تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 312 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 312

312- تفسير الصفحة رقم312 من المصحف
الآيات: 96 - 98 {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا، فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا، وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركز}
قوله تعالى "إن الذين آمنوا" أي صدقوا "وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا" أي حبا في قلوب عباده كما رواه الترمذي من حديث سعد وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا أحب الله عبدا نادى جبريل إني قد أحببت فلانا فأحبه قال فينادي في السماء ثم تنزل له المحبة في أهل الأرض فذلك قوله تعالى "سيجعل لهم الرحمن ودا" وإذا أبغض الله عبدا نادى جبريل إني أبغضت فلانا فينادي في السماء ثم تنزل له البغضاء في الأرض) قال هذا حديث حسن صحيح وخرجه البخاري ومسلم بمعناه ومالك في الموطأ وفي نوادر الأصول وحدثنا أبو بكر بن سابق الأموي قال حدثنا أبو مالك الجنبي عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله أعطى المؤمن الألفة والملاحة والمحبة في صدور الصالحين والملائكة المقربين ثم تلا "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا"
واختلف فيمن نزلت فقيل في علي رضي الله تعالى عنه روى البراء بن عازب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: (قل يا علي اللهم اجعل لي عندك عهدا واجعل لي في قلوب المؤمنين مودة) فنزلت الآية ذكره الثعلبي وقال ابن عباس نزلت في عبدالرحمن بن عوف جعل الله تعالى له في قلوب العباد مودة لا يلقاه مؤمن إلا وقره لا مشرك ولا منافق إلا عظمه وكان هرم بن حيان يقول ما أقبل أحد بقلبه على الله تعالى إلا أقبل الله تعالى بقلوب أهل الإيمان إليه، حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم. وقيل يجعل الله تعالى لهم مودة في قلوب المؤمنين والملائكة يوم القيامة
قلت: إذا كان محبوبا في الدنيا فهو كذلك في الآخرة فإن الله تعالى لا يحب إلا مؤمنا تقيا ولا يرضى إلا خالصا نقيا جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه. روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله تعالى إذا أحب عبدا دعا جبريل عليه السلام فقال إني أحب فلانا فأحبه فيحب جبريل ثم ينادي في السماء فيقول إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء قال ثم يوضع له القبول في الأرض وإذا أبغض عبدا دعا جبريل عليه السلام وقال إني أبغض فلانا فأبغضه فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلانا فأبغضوه قال فيبغضونه ثم توضع له البغضاء في الأرض)
قوله تعالى: "فإنما يسرناه بلسانك" أي القرآن يعني بيناه بلسانك العربي وجعلناه سهلا على من تدبره وتأمله وقيل أنزلناه عليك بلسان العرب ليسهل عليهم فهمه. "لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا" اللد جمع الألد وهو الشديد الخصومة ومنه قوله تعالى "ألد الخصام" وقال الشاعر
أبيت نجيا للهموم كأنني أخاصم أقواما ذوي جدل لدا
وقال أبو عبيدة الألد الذي لا يقبل الحق ويدعي الباطل الحسن اللد الصم عن الحق قال الربيع: صم أذان القلوب. مجاهد: فجارا. الضحاك: مجادلين في الباطل. ابن عباس: شديدا في الخصومة. وقيل: الظالم الذي لا يستقيم والمعنى واحد وخصوا بإنذار لأن الذي لا عناد عنده يسهل انقياده
قوله تعالى: "وكم أهلكنا قبلهم من قرن" أي من أمة وجماعة من الناس يخوف أهل مكة. "هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا" في موضع نصب أي هل ترى منهم أحد وتجد "أو تسمع لهم ركزا" أي صوتا عن ابن عباس وغيره أي قد ماتوا وحصلوا أعمالهم وقيل حسا قال ابن زيد وقيل الركز ما لا يفهم من صوت أو حركة قال اليزيدي وأبو عبيدة كركز الكتيبة وأنشد أبو عبيدة بيت لبيد:
وتوجست ركز الأنيس فراعها عن ظهر غيب والأنيس سقامها
وقيل الصوت الخفي ومنه ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض وقال طرفة
وصادقتا سمع التوجس للسري خفي أو لصوت مندد
وقال ذو الرمة يصف ثورا تسمع إلى صوت صائد وكلاب:
إذا توجس ركزا مقفر ندس بنبأة الصوت ما في سمعه كذب
أي ما في استماعه كذب أي هو صادق الاستماع والندس الحاذق يقال ندس وندس كما يقال حذر وحذر ويقظ ويقظ، والنبأة الصوت الخفي وكذلك الركز والركاز المال المدفون. والله تعالى أعلم بالصواب.
