تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 396 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 396

396- تفسير الصفحة رقم396 من المصحف
الآيات: 85 - 88 {إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين، وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين، ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين، ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون}
قوله تعالى: "إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد" ختم السورة ببشارة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم برده إلى مكة قاهرا لأعدائه وقيل: هو بشارة له بالجنة والأول أكثر وهو قول جابر بن عبدالله وابن عباس ومجاهد وغيرهم قال القتبي: معاد الرجل بلده لأنه ينصرف ثم يعود وقال مقاتل: خرج النبي صلى الله عليه وسلم من الغار ليلا مهاجرا إلى المدينة في غير طريق مخافة الطلب، فلما رجع إلى الطريق ونزل الجحفة عرف الطريق إلى مكة فاشتاق إليها فقال له جبريل إن الله يقول: "إن الذي فرض عليك القرآن لرداك إلي معاد" أي إلى مكة ظاهرا عليها قال ابن عباس: نزلت هذه الآية بالجحفة ليست مكية ولا مدنية وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس "إلي معاد" قال: إلي الموت وعن مجاهد أيضا وعكرمة والزهري والحسن: إن المعنى لرداك إلي يوم القيامة، وهو اختيار الزجاج يقال: بيني وبينك المعاد؛ أي يوم القيامة؛ لأن الناس يعودون فيه أحياء "وفرض" معناه أنزل وعن مجاهد أيضا وأبي مالك وأبي صالح: "إلى معاد "إلي الجنة وهو قول أبي سعيد الخدري وابن عباس أيضا؛ لأنه دخلها ليلة الإسراء وقيل: لأن أباه آدم خرج منها. "قل ربي أعلم" أي قل لكفار مكة إذا قالوا إنك لفي ضلال مبين "ربي أعلم من جاء بالهدي ومن وهو في ضلال مبين" أنا أم أنتم.
قوله تعالى: "وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب" أي ما علمت أننا نرسلك إلي الخلق وننزل عليك القرآن. "إلا رحمة من ربك" قال الكسائي: هو استثناء منقطع بمعنى لكن. "فلا تكونن ظهيرا للكافرين" أي عونا لهم ومساعدا. وقد تقدم في هذه السورة.
قوله تعالى: "ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك" يعني أقوالهم وكذبهم وأذاهم، ولا تلتفت نحوهم وامض لأمرك وشأنك وقرأ يعقوب: "يصدنك" مجزوم النون وقرئ: "يصدك" من أصده بمعنى صدره وهى لغة في كلب قال الشاعر:
أناس أصدرا الناس بالسيف عنهم صدود السواقي عن أنوف الحوائم "وادع إلى ربك" أي إلى التوحيد وهذا يتضمن المهادنة والموادعة وهذا كله منسوخ بآية السيف وسبب هذه الآية ما كانت قريش تدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تعظيم أوثانهم، وعند ذلك ألقى الشيطان في أمنيته أم الغرانيق على ما تقدم والله أعلم. "ولا تدع مع الله إلها آخر" أي لا تعبد معه غيره فإنه لا إله إلا هو نفي لكل معبود وإثبات لعبادته. "كل شيء هالك إلا وجهه" قال مجاهد: معناه إلا هو وقال الصادق: دينه وقال أبو العالية وسفيان: أي إلا ما أريد به وجهه؛ أي ما يقصد إليه بالقربة قال:
أستغفر الله ذنبا لست محصيه رب العباد إليه الوجه والعمل
وقال محمد بن يزيد: حدثني الثوري قال سألت أبا عبيدة عن قوله تعالى: "كل شيء هالك إلا وجهه" فقال: إلا جاهه، كما تقول لفلان وجه في الناس أي جاه. "له الحكم" في الأولى والآخرة "وإليه ترجعون". قال الزجاج: "وجهه" منصوب على الاستثناء، ولو كان في غير القرآن كان إلا وجهه بالرفع، بمعنى كل شيء غير وجهه هالك كما قال:
وكل أخ مفارقة أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان
والمعنى كل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه. "وإليه ترجعون" بمعنى ترجعون إليه.
سورة العنكبوت
مقدمة السورة
مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. ومدنية كلها في أحد قولي ابن عباس وقتادة. وفي القول الآخر لهما وهو قول يحيى بن سلام أنها مكية إلا عشر آيات من أولها، فإنها نزلت بالمدينة في شأن من كان من المسلمين بمكة وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: نزلت بين مكة والمدينة وهي تسع وستون آية.
