تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 440 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 440

440- تفسير الصفحة رقم440 من المصحف
الآية: 45 {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصير}
قوله تعالى: "ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا" يعني من الذنوب. "ما ترك على ظهرها من دابة" قال ابن مسعود: يريد جميع الحيوان مما دب ودرج. قال قتادة: وقد فعل ذلك ومن نوح عليه السلام. وقال الكلبي: "من دابة" يريد الجن والإنس دون غيرهما؛ لأنهما مكلفان بالعقل. وقال ابن جرير والأخفش والحسين بن الفضل: أراد بالدابة هنا الناس هنا وحدهم دون غيرهم.
قلت: والأول أظهر؛ لأنه عن صحابي كبير. قال ابن مسعود: كاد الجعل أن يعذب في حجره بذنب ابن آدم. وقال يحيى بن أبي كثير: أمر رجل بالمعروف ونهى عن المنكر، فقال له رجل: عليك بنفسك فإن الظالم لا يضر إلا نفسه. فقال أبو هريرة: كذبت؟ والله الذي لا إله إلا هو ثم قال والذي نفسي بيده إن الحبارى لتموت هزلا في وكرها بظلم الظالم. وقال الثمالي ويحيى بن سلام في هذه الآية: يحبس الله المطر فيهلك كل شيء. وقد مضى في "البقرة" نحو هذا عن عكرمة ومجاهد في تفسير "ويلعنهم اللاعنون" هم الحشرات والبهائم يصيبهم الجدب بذنوب علماء السوء الكاتمين فيلعنونهم. وذكرنا هناك حديث البراء بن عازب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "ويلعنهم اللاعنون" قال: (دواب الأرض). "ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم" قال مقاتل: الأجل المسمى هو ما وعدهم في اللوح المحفوظ. وقال يحيى: هو يوم القيامة. "فإن الله كان بعباده" أي بمن يستحق العقاب منهم "بصيرا" ولا يجوز أن يكون العامل في "إذا" "بصيرا" كما لا يجوز: اليوم إن زيدا خارج. ولكن العامل فيها "جاء" لشبهها بحروف المجازاة، والأسماء التي يجازى بها يعمل فيها ما بعدها. وسيبويه لا يرى المجازاة بـ "إذا" إلا في الشعر، كما قال:
إذا قصرت أسيافنا كان وصلها خطانا إلى أعدائنا فنضارب
ختمت سورة "فاطر" والحمد لله.
سورة يس
مقدمة السورة
وهي مكية بإجماع. وهي ثلاث وثمانون آية؛ إلا أن فرقة قالت: إن قوله تعالى "ونكتب ما قدموا وآثارهم" [يس: 12] نزلت في بني سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم، وينتقلوا إلى جوار مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، على ما يأتي. وفي كتاب أبي داود عن معقل بن يسار قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرؤوا يس على موتاكم). وذكر الآجري من حديث أم الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من ميت يقرأ عليه سورة يس إلا هون الله عليه. وفي مسند الدارمي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ سورة يس في ليلة ابتغاء وجه الله غفر له في تلك الليلة) خرجه أبو نعيم الحافظ أيضا. وروى الترمذي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس ومن قرأ يس كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات) قال: هذا حديث غريب، وفي إسناده هارون أبو محمد شيخ مجهول؛ وفي الباب عن أبي بكر الصديق، ولا يصح حديث أبي بكر من قبل إسناده، وإسناده ضعيف. وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن في القرآن لسورة تشفع لقرائها ويغفر لمستمعها ألا وهي سورة يس تدعى في التوراة المعمة) قيل: يا رسول الله وما المعمة؟ قال: (تعم صاحبها بخير الدنيا وتدفع عنه أهاويل الآخرة وتدعى الدافعة والقاضية) قيل: يا رسول الله وكيف ذلك؟ قال: (تدفع عن صاحبها كل سوء وتقضي له كل حاجة ومن قرأها عدلت له عشرين حجة ومن سمعها كانت له كألف دينار تصدق بها في سبيل الله ومن كتبها وشربها أدخلت جوفه ألف دواء وألف نور وألف يقين وألف رحمة وألف رأفة وألف هدى ونزع عنه كل داء وغل). ذكره الثعلبي من حديث عائشة، والترمذي الحكيم في نوادر الأصول من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه مسندا. وفي مسند الدارمي عن شهر بن حوشب قال: قال ابن عباس: من قرأ "يس" حين يصبح أعطي يسر يومه حتى يمسي ومن قرأها في صدر ليلته أعطي يسر ليلته حتى يصبح. وذكر النحاس عن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال: لكل شيء قلب وقلب القرآن يس من قرأها نهارا كفي همه ومن قرأها ليلا غفر ذنبه. وقال شهر بن حوشب: يقرأ أهل الجنة "طه" و"يس" فقط.
