تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 385 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 385

385- تفسير الصفحة رقم385 من المصحف
قوله تعالى: "من جاء بالحسنة فله خير منها" قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما: الحسنة لا إله إلا الله. وقال أبو معشر: كان إبراهيم يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ولا يستثني أن الحسنة لا إله إلا الله محمد رسول الله. وقال علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم: غزا رجل فكان إذا خلا بمكان قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له فبينما هو في أرض الروم في أرض جلفاء وبردى رفع صوته فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له فخرج عليه رجل على فرس عليه ثياب بيض فقال له: والذي نفسي بيده إنها الكلمة التي قال الله تعالي: "ومن جاء بالحسنة فله خير منها" وروى أبو ذر قال: قلت يا رسول الله أوصني، قال: (اتق الله وإذا عملت سيئة فأتبعها حسنة تمحها) قال: قلت: يا رسول الله أمن الحسنات لا إله إلا الله ؟ قال: (من أفضل الحسنات) وفي رواية قال: (نعم هي أحسن الحسنات) ذكره البيهقي، وقال قتادة: "من جاء بالحسنة" بالإخلاص والتوحيد. وقيل: أداء الفرائض كلها.
قلت: إذا أتى بلا إله إلا الله على حقيقتها وما يجب لها - على ما تقدم بيانه في سورة "إبراهيم" - فقد أتى بالتوحيد والإخلاص والفرائض.
قوله تعالى: "فله خير منها" قال ابن عباس: أي وصل إليه الخير منها؛ وقاله مجاهد وقيل: فله الجزاء الجميل وهو الجنة وليس "خير" للتفضيل قال عكرمة وابن جريج: أما أن يكون له خير منها يعني من الإيمان فلا فإنه ليس شيء خيرا ممن قال لا إله إلا الله ولكن له منها خير وقيل: "فله خير منها" للتفضيل أي ثواب الله خير من عمل العبد وقوله وذكره، وكذلك رضوان الله خير للعبد من فعل العبد، قاله ابن عباس وقيل: ويرجع هذا إلي الإضعاف فإن الله تعالى يعطيه بالواحدة عشرا؛ وبالإيمان في مدة يسيرة الثواب الأبدي قاله محمد بن كعب وعبدالرحمن بن زيد "وهم من فزع يومئذ آمنون" قرأ عاصم وحمزة والكسائي "فزع يومئذ" بالإضافة. قال أبو عبيد: وهذا أعجب إلي لأنه أعم التأويلين أن يكون الأمن من جميع فزع ذلك اليوم، وإذا قال: "من فزع يومئذ" صار كأنه فزع دون فزع. قال القشيري: وقرئ: "من فزع" بالتنوين ثم قيل يعني به فزعا واحدا كما قال: "لا يحزنهم الفزع الأكبر" [الأنبياء: 103] وقيل: عنى الكثرة لأنه مصدر والمصدر صالح للكثرة.
قلت: فعلى هذا تكون القراءتان بمعنى. قال المهدوي: ومن قرأ: "من فزع يومئذ" بالتنوين انتصب "يومئذ" بالمصدر الذي هو "فزع" ويجوز أن يكون صفة لفزع ويكون متعلقا بمحذوف؛ لأن المصادر يخبر عنها بأسماء الزمان وتوصف بها، ويجوز أن يتعلق باسم الفاعل الذي هو "آمنون". والإضافة على الإتساع في الظروف، ومن حذف التنوين وفتح الميم بناه لأنه ظرف زمان، وليس الإعراب في ظرف الزمان متمكنا، فلما أضيف إلي غير متمكن ولا معرب بني. وأنشد سيبويه:
على حين ألهى الناس جل أمورهم فندلا رزيق المال ندل الثعالب
قوله تعالى: "ومن جاء بالسيئة" أي بالشرك، قاله ابن عباس والنخعي وأبو هريرة ومجاهد وقيس بن سعد والحسن، وهو إجماع من أهل التأويل في أن الحسنة لا إله إلا الله، وأن السيئة الشرك في هذه الآية. "فكبت وجوههم في النار" قال ابن عباس: ألقيت وقال الضحاك: طرحت، ويقال كببت الإناء أي قلبته على وجهه، واللازم من أكب، وقلما يأتي هذا في كلام العرب "هل تجزون" أي يقال لهم هل تجزون ثم يجوز أن يكون من قول الله، ويجوز أن يكون من قول الملائكة "إلا ما كنتم تعملون" أي إلا جزاء أعمالكم.