سورة طه
مقدمة السورة
سورة طه مكية في قول الجميع نزلت قبل إسلام عمر رضي الله عنه روى الدارقطني في سننه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال خرج عمر متقلدا بسيف فقيل له إن ختنك قد صبوا فأتاهما عمر وعندهما رجل من المهاجرين يقال له خباب وكانوا يقرؤون "طه" فقال: أعطوني الكتاب الذي عندكم فأقرأه وكان عمر رضي الله عنه يقرأ الكتب فقالت له أخته إنك رجس ولا يمسه إلا المطهرون فقم فاغتسل أو توضأ فقام عمر رضي الله عنه وتوضأ وأخذ الكتاب فقرأ "طه" وذكره ابن إسحاق مطولا فإن عمر خرج متوشحا سيفه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتله فلقيه نعيم بن عبدالله فقال أين تريد يا عمر؟ فقال أريد محمدا هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها وعاب دينها وسب آلهتها فاقتله فقال له نعيم والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا؟ !أفلا ترجع إلى أهلك فتقيم أمرهم؟ فقال وأي أهل ببتي؟ قال ختنك وابن عمك سعيد بن زيد وأختك فاطمة بنت الخطاب فقد والله أسلما وتابعا محمدا على دينه فعليك بهما قال فرجع عمر عامدا إلى أخته وختنه وعندهما خباب بن الأرت معه صحيفة فيها "طه" يقرئهما إياها فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب في مخدع لهم أوفي بعض لبيت وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خباب عليهما فلما دخل قال ما هذه الهينمة التي سمعت؟ قالا له ما سمعت شيئا فال بلى والله لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا إلى دينه وبطش بختنه سعيد بن زيد فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها فضربها فشجها فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه نعم قد أسلمنا وأمنا بالله ورسول فاصنع ما بدا لك ولما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع فارعوى وقال لأخته أعطني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرؤونها آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد وكان كاتبا فلما قال ذلك قالت له أخته إنا نخشاك عليها قال لها لا تخافي وحلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها فلما قال ذلك طمعت في إسلامه فقالت له يا أخي إنك نجس على شركك وأنه لا يمسها إلا الطاهر فقام عمر وأغتسل فأعطته الصحيفة وفيها "طه" فلما قرأ منها صدرا قال ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع ذلك خباب خرج إليه فقال له يا عمر والله إني لأرجو أن يكون الله خصك بدعوة نبيه فإني سمعته أمس وهو يقول (اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو الخطاب) فالله الله يا عمر فقال له عند ذلك فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم وذكر الحديث.