رفع هذه الأخبار الثلاثة الماوردي فقال: روى الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لكل شيء قلبا وإن قلب القرآن يس ومن قرأها في ليلة أعطي يسر تلك الليلة ومن قرأها في يوم أعطي يسر ذلك اليوم وإن أهل الجنة يرفع عنهم القرآن فلا يقرؤون شيئا إلا طه ويس). وقال يحيى بن أبي كثير: بلغني أن من قرأ سورة "يس" ليلا لم يزل في فرح حتى يصبح، ومن قرأها حين يصبح لم يزل في فرح حتى يمسي؛ وقد حدثني من جربها؛ ذكره الثعلبي وابن عطية، قال ابن عطية: ويصدق ذلك التجربة. وذكر الترمذي الحكيم في نوادر الأصول عن عبدالأعلى قال: حدثنا محمد بن الصلت عن عمر بن ثابت عن محمد بن مروان عن أبي جعفر قال: من وجد في قلبه قساوة فليكتب "يس" في جام بزعفران ثم يشربه؛ حدثني أبي رحمه الله قال: حدثنا أصرم بن حوشب، عن بقية بن الوليد، عن المعتمر بن أشرف، عن محمد بن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (القرآن أفضل من كل شيء دون الله وفضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه فمن وقر القرآن فقد وقر الله ومن لم يوقر القرآن لم يوقر الله وحرمة القرآن عند الله كحرمة الوالد على ولده. القرآن شافع مشفع وما حل مصدق فمن شفع له القرآن شفع ومن محل به القرآن صُدق ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار. وحملة القرآن هم المحفوفون بحرمة الله الملبسون نور الله المعلمون كلام الله من والاهم فقد والى الله ومن عاداهم فقد عادى الله، يقول الله تعالى: يا حملة القرآن استجيبوا لربكم بتوقير كتابه يزدكم حبا ويحببكم إلى عباده يدفع عن مستمع القرآن بلوى الدنيا ويدفع عن تالي القرآن بلوى الآخرة ومن استمع آية من كتاب الله كان له أفضل مما تحت العرش إلى التخوم وإن في كتاب الله لسورة تدعى العزيزة ويدعى صاحبها الشريف يوم القيامة تشفع لصاحبها في أكثر من ربيعة ومضر وهي سورة يس). وذكر الثعلبي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ سورة يس ليلة الجمعة أصبح مغفورا له). وعن أنس أن رسول الله صلى قال: (من دخل المقابر فقرأ سورة يس خفف الله عنهم يومئذ وكان له بعدد حروفها حسنات).