الآيات: 91 - 93 {إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين، وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين، وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون}
قوله تعالى: "إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها" يعني مكة التي عظم الله حرمتها؛ أي جعلها حرما آمنا؛ لا يسفك فيها دم، ولا يظلم فيها أحد، ولا يصاد فيها صيد، ولا يعضد فيها شجر؛ على ما تقدم بيانه في غير موضع وقرأ ابن عباس: "التي حرمها" نعتا للبلدة وقراءة الجماعة "الذي" وهو في موضع نصب نعت لـ"رب" ولو كان بالألف واللام لقلت المحرِّمِها؛ فإن كانت نعتا للبلدة قلت المحرمة هو؛ لا بد من إظهار المضمر مع الألف واللام؛ لأن الفعل جرى على غير من هول؛ فإن قلت الذي حرمها لم تحتج أن تقول هو. "وله كل شيء" خلقا وملكا "وأمرت أن أكون من المسلمين" أي من المنقادين لأمره، الموحدين له
قوله تعالى: "وأن أتلو القرآن" أي وأمرت أن أتلو القرآن، أي أقرأه "فمن اهتدى" فله هدايته "ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين" فليس على إلا البلاغ نسختها آية القتال. قال النحاس: "وأن أتلو" نصب بأن قال الفراء: وفي إحدى القراءتين "وأنِ اتلُ" وزعم أنه في موضع جزم بالأمر فلذلك حذف منه الواو، قال النحاس: ولا نعرف أحدا قرأ هذه القراءة، وهي مخالفة لجميع المصاحف.
قوله تعالى: "وقل الحمد لله" أي على نعمه وعلى ما هدانا "سيريكم آياته" أي في أنفسكم وفي غيركم كما قال: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم" [فصلت: 53]. "فتعرفونها" أي دلائل قدرته ووحدانيته في أنفسكم وفي السماوات وفي الأرض؛ نظيره قوله تعالى: "وفي الأرض آيات للموقنين. وفي أنفسكم أفلا تبصرون" [الذاريات: 21]. قرأ أهل المدينة وأهل الشام وحفص عن عاصم بالتاء على الخطاب؛ لقوله: "سيريكم آياته فتعرفونها "فيكون الكلام على نسق واحد. الباقون بالياء على أن يرد إلى ما قبله "فمن اهتدى" فأخبر عن تلك الآية.
سورة القصص
مقدمة السورة
مكية إلا من آية 52 إلي 55 فمدنية وآية 85 فبالجحفة أثناء الهجرة وآياتها 88 نزلت بعد النمل مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وقال ابن عباس وقتادة إلا آية نزلت بين مكة والمدينة وقال ابن سلام: بالجحفة في وقت، هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهي قوله عز وجل: "إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد" [القصص: 85] وقال مقاتل: فيها من المدني "الذين آتيناهم الكتاب" [البقرة: 121] إلى قوله: "لا نبتغي الجاهلين" [القصص: 55] وهي ثمان وثمانون آية.