مسألة أسند الدارمي أبو محمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم (إن الله تبارك وتعالى قرأ "طه" و"يس" قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام فلما سمعت الملائكة القرآن قالت طوبى لأمة ينزل هذا عليها وطوبى لأجواف تحمل هذا وطوبى لألسنة تتكلم بهذا) قال ابن فورك قوله (إن الله تبارك وتعالى قرأ "طه" و"يس") أي أظهر وأسمع وأفهم كلامه من أراد من خلقه الملائكة في ذلك الوقت والعرب تقول قرأت الشيء إذا تتبعته وتقول ما قرأت هذه الناقة في رحمها سلا قط أي ما ظهر فيها ولد فعلى هذا يكون الكلام سائغا وقرأته أسماعه وأفهامه قرأته يخلقها وكتابة يحدثها وهي معنى قولنا قرأنا كلام الله ومعنى قوله "فاقرؤوا ما تيسر من القرآن" "فاقرؤوا ما تيسر منه" ومن أصحابنا من قال معنى قوله قرأ) أي تكلم به وذلك مجاز كقولهم ذقت هذا القول ذواقا بمعنى اختبرته ومنه قوله: "فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما يصنعون" أي ابتلاهم الله تعالى به فسمي ذلك ذوقا والخوف لا يذاق على الحقيقة لأن الذوق في الحقيقة بالفم دون غيره من الجوارح قال ابن فورك وما قلناه أولا أصح في تأويل هذا الخير لأن كلام الله تعالى أزلي قديم سابق لجملة الحوادث وإنما أسمع وأفهم من أراد من خلقه على ما أراد في الأوقات والأزمنة لا أن عين كلامه يتعلق وجوده بمدة وزمان.
الآيات: 1 - 4 {طه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى، إلا تذكرة لمن يخشى، تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى}
قوله تعالى: "طه" اختلف العلماء في معناه فقال الصديق رضي الله تعالى عنه هو من الأسرار ذكره الغزنوي ابن عباس معناه يا رجل ذكره البيهقي وقيل إنها لغة معروفة في عكل. وقيل في عك قال الكلبي: لو قلت في عك لرجل يا رجل لم يجب حتى تقول طه وأنشد الطبري في ذلك فقال:
دعوت بطه في القتال فلم يجب فخفت عليه أن يكون موائلا
ويروى مزايلا وقال عبدالله بن عمر يا حبيبي بلغة عك ذكره الغزنوي وقال قطرب هو بلغة طيء وأنشد ليزيد بن المهلهل:
إن السفاهة طه من شمائلكم لا بارك الله في القوم الملاعين
وكذلك قال الحسن معنى "طه" يا رجل وقال عكرمة وقال هو بالسريانية كذلك ذكره المهدوي وحكاه الماوردي عن ابن عباس أيضا ومجاهد وحكى الطبري أنه بالنبطية يا رجل وهذا قول السدي وسعيد بن جبير وابن عباس أيضا قال:
إن السفاهة طه من خلائقكم لا قدس الله أرواح الملاعين
وقال عكرمة أيضا هو كقولك يا رجل بلسان الحبشة ذكره الثعلبي والصحيح أنها وإن وجدت في لغة أخرى فإنها من لغة العرب كما ذكرنا وأنها لغة يمينية في عك وطيء وعكل أيضا وقيل: هو اسم من أسماء الله تعالى وقسم أقسم به وهذا أيضا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقيل: هو اسم للنبي صلى الله عليه وسلم سماه الله تعالى به كما سماه محمدا وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لي عند ربي عشرة أسماء) فذكر أن فيها "طه" و"يس" وقيل هو اسم للسورة ومفتاح لها وقيل إنه اختصار من كلام الله خص الله تعالى رسول بعلمه وقيل إنها حروف مقطعة يدل كل حرف منها على معي واختلف في ذلك فقيل الطاء شجرة طوبى والهاء النار الهاوية والعرب تعبر عن الشيء كله ببعضه كأنه أقسم بالجنة والنار وقال سعيد بن جبير الطاء افتتاح اسمه طاهر وطيب والهاء افتتاح اسمه هادي وقيل "طاء" يا طامع الشفاعة للأمة "هاء" يا هادي الخلق إلى الله وقيل الطاء من الطهارة والهاء من الهداية كأنه يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام يا طاهرا من الذنوب يا هادي الخلق إلى علام الغيوب وقيل الطاء طبول الغزاة والهاء هيبتهم في قلوب الكافرين بيانه قوله تعالى "سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب" وقوله "وقذف في قلوبهم الرعب" وقيل الطاء طرب أهل الجنة في الجنة والهاء هوان أهل النار في النار وقول سادس إن معنى "طه" طوبى لمن اهتدى قال مجاهد ومحمد بن الحنفية وقول سابع إن معنى "طه" طأ الأرض وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحمل مشقة الصلاة حتى كادت قدماه تتورم ويحتاج إلى الترويح بين قدميه فقيل له طأ الأرض أي لا تتعب حتى تحتاج إلى الترويح حكاه ابن الأنباري وذكر القاضي عياض في "الشفاء" أن الربيع بن أنس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى فأنزل الله تعالى "طه" يعني طأ الأرض يا محمد الزمخشري وعن الحسن "طه" وفسر بأنه أمر بالوطء وأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه فأمر أن يطأ الأرض بقدميه معا وأن الأصل طأ فقلبت همزته هاء كما قلبت [ألفا] في (يطأ) فيمن قال:
... لا هناك المرتع
ثم بنى عليه هذا الأمر والهاء للسكت وقال مجاهد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يربطون الحبال في صدورهم في الصلاة بالليل من طول القيام ثم نسخ ذلك بالفرض فنزلت هذه الآية وقال الكلبي: لما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بمكة اجتهد في العبادة واشتدت عبادته، فجعل يصلي الليل كله زمانا حتى نزلت هذه الآية فأمره الله تعالى أن يخفف عن نفسه فيصلي وينام، فنسخت هذه الآية قيام الليل فكان بعد هذه الآية يصلي وينام وقال مقاتل والضحاك فلما نزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم قام وأصحابه فصلوا فقال كفار قريش ما أنزل الله هذا القرآن على محمد إلا ليشقى فأنزل الله تعالى "طه" يقول: رجل "ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى" أي لتتعب؛ على ما يأتي وعلى هذا القول إن "طه" (طاها) أي طأ الأرض فتكون الهاء والألف ضمير الأرض أي طأ الأرض برجليك في صلواتك وخففت الهمزة فصارت ألفا ساكنة وقرأت طائفة "طه" وأصله طأ بمعنى طأ الأرض فحذفت الهمزة أدخلت هاء السكت وقال زر بن حبيش قرأ رجل على عبدالله بن مسعود "طه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى" فقال له عبدالله "طه" فقال: يا أبا عبدالرحمن أليس قد أمر أن يطأ الأرض برجله أو بقدميه فقال "طه" كذلك أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأمال أبو عمرو وأبو إسحاق الهاء وفتحا الطاء وأمالهما جميعا أبو بكر وحمزة والكسائي والأعمش وقرأهما أبو جعفر وشيبة ونافع بين اللفظين واختاره أبو عبيد الباقون بالتفخيم قال الثعلبي وهي كلها لغات صحيحة النحاس لا وجه للإمالة عند أكثر أهل العربية لعلتين إحداهما أنه ليس ههنا ياء ولا كسرة فتكون الإمالة والعلة الأخرى أن الطاء من الحروف الموانع للإمالة فهاتان علتان بينتان.
قوله تعالى "ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى" وقرئ "ما نُزِّل عليك القرآن لتشقى" قال النحاس بعض النحويين يقول هذه لام النفي وبعضهم يقول لام الجحود وقال أبو جعفر وسمعت أبا الحسن بن كيسان يقول إنها لام الخفض والمعنى ما أنزلنا عليك القرآن للشقاء والشقاء يمد ويقصر وهو من ذوات الواو وأصل الشقاء في اللغة العناء والتعب أي ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب قال الشاعر:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
فمعنى لتشقى "لتتعب" بفرط تأسفك وعلى كفرهم وتحسرك على أن يؤمنوا كقوله تعالى "فلعلك باخع نفسك على آثارهم" [الكهف: 6] أي ما عليك إلا أن تبلغ وتذكر ولم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة بعد أن لم تفرط في أداء الرسالة والموعظة الحسنة وروى أن أبا جهل لعنه الله تعالى والنضر بن الحرث قالا للنبي صلى الله عليه وسلم إنك شقي لأنك تركت دين آبائك فأريد رد ذلك بان دين الإسلام وهذا القرآن هو السلم إلى نيل كل فوز والسبب في درك كل سعادة وما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها وعلى الأقوال المتقدمة أنه عليه الصلاة والسلام صلى الله عليه وسلم بالليل حتى تورمت قدماه فقال له جبريل أبق على نفسك فإن لها عليك حقا أي ما أنزلنا عليك القرآن لتنهك نفسك في العبادة وتذيقها المشقة الفادحة وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة
قوله تعالى: "إلا تذكرة لمن يخشى" قال أبو إسحاق الزجاج هو بدل من "تشقى" أي ما أنزلناه إلا تذكرة النحاس وهذا وجه بعيد وأنكره أبو علي من أجل أن التذكرة ليست بشقاء وإنما هو منصوب على المصدر أي أنزلنا لتذكر به تذكرة أو على المفعول من أجله أي ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى به ما أنزلناه إلا للتذكرة وقال الحسن بن الفضل فيه تقديم وتأخير مجازه ما أنزلنا عليك القرآن إلا تذكرة لمن يخشى ولئلا تشقى. "تنزيلا" مصدر أي نزلناه تنزيلا وقيل بدل من قوله "تذكرة" وقرأ أبو حيوة الشامي "تنزيل" بالرفع على معنى هذا تنزيل. "ممن خلق الأرض والسماوات العلا" أي العالية الرفيعة وهى جمع العليا كقول كبرى وصغرى وكبر وصغر أخبر عن عظمته وجبروته وجلاله.
الآيات: 5 - 8 {الرحمن على العرش استوى، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى}
قوله تعالى: "الرحمن على العرش استوى" ويجوز النصب على المدح قال أبو إسحاق الخفض على البدل وقال سعيد بن مسعدة: الرفع بمعنى هو الرحمن النحاس: يجوز الرفع بالابتداء والخبر "له ما في السماوات وما في الأرض" فلا يوقف على "استوى" وعلى البدل من المضمر في "خلق" فجوز الوقف على "استوى" وكذلك إذا خبر ابتداء محذوف ولا يوقف على "العلا" وقد تقدم القول في معنى الاستواء في "الأعراف" والذي ذهب إليه الشيخ أبو الحسن وغيره أنه مستو على عرشه بغير حد ولا كيف كما كون استواء المخلوقين وقال ابن عباس: يريد خلق ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة وبعد القيامة.
قوله تعالى: "له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى" يريد ما تحت الصخرة التي لا يعلم ما تحتها إلا الله تعالى وقال محمد بن كعب يعني الأرض السابعة ابن عباس الأرض على نون والنون على البحر وأن طرفي النون رأسه وذنبه يلتقيان تحت العرش والبحر على صخرة خضراء خضرة السماء منها وهي التي قال الله تعالى فيها "فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض" [لقمان: 16]؛ والصخرة على قرن ثور والثور على الثرى وما تحت الثرى إلا الله تعالى وقال وهب بن منبه على وجه الأرض سبعة أبحر والأرضون سبع بين كل أرضين بحر فالبحر الأسفل مطبق على شفير جهنم ولولا عظمه وكثرة مائه وبرد لأحرقت جهنم كل من عليها قال وجهنم على متن الريح ومتن الريح على حجاب من الظلمة لا يعلم عظمه إلا الله تعالى وذلك الحجاب على الثرى وإلى الثرى انتهى علم الخلائق.
قوله تعالى: "وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى" قال ابن عباس السر ما حدث به الإنسان غيره في خفاء وأخفى منه ما أضمر في نفسه مما لم يحدث به غيره وعنه أيضا السر حديث نفسك وأخفى من السر ما ستحدث به نفسك مما لم يكن وهو كائن أنت تعلم ما تسر به نفسك اليوم ولا تعلم ما تسربه غدا والله يعلم ما أسررت اليوم وما تسره غدا والمعنى الله يعلم السر وأخفى من السر وقال ابن عباس أيضا "السر" ما أسر ابن آدم في نفسه "وأخفى" ما خفي على ابن آدم مما هو فاعله وهو لا يعلمه فالله تعالى يعلم ذلك كله وعلمه فيما مضى من ذلك وما علم واحد وجميع الخلائق في علمه كنفس واحدة وقال قتادة وغيره "السر" ما أضمره في نفسه "وأخفى" منه ما لم يكن ولا أضمره أحد وقال ابن زيد "السر" من الخلائق "وأخفى" منه سره عز وجل وأنكر ذلك الطبري وقال إن الذي "أخفى" ما ليس في سرا لإنسان في نفسه كما قال ابن عباس. "الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى" "الله" رفع بالابتداء أو على إضمار مبتدأ أو على البدل من الضمير في "يعلم" وحد نفسه سبحانه وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا المشركين إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له فكبر ذلك عليهم فلما سمعه أبو جهل يذكر الرحمن قال للوليد بن المغيرة محمد ينهانا أن ندعو مع الله إلها آخر وهو يدعو الله والرحمن فأنزل الله تعالى "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى" وهو واحد وأسماؤه كثيرة ثم قال "الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى" وقد تقدم.