الآية: 1 - 5 {يس، والقرآن الحكيم، إنك لمن المرسلين، على صراط مستقيم، تنزيل العزيز الرحيم}
قوله تعالى: "يس" في "يس" أوجه من القراءات: قرأ أهل المدينة والكسائي "يس والقرآن الحكيم" بإدغام النون في الواو. وقرأ أبو عمرو والأعمش وحمزة "يس" بإظهار النون. وقرأ عيسى بن عمر "يسن" بنصب النون. وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم "يسن" بالكسر. وقرأ هارون الأعور ومحمد بن السميقع "يسن" بضم النون؛ فهذه خمس قراءات. القراءة الأولى بالإدغام على ما يجب في العربية؛ لأن النون تدغم في الواو. ومن بين قال: سبيل حروف الهجاء أن يوقف عليها، وإنما يكون الإدغام في الإدراج. وذكر سيبويه النصب وجعله من جهتين: إحداهما أن يكون مفعولا ولا يصرفه؛ لأنه عنده اسم أعجمي بمنزلة هابيل، والتقدير أذكر يسين. وجعله سيبويه اسما للسورة. وقوله الآخر أن يكون مبنيا على الفتح مثل كيف وأين. وأما الكسر فزعم الفراء أنه مشبه بقول العرب جير لا أفعل، فعلى هذا يكون "يسن" قسما. وقاله ابن عباس. وقيل: مشبه بأمس وحذام وهؤلاء ورقاش. وأما الضم فمشبه بمنذ وحيث وقط، وبالمنادى المفرد إذا قلت يا رجل، لمن يقف عليه. قال ابن السميقع وهارون: وقد جاء في تفسيرها رجل فالأولى بها الضم. قال ابن الأنباري" "يس" وقف حسن لمن قال هو افتتاح للسورة. ومن قال: معنى "يس" يا رجل لم يقف عليه. وروي عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما أن معناه يا إنسان، وقالوا في قوله تعالى: "سلام على إل ياسين" [الصافات: 130] أي على آل محمد. وقال سعيد بن جبير: هو اسم من أسماء محمد صلى الله عليه وسلم؛ ودليله "إنك لمن المرسلين ". قال السيد الحميري:
يا نفس لا تمحضي بالنصح جاهدة على المودة إلا آل ياسين
وقال أبو بكر الوراق: معناه يا سيد البشر. وقيل: إنه اسم من أسماء الله؛ قال مالك. روى عنه أشهب قال: سألته هل ينبغي لأحد أن يتسمى بياسين؟ قال: ما أراه ينبغي لقول الله: "يس والقرآن الحكيم" يقول هذا اسمي يس. قال ابن العربي هذا كلام بديع، وذلك أن العبد يجوز له أن يتسمى باسم الرب إذا كان فيه معنى منه؛ كقوله: عالم وقادر ومريد ومتكلم. وإنما منع مالك من التسمية بـ "يسين"؛ لأنه اسم من أسماء الله لا يدرى معناه؛ فربما كان معناه ينفرد به الرب فلا يجوز أن يقدم عليه العبد. فإن قيل فقد قال الله تعالى: "سلام على إل ياسين" [الصافات: 130] قلنا: ذلك مكتوب بهجاء فتجوز التسمية به، وهذا الذي ليس بمتهجى هو الذي تكلم مالك عليه؛ لما فيه من الإشكال؛ والله أعلم. وقال بعض العلماء: افتتح الله هذه السورة بالياء والسين وفيهما مجمع الخير: ودل المفتتح على أنه قلب، والقلب أمير على الجسد؛ وكذلك "يس" أمير على سائر السور، مشتمل على جميع القرآن. ثم اختلفوا فيه أيضا؛ فقال سعيد بن جبير وعكرمة: هو بلغة الحبشة. وقال الشعبي: هو بلغة طي. الحسن: بلغة كلب. الكلبي: هو بالسريانية فتكلمت به العرب فصار من لغتهم. وقد مضى هذا المعنى في "طه" وفي مقدمة الكتاب مستوفى. وقد سرد القاضي عياض أقوال المفسرين في معنى "يس" فحكى أبو محمد مكي أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لي عند ربي عشرة أسماء) ذكر أن منها طه ويس اسمان له.
