهو في هذه الحالة حين استقبل القبلة، وقام الناس، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف، ويشير إليهم: مكانكم، ويدخل البيت مسرعاً، ثم يرجع ويدخل في الصلاة ويصلي، ثم قال لهم: ( جاءني مال من كذا وقسمته، ونيست ثلاثة دارهم لم أقسمها، فأسرعت بتقسيمها قبل أن أدخل في الصلاة )، يعني: لو خطرت له صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فستشوش عليه، فترك الدخول في الصلاة، وذهب وأمر بتصريفها؛ لأنها لو عرضت له في الصلاة يكون كأنه ادخر شيئاً كان ينبغي أن يصرفه، وهذا يشوش عليه صلى الله عليه وسلم.
ونحن نقول كذلك: لو أن امرأة في بيتها، وضعت إناءً على الموقد، ثم قامت وتوضأت وتهيأت، وأرادت أن تصلي، فتذكرت الإناء الموجود على الموقد، وعلمت إنها إن صلت تخشى من أن يحدث شيء بسبب هذا الإناء على الموقد، بأن كان السائل فيه قليلاً، أو كانت النار شديدة، فهل تدخل في الصلاة وذهنها مع الموقد وما عليه، أم تذهب إلى الموقد وتوقفه، أو تنزل الإناء، أو تتصرف بما يطمئن نفسها؟ وكذلك الإنسان إذا نسي هل أقفل الباب أم لا، أو كان الماء في الخزان فلم يدر، هل يفيض أو لا يفيض.
فأي شيء يتذكره الإنسان قبل الدخول في الصلاة، فلو دخل في صلاته على تلك الحالة فسيشغل باله حتى يفرغ منها فإنه يذهب إليه وينهي أمره.
فعليه أن يزيل أي شاغل موجود يمكن أن يشوش عليه الصلاة، وهذا نأخذه من عموم العلة والحكمة في النهي عن الصلاة بحضرة الطعام، أو وهو يدافعه الأخبثان.
وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالقضاء: ( لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان )، فالغضب صفة نفسية، فإذا كان حزيناً، أو مشغول البال، أو جائعاً، أو عطشان فلا يقضي؛ لأن القضاء يحتاج إلى صفاء الذهن واستغراق الفكر، واستخراج المعدوم من الموجود.
فيحتاج إلى أن يكون مستقراً هادئاً؛ لأن كل هذه الأشياء ستشوش على فكره وتمنعه من الاستغراق في التفكير في أمر القضية.
فالرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن القضاء حالة الغضب، والفقهاء قاسوا عليها كل ما يشاكلها في العلة، فالغضب من الشيطان، والغضب يحمله على الإسراع في الحكم، والغضب يحمله على ألاَّ يجمع أطراف القضية، فهذا سيشوش على فكره، ويمنعه من إمعان النظر في القضية التي أمامه والنظر في أقوال الخصمين والمقارنة بينها وخضها -كما يقولون- حتى يخرج الزبدة من النزاع، فألحقوا به كل ما شوش على الفكر.
فكذلك هنا، فالحديث جاء في حضرة الطعام)، وجاء في حالة مدافعة الأخبثين، فإذا كان كذلك ونقول: لو أن إنساناً -عافنا الله وإياكم- آلمته بطنه، وأرسل لشراء دواء من الصيدلية، فإن دخل في الصلاة فالألم لا يمكنه من الاطمئنان في الصلاة، فينتظر حتى يأتي الدواء ويتناوله.
فنستطيع أن نقول بصفة عامة: كل ما يطرأ على الشخص قبل دخوله في الصلاة فإنه ينبغي عليه أن يزيل هذا الشيء، حتى يدخل في الصلاة باستقرار وطمأنينة، ويستطيع أن يؤديها بخشوع كما أمر في ذلك، والله تعالى أعلم.

شرح بلوغ المرام للشيخ عطية محمد سالم