الآيات: 1 - 6 {طسم، تلك آيات الكتاب المبين، نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون، إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين، ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين، ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون}
قوله تعالى: "طسم" تقدم الكلام فيه. "تلك آيات الكتاب المبين" "تلك" في موضع رفع بمعنى هذه تلك و"آيات" بدل منها. ويجوز أن يكون في موضع نصب بـ "نتلو" و"آيات" بدل منها أيضا؛ وتنصبها كما تقول: زيدا ضربت و"المبين" أي المبين بركته وخيره، والمبين الحق من الباطل، والحلال من الحرام، وقصص الأنبياء، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ يقال: بان الشيء وأبان اتضح. "نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون" ذكر قصة موسى عليه السلام وفرعون وقارون، واحتج على مشركي قريش، وبين أن قرابة قارون من موسى لم تنفعه مع كفره، وكذلك قرابة قريش لمحمد، وبين أن فرعون علا في الأرض وتجبر، فكان ذلك من كفره، فليجتنب العلو في الأرض، وكذلك التعزز بكثرة المال، وهما من سيرة فرعون وقارون "نتلو عليك" أي يقرأ عليك جبريل بأمرنا "من نبأ موسى وفرعون" أي من خبرهما و"من" للتبعيض و"من نبأ" مفعول "نتلو" أي نتلو عليك بعض خبرهما؛ كقوله تعالى: "تنبت بالدهن" [المؤمنون: 20] ومعنى: "بالحق" أي بالصدق الذي لا ريب فيه ولا كذب "لقوم يؤمنون" أي يصدقون بالقرآن ويعلمون أنه من عند الله؛ فأما من لم يؤمن فلا يعتقد أنه حق
قوله تعالى: "إن فرعون علا في الأرض" أي استكبر وتجبر؛ قاله ابن عباس والسدي وقال قتادة: علا في نقسه عن عبادة ربه بكفره وادعى الربوبية وقيل: بملكه وسلطانه فصار عاليا على من تحت يده "في الأرض" أي أرض مصر "وجعل أهلها شيعا" أي فرقا وأصنافا في الخدمة قال الأعشى:
وبلدة يرهب الجواب دجلتها حتى تراه عليها يبتغى الشيعا
"يستضعف طائفة منهم" أي من بني إسرائيل "يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم" تقدم القول في هذا في "البقرة" عند قوله: "يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم" [البقرة: 49] الآية؛ وذلك لأن الكهنة قالوا له: إن مولودا يولد في بني إسرائيل يذهب ملكك على يديه، أو قال المنجمون له ذلك، أو رأى رؤيا فعبرت كذلك قال الزجاج: العجب من حمقه لم يدر أن الكاهن إن صدق فالقتل لا ينفع، وإن كذب فلا معنى للقتل وقيل: جعلهم شيعا فاستسخر كل قوم من بني إسرائيل في شغل مفرد "إنه كان من المفسدين" أي في الأرض بالعمل والمعاصي والتجبر.
قوله تعالى: "ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض" أي نتفضل عليهم وننعموهذه حكاية مضت "ونجعلهم أئمة" قال ابن عباس: قادة في الخير مجاهد: دعاة إلى الخير. قتادة: ولاة وملوكا؛ دليله قوله تعالى: "وجعلكم ملوكا" [المائدة: 20]
قلت: وهذا أعم فإن الملك إمام يؤتم به ومقتدى به.
"ونجعلهم الوارثين" لملك فرعون؛ يرثون ملكه، ويسكنون مساكن القبط وهذا معنى قوله تعالى: "وتمت كلمة ربك الحسني على بني إسرائيل بما صبروا" [الأعراف: 137]
قوله تعالى: "ونمكن لهم في الأرض" أي نجعلهم مقتدرين على الأرض وأهلها حتى يُستولى عليها؛ يعني أرض الشام ومصر "ونري فرعون وهامان وجنودهما" أي ونريد أن نري فرعون وقرأ الأعمش ويحيى وحمزة والكسائي وخلف: "ويرى" بالياء على أنه فعل ثلاثي من رأى "فرعون وهامان وجنودهما" رفعا لأنه الفاعل الباقون "نري" بضم النون وكسر الراء على أنه فعل وباعي من أري يري، وهي علي نسق الكلام؛ لأن قبله "ونريد" وبعده "ونمكن" "فرعون وهامان وجنودهما" نصبا بوقوع الفعل وأجاز الفراء "ويُرِيَ فرعون" بضم الياء وكسر الراء وفتح الياء ويري الله فرعون "منهم ما كانوا يحذرون" وذلك أنهم أخبروا أن هلاكهم على يدي رجل من بني إسرائيل فكانوا على وجل "منهم" فأراهم الله "ما كانوا يحذرون" قال قتاد: كان حازيا لفرعون ـ والحازي المنجم ـ قال إنه سيولد في هذه السنة مولود يذهب بملكك؛ فأمر فرعون بقتل الولدان في تلك السنة وقد تقدم