قلت: وذكر الماوردي عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله تعالى أسماني في القرآن سبعة أسماء محمد وأحمد وطه ويس والمزمل والمدثر وعبدالله) قاله القاضي. وحكى أبو عبدالرحمن السلمي عن جعفر الصادق أنه أراد يا سيد، مخاطبة لنبيه صلى الله عليه وسلم وعن ابن عباس: "يس" يا إنسان أراد محمدا صلى الله عليه وسلم. وقال: هو قسم وهو من أسماء الله سبحانه. وقال الزجاج: قيل معناه يا محمد وقيل يا رجل وقيل يا إنسان. وعن ابن الحنفية: "يس" يا محمد. وعن كعب: "يس" قسم أقسم الله به قبل أن يخلق السماء والأرض بألفي عام قال يا محمد: "إنك لمن المرسلين" ثم قال: "والقرآن الحكيم". فإن قدر أنه من أسمائه صلى الله عليه وسلم، وصح فيه أنه قسم كان فيه من التعظيم ما تقدم، مؤكد فيه القسم عطف القسم الآخر عليه. وإن كان بمعنى النداء فقد جاء قسم آخر بعده لتحقيق رسالته والشهادة بهدايته. أقسم الله تعالى باسمه وكتابه أنه لمن المرسلين بوحيه إلى عباده، وعلى صراط مستقيم من إيمانه؛ أي طريق لا أعوجاج فيه ولا عدول عن الحق. قال النقاش: لم يقسم الله تعالى لأحد من أنبيائه بالرسالة في كتابه إلا له، وفيه من تعظيمه وتمجيده على تأويل من قال إنه يا سيد ما فيه، وقد قال عليه السلام: (أنا سيد ولد آدم) انتهى كلامه. وحكى القشيري قال ابن عباس: قالت كفار قريش لست مرسلا وما أرسلك الله إلينا؛ فأقسم الله بالقرآن المحكم أن محمدا من المرسلين. "الحكيم" المحكم حتى لا يتعرض لبطلان وتناقض؛ كما قال: "أحكمت آياته" [هود: 1]. وكذلك أحكم في نظمه ومعانيه فلا يلحقه خلل. وقد يكون "الحكيم" في حق الله بمعنى المحكم بكسر الكاف كالأليم بمعنى المؤلم. "على صراط مستقيم" أي دين مستقيم وهو الإسلام. وقال الزجاج: على طريق الأنبياء الذين تقدموك؛ وقال: "إنك لمن المرسلين" خبر إن، و"على صراط مستقيم" خبر ثان، أي إنك لمن المرسلين، وإنك على صراط مستقيم. وقيل: المعنى لمن المرسلين على استقامة؛ فيكون قوله: "على صراط مستقيم" من صلة المرسلين؛ أي إنك لمن المرسلين الذين أرسلوا على طريقة مستقيمة؛ كقوله تعالى: "وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم. صراط الله" أي الصراط الذي أمر الله به.
قوله تعالى: "تنزيل العزيز الرحيم" قرأ ابن عامر وحفص والأعمش ويحيى وحمزة والكسائي وخلف: "تنزيل" بنصب اللام على المصدر؛ أي نزل الله ذلك تنزيلا. وأضاف المصدر فصار معرفة كقوله: "فضرب الرقاب" [محمد: 4] أي فضربا للرقاب. الباقون "تنزيل" بالرفع على خبر ابتداء محذوف أي هو تنزيل، أو الذي أنزل إليك تنزيل العزيز الرحيم. هذا وقرئ: "تنزيل" بالجر على البدل من "القرآن" والتنزيل يرجع إلى القرآن. وقيل: إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي إنك لمن المرسلين، وإنك "تنزيل العزيز الرحيم". فالتنزيل على هذا بمعنى الإرسال؛ قال الله تعالى: "قد أنزل الله إليكم ذكرا. رسولا يتلوا عليكم" [الطلاق:11] ويقال: أرسل الله المطر وأنزله بمعنى. ومحمد صلى الله عليه وسلم رحمة الله أنزلها من السماء. ومن نصب قال: إنك لمن المرسلين إرسالا من العزيز الرحيم. و"العزيز" المنتقم ممن خالفه "الرحيم" بأهل طاعته.