الآيتان: 9 - 10 {وهل أتاك حديث موسى، إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى}
قوله تعالى: "وهل أتاك حديث موسى" قال أهل المعاني هو استفهام وإثبات وإيجاب معناه؛ أليس قد أتاك؟ وقيل: معناه وقد أتاك؛ قاله ابن عباس. وقال الكلبي: لم يكن أتاه حديثه بعد ثم أخبره. "إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى" قال ابن عباس وغيره: هذا حين قضي الأجل وسار بأهله وهو مقبل من مدين يريد مصر، وكان قد أخطأ الطريق، وكان موسى عليه السلام رجلا غيورا، يصحب الناس بالليل ويفارقهم بالنهار غيرة منه، لئلا يروا امرأته فأخطأ الرفقة - لما سبق في علم الله تعالى - وكانت ليلة مظلمة. وقال مقاتل: وكان ليلة الجمعة في الشتاء. وهب بن منبه: استأذن موسى شعيبا في الرجوع إلى والدته فأذن له فخرج بأهله بغنمه، وولد له في الطريق في ليلة شاتية باردة مثلجة، وقد حاد عن الطريق وتفرقت ماشيته، فقدح موسى النار فلم تور المقدحة شيئا، إذ بصر بنار من بعيد على يسار الطريق "فقال لأهله امكثوا" أي أقيموا بمكانكم "إني آنست نارا" أي أبصرت. قال ابن عباس فلما توجه نحو النار فإذا النار في شجرة عناب، فوقف متعجبا من حسن ذلك الضوء؛ وشدة خضرة تلك الشجرة، فلا شدة حر النار تغير حسن خضرة الشجرة، ولا كثرة ماء الشجرة ولا نعمة الخضرة تغيران حسن ضوء النار. وذكر المهدوي: فرأى النار - فيما روي - وهي في شجرة من العليق، فقصدها فتأخرت عنه، فرجع وأوجس في نفسه خيفة، ثم دنت منه وكلمه الله عز وجل من الشجرة. الماوردي: كانت عند موسى نارا، وكانت عند الله تعالى نورا. وقرأ حمزة "لأهله امكثوا" بضم الهاء، وكذا في "القصص". قال النحاس هذا على لغة من قال: مررت به يا رجل؛ فجاء به على الأصل، وهو جائز إلا أن حمزة خالف أصله في هذين الموضعين خاصة. وقال: "امكثوا" ولم يقل أقيموا، لأن الإقامة تقتضي الدوام، والمكث ليس كذلك "وآنست" أبصرت، قاله ابن العربي. ومنه قوله "فإن آنستم منهم رشدا" [النساء: 6] أي علمتم. وآنست الصوت سمعته، والقبس شعلة من نار، وكذلك المقياس. يقال قبست منه نارا أقبس قبسا فأقبسني أي أعطاني منه قبسا، وكذلك اقتبست منه نارا واقتبست منه علما أيضا أي استفدته، قال اليزيدي: أقبست الرجل علما وقبسته نارا؛ فإن كنت طلبتها له قلت أقبسته. وقال الكسائي: أقبسته نارا أو علما سواء. وقال: وقبسته أيضا فيهما. "هدى" أي هاديا.