الآيات: 1 - 3 {الم، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين}
قوله تعالى: "الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون" تقدم القول فيها. وقال ابن عباس [في قوله: "الم"]: المعنى أنا الله أعلم. وقيل: هو اسم للسورة. وقيل: اسم للقرآن. "أحسب" استفهام أريد به التقرير والتوبيخ ومعناه الظن "أن يتركوا" في موضع نصب بـ "حسب" وهي وصلتها مقام المفعولين على قول سيبويه و" أن" الثانية من "أن يقولوا" في موضع نصب على إحدى جهتين بمعنى لأن يقولوا أو بأن يقولوا أو على أن يقولوا والجهة الأخرى أن يكون على التكرير؛ والتقدير "الم أحسب الناس أن يتركوا" أحسبوا "أن يقولوا آمنا وهم يفتنون" قال ابن عباس وغيره: يريد بالناس قوما من المؤمنين كانوا بمكة وكان الكفار من قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإسلام؛ كسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وعمار بن ياسر وياسر أبوه وسمية أمه وعدة من بني مخزوم وغيرهم فكانت صدورهم تضيق لذلك وربما استنكر أن يمكن الله الكفار من المؤمنين؛ قال مجاهد وغيره: فنزلت هذه الآية مسلية ومعلمة أن هذه هي سيرة الله في عباده اختبارا للمؤمنين وفتنة قال ابن عطية: وهذه الآية وإن كانت نزلت بهذا السبب أو ما في معناه من الأقوال فهي باقية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم موجود حكمها بقية الدهر وذلك أن الفتنة من الله تعالى باقية في ثغور المسلمين بالأسر ونكاية العدو وغير ذلك وإذا أعتبر أيضا كل موضع ففيه ذلك بالأمراض وأنواع المحن ولكن التي تشبه نازلة المسلمين مع قريش هي ما ذكرناه من أمر العدو في كل ثغر
قلت: ما أحسن ما قال ولقد صدق فيما قال رضي الله عنه وقال مقاتل: نزلت في مهجع مولى عمر بن الخطاب كان أول قتيل من المسلمين يوم بدر؛ رماه عامر بن الحضرمي بسهم فقتله فقال النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ: (سيد الشهداء مهجع وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة) فجزع عليه أبواه وامرأته فنزلت: "ألم أحسب الناس أن يتركوا" وقال الشعبي: نزل مفتتح هذه السورة في أناس كانوا بمكة من المسلمين فكتب إليهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية أنه لا يقبل منكم إقرار الإسلام حتى تهاجروا فخرجوا فأتبعهم المشركون فآذوهم فنزلت فيهم هذه الآية: "ألم أحسب الناس أن يتركوا" فكتبوا إليهم نزلت فيكم آية كذا فقالوا: نخرج وإن اتبعنا أحد قاتلناه؛ فاتبعهم المشركون فقاتلوهم فمنهم من قتل ومنهم من نجا فنزل فيهم: "ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا" [النحل:110] "وهم لا يفتنون" يمتحنون؛ أي أظن الذين جزعوا من أذى المشركين أن يُقنع منهم أن يقولوا إنا مؤمنون ولا يمتحنون في إيمانهم وأنفسهم وأموالهم بما يتبين به حقيقة إيمانهم
قوله تعالى: "ولقد فتنا الذين من قبلهم" أي ابتلينا الماضين كالخليل ألقي في النار وكقوم نشروا بالمناشير في دين الله فلم يرجعوا عنه وروى البخاري عن خباب بن الأرت: قالوا شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا له: ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو لنا فقال: (قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد لحمه وعظمه فما يصرفه ذلك عن دينه والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون) وخرج ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك فوضعت يدي عليه فوجدت حره بين يدي فوق اللحاف فقلت: يا رسول الله ما أشدها عليك قال: (إنا كذلك يضعف لنا البلاء ويضعف لنا الأجر) قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال (الأنبياء) وقلت: ثم من قال (ثم الصالحون إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يحوبها وأن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء) وروى سعد بن أبي وقاص قال: قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء ؟ قال (الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلبا أشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة أبتلي على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه من خطيئة) وروى عبدالرحمن بن زيد أن عيسى عليه السلام كان له وزير فركب يوما فأخذه السبع فأكله فقال عيسى: يا رب وزيري في دينك وعوني على بني إسرائيل وخليفتي فيهم سلطت عليه كلبا فأكله قال: (نعم كانت له عندي منزلة رفيعة لم أجد عمله يبلغها فابتليته بذلك لأبلغه تلك المنزلة) وقال وهب: قرأت في كتاب رجل من الحواريين: إذ سلك بك سبيل البلاء فقر عينا فإنه سلك بك سبيل الأنبياء والصالحين وإذا سلك بك سبيل الرخاء فابك على نفسك فقد خولف بك عن سبيلهم