الآية: 6 - 8 {لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون، لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون، إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون}
قوله تعالى: "لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم" "ما" لا موضع لها من الإعراب عند أكثر أهل التفسير، منهم قتادة؛ لأنها نفي والمعنى: لتنذر قوما ما أتى آباءهم قبلك نذير. وقيل: هي بمعنى الذي فالمعنى: لتنذرهم مثل ما أنذر آباؤهم؛ قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة أيضا. وقيل: إن "ما" والفعل مصدر؛ أي لتنذر قوما إنذار آبائهم. ثم يجوز أن تكون العرب قد بلغتهم بالتواتر أخبار الأنبياء؛ فالمعنى لم ينذروا برسول من أنفسهم. ويجوز أن يكون بلغهم الخبر ولكن غفلوا وأعرضوا ونسوا. ويجوز أن يكون هذا خطابا لقوم لم يبلغهم خبر نبي، وقد قال الله: "وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير" [سبأ: 44] وقال: "لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون" [السجدة: 3] أي لم يأتهم نبي. وعلى قول من قال بلغهم خبر الأنبياء، فالمعنى فهم معرضون الآن متغافلون عن ذلك، ويقال للمعرض عن الشيء إنه غافل عنه. وقيل: "فهم غافلون" عن عقاب الله.
قوله تعالى: "لقد حق القول على أكثرهم" أي وجب العذاب على أكثرهم "فهم لا يؤمنون" بإنذارك. وهذا فيمن سبق في علم الله أنه يموت على كفره. ثم بين سبب تركهم الإيمان فقال: "إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا". قيل: نزلت في أبي جهل بن هشام وصاحبيه المخزوميين؛ وذلك أن أبا جهل حلف لئن رأى محمدا يصلي ليرضخن رأسه بحجر؛ فلما رآه ذهب فرفع حجرا ليرميه، فلما أومأ إليه رجعت يده إلى عنقه، والتصق الحجر بيده؛ قاله ابن عباس وعكرمة وغيرهما؛ فهو على هذا تمثيل أي هو بمنزلة من علت يده إلى عنقه، فلما عاد إلى أصحابه أخبرهم بما رأى، فقال الرجل الثاني وهو الوليد بن المغيرة: أنا أرضخ رأسه. فأتاه وهو يصلي على حالته ليرميه بالحجر فأعمى الله بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه فقال: والله ما رأيته ولقد سمعت صوته. فقال الثالث: والله لأشدخن أنا رأسه. ثم أخذ الحجر وانطلق فرجع القهقرى ينكص على عقبيه حتى خر على قفاه مغشيا عليه. فقيل له: ما شأنك؟ قال شأني عظيم رأيت الرجل فلما دنوت منه، وإذا فحل يخطر بذنبه ما رأيت فحلا قط أعظم منه حال بيني وبينه، فواللات والعزى لو دنوت منه لأكلني. فأنزل الله تعالى: "إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون". وقرأ ابن عباس: "إنا جعلنا في أيمانهم". وقال الزجاج: وقرئ "إنا جعلنا في أيديهم". قال النحاس: وهذه القراءة تفسير ولا يقرأ بما خالف المصحف. وفي الكلام حذف على قراءة الجماعة؛ التقدير: إنا جعلنا في أعناقهم وفي أيديهم أغلالا فهي إلى الأذقان، فهي كناية عن الأيدي لا عن الأعناق، والعرب تحذف مثل هذا. ونظيره: "سرابيل تقيكم الحر" [النحل: 81] وتقديره