الآيتان: 11 - 12 {فلما أتاها نودي يا موسى، إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى}
قوله تعالى: "فلما أتاها" يعني النار "نودي يا موسى" أي من الشجرة كما في سورة "القصص" أي من جهتها وناحيتها على ما يأتي "يا موسى إني أنا ربك".
قوله تعالى "فاخلع نعليك" روى الترمذي عن عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان على موسى يوم كلمه ربه كساء صوف وجبة صوف وكمة صوف وسراويل صوف وكانت نعلاه من جلد حمار ميت) قال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حميد الأعرج [حميد - هو ابن علي الكوفي - ] منكر الحديث، وحميد بن قيس الأعرج المكي صاحب مجاهد ثقة؛ والكمة القلنسوة الصغيرة. وقرأ العامة "إني" بالكسر؛ أي نودي فقيل له يا موسى إني، واختاره أبو عبيد. وقرأ أبو عمرو وابن كثير وابن محيصن وحميد "أني" بفتح الألف بإعمال النداء. واختلف العلماء في السبب الذي من أجله أمر بخلع النعلين. والخلع النزع. والنعل ما جعلته وقاية لقدميك من الأرض. فقيل: أمر بطرح النعلين؛ لأنها نجسة إذ هي من جلد غير مذكى؛ قاله كعب وعكرمة وقتادة. وقيل: أم بذلك لينال بركة الوادي المقدس، وتمس قدماه تربة الوادي؛ قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن وابن جريج. وقيل أمر بخلع النعلين للخشوع والتواضع عند مناجاة الله تعالى. وكذلك فعل السلف حين طافوا بالبيت. وقيل: إعظاما لذلك الموضع كما أن الحرم لا يدخل بنعلين إعظاما له. قال سعيد بن جبير: قيل له طأ الأرض حافيا كما تدخل الكعبة حافيا. والعرف عند الملوك أن تخلع النعال ويبلغ الإنسان إلى غاية التواضع، فكأن موسى عليه السلام أمر بذلك على هذا الوجه، ولا تبالي كانت نعلاه من ميتة أو غيرها. وقد كان مالك لا يرى لنفسه ركوب دابة بالمدينة برا بتربتها المحتوية على الأعظم الشريفة، والجثة الكريمة. ومن هذا المعنى قول عليه الصلاة والسلام لبشير بن الخصاصية وهو يمشي بين القبور بنعليه: (إذا كنت في مثل هذا المكان فاخلع نعليك) قال: فخلعتهما. وقول خامسك إن ذلك عبارة عن تفريغ قلبه من أمر الأهل والولد. وقد يعبر عن الأهل بالنعل. وكذلك هو في التعبير: من رأى أنه لابس نعلين فإنه يتزوج. وقيل: لأن الله تعالى بسط له بساط النور والهدى، ولا ينبغي أن يطأ بساط رب العالمين بنعله. وقد يحتمل أن يكون موسى أمر بخلع نعليه، وكان ذلك أول فرض عليه؛ كما كان أول ما قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم (قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر) [المدثر: 2 - 3 - 4 - 5] والله أعلم بالمراد من ذلك.
في الخبر أن موسى عليه السلام خلع نعليه وألقاهما من وراء الوادي. وقال أبو الأحوص: زار عبدالله أبا موسى في داره، فأقيمت الصلاة فأقام أبو موسى؛ فقال أبو موسى لعبدالله: تقدم. فقال عبدالله: تقدم أنت دارك. فتقدم وخلع نعليه؛ فقال عبدالله: أبا الوادي المقدس أنت؟ ! وفي صحيح مسلم عن سعيد بن يزيد قال: قلت لأنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في نعلين؟ قال نعم. ورواه النسائي عن عبدالله بن السائب: أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فوضع نعليه عن يساره. وروى أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه، إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما حملكم على إلقائكم نعالكم) قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلمك(إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا) وقال: (إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذرا أو أذى فليمسحه وليصل فيهما). صححه أبو محمد عبدالحق. وهو بجمع بين الحديثين قبله، ويرفع بينهما التعارض. ولم يختلف العلماء في جواز الصلاة في النعل إذا كانت طاهرة من ذكي، حتى لقد قال بعض العلماء: إن الصلاة فيهما أفضل، وهو معنى قوله تعالى: "خذوا زينتكم عند كل مسجد" [الأعراف: 31] على ما تقدم. وقال إبراهيم النخعي في الذين يخلعون نعالهم: لوددت أن محتاجا جاء فأخذها.