قوله تعالى: "فليعلمن الله الذين صدقوا" أي فليرين الله الذين صدقوا في إيمانهم وقد مضى هذا المعنى في "البقرة" وغيرها قال الزجاج: ليعلم صدق الصادق بوقوع صدقه منه وقد علم الصادق من الكاذب قبل أن يخلقهما ولكن القصد قصد وقوع العلم بما يجازى عليه وإنما يعلم صدق الصادق واقعا كائنا وقوعه وقد علم أنه سيقع وقال النحاس: فيه قولان - أحدهما - أن يكون "صدقوا" مشتقا من الصدق و"الكاذبين" مشتقا من الكذب الذي هو ضد الصدق ويكون المعنى؛ فليبينن الله والذين صدقوا فقالوا نحن مؤمنون واعتقدوا مثل ذلك والذين كذبوا حين اعتقدوا غير ذلك والقول الآخر أن يكون صدقوا مشتقا من الصدق وهي الصلب والكاذبين مشتقا من كذب إذا انهزم فيكون المعنى؛ فليعلمن الله الذين ثبتوا في الحرب والذين انهزموا؛ كما قال الشاعر:
ليثٌ بِعَثَّرَ يصطاد الرجالَ إذا ما الليث كذب عن أقرانه صدقا
فجعل "ليعلمن" في موضع فليبينن مجازا وقراءة الجماعة: "فليعلمن" بفتح الياء واللام وقرأ علي بن أبي طالب بضم الياء وكسر اللام وهي تبين معنى ما قال النحاس ويحتمل ثلاثة معان: الأول: أن يعلم في الآخرة هؤلاء الصادقين والكاذبين بمنازلهم من ثوابه وعقابه وبأعمالهم في الدنيا؛ بمعنى يوقفهم على ما كان منهم الثاني: أن يكون المفعول الأول محذوفا تقديره؛ فليعلمن الناس والعالم هؤلاء الصادقين والكاذبين أي يفضحهم ويشتهرهم؛ هؤلاء في الخير وهؤلاء في الشر وذلك في الدنيا والآخرة: الثالث أن يكون ذلك من العلامة؛ أي يضع لكل طائفة علامة يشتهر بها فالآية على هذا تنظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أسر سريرة ألبسه الله رداءها)
الآيات: 4 - 7 {أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون، من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم، ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين، والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون}
قوله تعالى: "أم حسب الذين يعملون السيئات" أي الشرك. "أن يسبقونا" أي يفوتونا ويعجزونا قبل أن نؤاخذهم بما يفعلون. قال ابن عباس: يريد الوليد بن المغيرة وأبا جهل والأسود والعاص بن هشام وشيبة وعتبة والوليد بن عتبة وعقبة بن أبي معيط وحنظلة بن أبي سفيان والعاص بن وائل. "ساء ما يحكمون" أي بئس الحكم ما حكموا في صفات ربهم أنه مسبوق والله القادر على كل شيء و"ما" في موضع نصب بمعنى ساء شيئا أو حكما يحكمون ويجوز أن تكون "ما" في موضع رفع بمعنى ساء الشيء أو الحكم حكمهم وهذا قول الزجاج وقدرها ابن كيسان تقديرين آخرين خلاف ذينك: أحدهما: أن يكون موضع "ما يحكمون" بمنزلة شيء واحد كما تقول: أعجبني ما صنعت؛ أي صنيعك؛ فـ "ما" والفعل مصدر في موضع رفع التقدير؛ ساء حكمهم والتقدير الآخر أن تكون "ما" لا موضع لها من الإعراب وقد قامت مقام الاسم لساء وكذلك نعم وبئس قال أبو الحسن بن كيسان: وأنا أختار أن أجعل لـ "ما" موضعا في كل ما أقدر عليه؛ نحو قوله عز وجل: "فبما رحمة من الله" [آل عمران: 159] وكذا "فبما نقضهم" [المائدة: 13] وكذا "أيما الأجلين قضيت" [القصص: 28] "ما" في موضع خفض في هذا كله وما بعده تابع لها وكذا؛ "إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة" [البقرة: 26] "ما" في موضع نصب و"بعوضة" تابع لها.
قوله تعالى: "من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت" "يرجو" بمعنى يخاف من قول الهذلي في وصف عسال:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها
وأجمع أهل التفسير على أن المعنى: من كان يخاف الموت فليعمل عملا صالحا فإنه لا بد أن يأتيه؛ ذكره النحاس قال الزجاج: معنى "يرجو لقاء الله" ثواب الله و"من" في موضع رفع بالابتداء و"كان" في موضع الخبر وهي في موضع جزم بالشرط و"يرجو" في موضع خبر كان والمجازاة "فإن أجل الله لآت" "وهو السميع العليم".
قوله تعالى: "ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه" أي ومن جاهد في الدين وصبر على قتال الكفار وأعمال الطاعات فإنما يسعى لنفسه؛ أي ثواب ذلك كله له؛ ولا يرجع إلى الله نفع من ذلك. "إن الله لغني عن العالمين" أي عن أعمالهم وقيل: المعنى؛ من جاهد عدوه لنفسه لا يريد وجه الله فليس لله حاجة بجهاده
قوله تعالى: "والذين آمنوا وعملوا الصالحات" أي صدقوا "لنكفرن عنهم سيئاتهم" أي لنغطينها عنهم بالمغفرة لهم "ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون" أي بأحسن أعمالهم وهو الطاعات ثم قيل: يحتمل أن تكفر عنهم كل معصية عملوها في الشرك ويثابوا على ما عملوا من حسنة في الإسلام ويحتمل أن تكفر عنهم سيئاتهم في الكفر والإسلام ويثابوا على حسناتهم في الكفر والإسلام