وسرابيل تقيكم البرد فحذف؛ لأن ما وقى من الحر وقى من البرد؛ لأن الغل إذا كان في العنق فلا بد أن يكون في اليد، ولا سيما وقد قال الله عز وجل: "فهي إلى الأذقان" فقد علم أنه يراد به الأيدي. "فهم مقمحون" أي رافعو رؤوسهم لا يستطيعون الإطراق؛ لأن من علت يده إلى ذقنه ارتفع رأسه. روى عبدالله بن يحيى: أن علي بن أبي طالب عليه السلام أراهم الإقماح، فجعل يديه تحت لحيته وألصقهما ورفع رأسه. قال النحاس، وهذا أجل ما روي فيه وهو مأخوذ مما حكاه الأصمعي. قال: يقال أقمحت الدابة إذا جذبت لجامها لترفع رأسها. قال النحاس: والقاف مبدلة من الكاف لقربها منها. كما يقال: قهرته وكهرته. قال الأصمعي: يقال أكمحت الدابة إذا جذبت عنانها حتى ينتصب رأسها. ومنه قول الشاعر:
. .. والرأس مكمح
ويقال: أكمحتها وأكفحتها وكبحتها؛ هذه وحدها بلا ألف عن الأصمعي. وقمح البعير قموحا: إذا رفع رأسه عند الحوض وامتنع من الشرب، فهو بعير قامح وقمح؛ يقال: شرب فتقمح وانقمح بمعنى إذا رفع رأسه وترك الشرب ريا. وقد قامحت إبلك: إذا وردت ولم تشرب، ورفعت رأسها من داء يكون بها أو برد. وهي إبل مقامحة، وبعير مقامح، وناقة مقامح أيضا، والجمع قماح على غير قياس؛ قال بشر يصف سفينة:
ونحن على جوانبها قعود نغض الطرف كالإبل القماح
والإقماح: رفع الرأس وغض البصر؛ يقال: أقمحه الغل إذا ترك رأسه مرفوعا من ضيقه. وشهرا قماح: أشد ما يكون من البرد، وهما الكانونان سميا بذلك؛ لأن الإبل إذا وردت آذاها برد الماء فقامحت رؤوسها؛ ومنه قمحت السويق. وقيل: هو مثل ضربه الله تعالى لهم في امتناعكم من الهدى كامتناع المغلول؛ قال يحيى بن سلام وأبو عبيدة. وكما يقال: فلان حمار؛ أي لا يبصر الهدى. وكما قال:
لهم عن الرشد أغلال وأقياد
وفي الخبر: أن أبا ذؤيب كان يهوى امرأة في الجاهلية، فلما أسلم راودته فأبى وأنشأ يقول:
فليس كعهد الدار يا أم مالك ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل سوى العدل شيئا فاستراح العواذل
أراد منعنا بموانع الإسلام عن تعاطي الزنى والفسق. وقال الفراء أيضا: هذا ضرب مثل؛ أي حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله؛ وهو كقوله تعالى: "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك" [الإسراء: 29] وقال الضحاك. وقيل: إن هؤلاء صاروا في الاستكبار عن الحق كمن جعل في يده غل فجمعت إلى عنقه، فبقي رافعا رأسه لا يخفضه، وغاضا بصره لا يفتحه. والمتكبر يوصف بانتصاب العنق. وقال الأزهري: إن أيديهم لما علت عند أعناقهم رفعت الأغلال أذقانهم ورؤوسهم صعدا كالإبل ترفع رؤوسها. وهذا المنع بخلق الكفر في قلوب الكفار، وعند قوم بسلبهم التوفيق عقوبة لهم على كفرهم. وقيل: الآية إشارة إلى ما يفعل بأقوام غدا في النار من وضع الأغلال في أعناقهم والسلاسل؛ كما قال تعالى: "إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل" [غافر: 71] وأخبر عنه بلفظ الماضي. "فهم مقمحون" تقدم تفسيره. قال مجاهد: "مقمحون" مغلون عن كل خير.