فإن خلعتهما فاخلعهما بين رجليك؛ فإن أبا هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا صلى أحدكم فليخلع نعليه بين رجليه) قال أبو هريرة للمقبري: أخلعهما بين رجليك ولا تؤذيهما مسلما. وما رواه عبدالله بن السائب رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام خلعهما عن يساره فإنه كان إماما، فإن كنت إماما أو وحدك فافعل ذلك إن أحببت، وإن كنت مأموما في الصف فلا تؤذ بهما من على يسارك، ولا تضعهما بين قدميك فتشغلاك، ولكن قدام قدميك. وروي عن جبير بن مطعم أنه قال: وضع الرجل نعليه بين قدميه بدعة.
فإن تحقق فيهما نجاسة مجمع على تنجيسها كالدم والعذرة من بول بني آدم لم يطهرها إلا الغسل بالماء، عند مالك والشافعي وأكثر العلماء، وإن كانت النجاسة مختلفا فيها كبول الدواب وأرواثها الرطبة فهل يطهرها المسح بالتراب من النعل والخف أو لا؟ قولان عندنا. وأطلق الإجزاء بمسح ذلك بالتراب من غير تفصيل الأوزاعي وأبو ثور. وقال أبو حنيفة: يزيله إذا يبس الحك والفرك، ولا يزيل رطبه إلا الغسل ما عدا البول، فلا يجزئ فيه عنده إلا الغسل. وقال الشافعي: لا يطهر شيئا من ذلك إلا الماء. والصحيح قول من قال: إن المسح يطهره من الخف والنعل؛ لحديث أبي سعيد. فأما لو كانت النعل والخف من جلد ميتة فان كان غير مدبوغ فهو نجس باتفاق، ما عدا ما ذهب إليه الزهري والليث، على ما تقدم بيانه في سورة "النحل" ومضى في سورة "براءة" القول في إزالة النجاسة والحمد لله.
قوله تعالى: "إنك بالوادي المقدس طوى" المقدس: المطهر. والقدس: الطهارة، والأرض المقدسة أي المطهرة؛ سميت بذلك لأن الله تعالى أخرج منها الكافرين وعمرها بالمؤمنين. وقد جعل الله تعالى لبعض الأماكن زيادة فضل على بعض؛ كما قد جعل لبعض الأزمان زيادة فضل على بعض، ولبعض الحيوان كذلك. ولله أن يفضل ما شاء. وعلى هذا فلا اعتبار بكونه مقدسا بإخراج الكافرين وإسكان المؤمنين؛ فقد شاركه في ذلك غيره. و(طوي) اسم الوادي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وقال الضحاك هو واد عميق مستدير مثل الطوي. وقرأ عكرمة "طوى". الباقون "طوى". قال الجوهري: "طوى" اسم موضع بالشام، تكسر طاؤه وتضم، ويصرف ولا يصرف، فمن صرفه جعله اسم واد ومكان وجعله نكرة، ومن لم يصرفه جعله بلدة وبقعة وجعله معرفة. وقال بعضهم: "طوى" مثل "طوى" وهو الشيء المثني، وقالوا في قوله "المقدس طوى": طوي مرتين أي قدس. وقال الحسن: ثنيت فيه البركة والتقديس مرتين. وذكر المهدوي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قيل له "طوى" لأن موسى طواه بالليل إذ مر به فارتفع إلى أعلى الوادي؛ فهو مصدر عمل فيه ما ليس من لفظه، فكأنه قال: (إنك بالواد المقدس) الذي طويته طوى؛ أي تجاوزته فطويته بسيرك. الحسن: معناه أنه قدس مرتين؛ فهو مصدر من طويته طوى أيضا.