الآية: 9 {وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون، وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون، إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم}
قوله تعالى: "وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا" قال مقاتل: لما عاد أبو جهل إلى أصحابه، ولم يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وسقط الحجر من يده، أخذ الحجر رجل آخر من بني مخزوم وقال: أقتله بهذا الحجر. فلما دنا من النبي صلى الله عليه وسلم طمس الله على بصره فلم ير النبي صلى الله عليه وسلم، فرجع إلى أصحابه فلم يبصرهم حتى نادوه، فهذا معنى الآية. وقال محمد بن إسحاق في روايته: جلس عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل وأمية بن خلف، يرصدون النبي صلى الله عليه وسلم ليبلغوا من أذاه؛ فخرج عليهم عليه السلام وهو يقرأ [يس] وفي يده تراب فرماهم به وقرأ: "وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا" فأطرقوا حتى مر عليهم عليه السلام. وقد مضى هذا في سورة [سبحان] ومضى في "الكهف" الكلام في "سدا" بضم السين وفتحها وهما لغتان، "فأغشيناهم" أي غطينا أبصارهم؛ وقد مضى في أول "البقرة". وقرأ ابن عباس وعكرمة ويحيى بن يعمر "فأعشيناهم" بالعين غير معجمة من العشاء في العين وهو ضعف بصرها حتى لا تبصر بالليل قال:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره
وقال تعالى: "ومن يعش عن ذكر الرحمن" [الزخرف: 36] الآية. والمعنى متقارب، والمعنى أعميناهم؛ كما قال:
ومن الحوادث لا أبا لك أنني ضربت علي الأرض بالأسداد
لا أهتدي فيها لموضع تلعة بين العذب وبين أرض مراد
"فهم لا يبصرون" أي الهدى؛ قاله قتادة. وقيل: محمدا حين ائتمروا على قتله؛ قاله السدي. وقال الضحاك: "وجعلنا من بين أيديهم سدا" أي الدنيا "ومن خلفهم سدا" أي الآخرة؛ أي عموا عن البعث وعموا عن قبول الشرائع في الدنيا؛ قال الله تعالى: "وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم" [فصلت: 25] أي زينوا لهم الدنيا ودعوهم إلى التكذيب بالآخرة. وقيل: على هذا "من بين أيديهم سدا" أي غرورا بالدنيا "ومن خلفهم سدا" أي تكذيبا بالآخرة. وقيل: "من بين أيديهم" الآخرة "ومن خلفهم" الدنيا. "وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون" تقدم في "البقرة" والآية رد على القدرية وغيرهم. وعن ابن شهاب: أن عمر بن عبدالعزيز أحضر غيلان القدري فقال: يا غيلان بلغني أنك تتكلم بالقدر؛ فقال: يكذبون على يا أمير المؤمنين. ثم قال: يا أمير المؤمنين أرأيت قول الله تعالى: "إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا. إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا" [الإنسان: 2] قال: أقرأ يا غيلان فقرأ حتى انتهى إلى قوله: "فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا" [الإنسان: 29] فقال اقرأ فقال: "وما تشاؤون إلا أن يشاء الله" [الإنسان: 30] فقال: والله يا أمير المؤمنين إن شعرت أن هذا في كتاب الله قط. فقال له: يا غيلان أقرأ أول سورة [يس] فقرأ حتى بلغ "وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون" فقال غيلان: والله يا أمير المؤمنين لكأني لم أقرأها قط قبل اليوم؛ اشهد يا أمير المؤمنين أني تائب. قال عمر: اللهم إن كان صادقا فتب عليه وثبته، وإن كان كاذبا فسلط عليه من لا يرحمه واجعله آية للمومنين؛ فأخذه هشام فقطع يديه ورجليه وصلبه. وقال ابن عون: فأنا رأيته مصلوبا على باب دمشق. فقلنا: ما شأنك يا غيلان؟ فقال: أصابتني دعوة الرجل الصالح عمر بن عبدالعزيز.
قوله تعالى: "إنما تنذر من اتبع الذكر" يعني القرآن وعمل به. "وخشي الرحمن بالغيب" أي ما غاب من عذابه وناره؛ قاله قتادة. وقيل: أي يخشاه في مغيبه عن أبصار الناس وانفراده بنفسه. "فبشره بمغفرة" أي لذنبه "وأجر كريم" أي الجنة.
الآية: 12 {إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين}
قوله تعالى: "إنا نحن نحيي الموتى" أخبرنا تعالى بإحيائه الموتى ردا على الكفرة. وقال الضحاك والحسن: أي نحييهم بالإيمان بعد الجهل. والأول أظهر؛ أي نحييهم بالبعث للجزاء. ثم توعدهم بذكره كَتْب الآثار وإحصاء كل شيء وكل ما يصنعه الإنسان. قال قتادة: معناه من عمل. وقاله مجاهد وابن زيد. ونظيره قوله: "علمت نفس ما قدمت وأخرت": [الانفطار: 5 ] وقوله: "ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر" [القيامة: 13]، وقال: "اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد" [الحشر: 18] فآثار المرء التي تبقى وتذكر بعد الإنسان من خير أو شر يجازى عليها: من أثر حسن؛ كعلم علموه، أو كتاب صنفوه، أو حبيس احتبسوه، أو بناء بنوه من مسجد أو رباط أو قنطرة أو نحو ذلك. أو سيئ كوظيفة وظفها بعض الظلام على المسلمين، وسكة أحدثها فيها تخسيرهم، أو شيء أحدثه فيه صد عن ذكر الله من ألحان وملاه، وكذلك كل سنة حسنة، أو سيئة يستن بها. وقيل: هي آثار المشائين إلى المساجد. وعلى هذا المعنى تأول الآية عمر وابن عباس وسعيد بن جبير. وعن ابن عباس أيضا أن معنى: "وآثارهم" خطاهم إلى المساجد. قال النحاس: وهذا أولى ما قيل فيه؛ لأنه قال: إن الآية نزلت في ذلك؛ لأن الأنصار كانت منازلهم بعيدة عن المسجد. وفي الحديث مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يكتب له برجل حسنة وتحط عنه برجل سيئه ذاهبا وراجعا إذا خرج إلى المسجد).
قلت: وفي الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: كانت بنو سلمة في ناحية المدينة فأردوا النقلة إلى قرب المسجد فنزلت هذه الآية: "إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن آثاركم تكتب) فلم ينتقلوا. قال: هذا حديث حسن غريب من حديث الثوري. وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله قال: أراد بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد؛ قال: والبقاع خالية؛ قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم دياركم تكتب آثاركم) فقالوا: ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا. وقال ثابت البناني: مشيت مع أنس بن مالك إلى الصلاة فأسرعت، فحبسني فلما انقضت الصلاة قال: مشيت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأسرعت، فحبسني فلما انقضت الصلاة قال: (أما علم أن الآثار تكتب) فهذا احتجاج بالآية. وقال قتادة ومجاهد أيضا والحسن: الآثار في هذه الآية الخطا. وحكى الثعلبي عن أنس أنه قال: الآثار هي الخطا إلى الجمعة. وواحد الآثار أثر ويقال أثر.
في هذه الأحاديث المفسرة لمعنى الآية دليل على أن البعد من المسجد أفضل، فلو كان بجوار مسجد، فهل له أن يجاوزه إلى الأبعد؟ اختلف فيه، فروي عن أنس أنه كان يجاوز المحدث إلى القديم. وروي عن غيره: الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجرا. وكره الحسن وغيره هذا؛ وقال: لا يدع مسجدا قربه ويأتي غيره. وهذا مذهب مالك. وفي تخطي مسجده إلى المسجد الأعظم قولان. وخرج ابن ماجه من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. (صلاة الرجل في بيته بصلاة وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة وصلاته في المسجد الذي يجمع فيه بخمسمائة صلاة).
"دياركم" منصوب على الإغراء أي ألزموا، و(تكتب) جزم على جواب ذلك الأمر. (وكل) نصب بفعل مضمر يدل عليه "أحصيناه" كأنه قال: وأحصينا كل شيء أحصيناه. ويجوز رفعه بالابتداء إلا أن نصبه أولى؛ ليعطف ما عمل فيه الفعل على ما عمل فيه الفعل. وهو قول الخليل وسيبويه. والإمام: الكتاب المقتدى به الذي هو حجة. وقال مجاهد وقتادة وابن زيد: أراد اللوح المحفوظ. وقالت فرقة: أراد صحائف الأعمال.