تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 467 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 467

467- تفسير الصفحة رقم467 من المصحف
قوله تعالى: "وترى الملائكة" يا محمد "حافين" أي محدقين "من حول العرش" في ذلك اليوم "يسبحون بحمد ربهم" متلذذين بذلك لا متعبدين به؛ أي يصلون حول العرش شكرا لربهم. والحافون أخذ من حافات الشيء ونواحيه. قال الأخفش: واحدهم حاف. وقال الفراء: لا واحد له إذ لا يقع لهم الاسم إلا مجتمعين. ودخلت "من" على "حول" لأنه ظرف والفعل يتعدى إلى الظرف بحرف وبغير حرف. وقال الأخفش: "من" زائدة أي حافين حول العرش. وهو كقولك: ما جاءني من أحد، فمن توكيد. الثعلبي: والعرب تدخل الباء أحيانا في التسبيح وتحذفها أحيانا، فيقولون: سبح بحمد ربك، وسبح حمدا لله؛ قال الله تعالى: "سبح اسم ربك الأعلى" [الأعلى: 1] وقال: "فسبح باسم ربك العظيم" [الواقعة: 74]. "وقضي بينهم بالحق" بين أهل الجنة والنار. وقيل: قضى بين النبيين الذين جيء بهم مع الشهداء وبين أممهم بالحق والعدل. "وقيل الحمد لله رب العالمين" أي يقول المؤمنون الحمد لله على ما أثابنا من نعمه وإحسانه ونصرنا على من ظلمنا. وقال قتادة في هذه الآية: افتتح الله أول الخلق بالحمد لله، فقال: "الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور" [الأنعام:1] وختم بالحمد فقال: "وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين" فلزم الاقتداء به، والأخذ في ابتداء كل أمر بحمده وخاتمته بحمده. وقيل: إن قول "الحمد لله رب العالمين" من قول الملائكة فعلى هذا يكون حمدهم لله تعالى على عدله وقضائه. وروي من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ على المنبر آخر سورة "الزمر" فتحرك المنبر مرتين.
سورة غافر
مقدمة السورة
سورة غافر، وهي سورة المؤمن، وتسمى سورة الطول وهي مكية في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر. وعن الحسن إلا قوله: "وسبح بحمد ربك" [غافر: 55] لأن الصلوات نزلت بالمدينة. وقال ابن عباس وقتادة: إلا آيتين منها نزلتا بالمدينة وهما "إن الذين يجادلون في آيات الله" [غافر: 56 ] والتي بعدها. وهي خمس وثمانون آية. وقيل ثنتان وثمانون آية.
وفي مسند الدارمي قال: حدثنا جعفر بن عون عن مسعر عن سعد بن إبراهيم قال: كن الحواميم يسمين العرائس. وروي من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الحواميم ديباج القرآن" وروي عن ابن مسعود مثله. وقال الجوهري وأبو عبيدة: وآل حم سور في القرآن. قال ابن مسعود: آل حم ديباج القرآن. قال الفراء: إنما هو كقولك آل فلان وآل فلان كأنه نسب السورة كلها إلى حم؛ قال الكميت:
وجدنا لكم في آل حاميم آية تأولها منا تقي ومعزب
قال أبو عبيدة: هكذا رواها الأموي بالزاي، وكان أبو عمرو يرويها بالراء. فأما قول العامة الحواميم فليس من كلام العرب. وقال أبو عبيدة: الحواميم سور في القرآن على غير قياس؛ وأنشد قائلا:
وبالحواميم التي قد سبغت
قال: والأولى أن تجمع بذوات حم. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لكل شيء ثمرة وإن ثمرة القرآن ذوات حم هن روضات حسان مخصبات متجاورات فمن أحب أن يرتع في رياض الجنة فليقرأ الحواميم). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل الحواميم في القرآن كمثل الحبرات في الثياب) ذكرهما الثعلبي. وقال أبو عبيد: وحدثني حجاج بن محمد عن أبي معشر عن محمد بن قيس قال: رأى رجل سبع جوار حسان مزينات في النوم فقال لمن أنتن بارك الله فيكن فقلن نحن لمن قرأنا نحن الحواميم.
الآية: 1 - 4 {حم، تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد}
قوله تعالى: "حم" اختلف في معناه؛ فقال عكرمة: قال النبي صلى الله عليه وسلم:("حم" اسم من أسماء الله تعالى وهي مفاتيح خزائن ربك) قال ابن عباس: "حم" اسم الله الأعظم. وعنه: "الر" و"حم" و"ن" حروف الرحمن مقطعة. وعنه أيضا: اسم من أسماء الله تعالى أقسم به. وقال قتادة: إنه اسم من أسماء القرآن. مجاهد: فواتح السور. وقال عطاء الخراساني: الحاء افتتاح اسمه حميد وحنان وحليم وحكيم، والميم افتتاح اسمه ملك ومجيد ومنان ومتكبر ومصور؛ يدل عليه ما روى أنس أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ما "حم" فإنا لا نعرفها في لساننا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بدء أسماء وفواتح سور) وقال الضحاك والكسائي: معناه قضي ما هو كائن. كأنه أراد الإشارة إلى تهجي "حم"؛ لأنها تصير حم بضم الحاء وتشديد الميم؛ أي قضي ووقع. وقال كعب بن مالك:
فلما تلاقيناهم ودارت بنا الرحى وليس لأمر حمه الله مدفع
وعنه أيضا: إن المعنى حم أمر الله أي قرب؛ كما قال الشاعر:
قد حم يومي فسر قوم قوم بهم غفلة ونوم
ومنه سميت الحمى؛ لأنها تقرب من المنية. والمعنى المراد قرب نصره لأوليائه، وانتقامه من أعدائه كيوم بدر. وقيل: حروف هجاء؛ قال الجرمي: ولهذا تقرأ ساكنة الحروف فخرجت مخرج التهجي وإذا سميت سورة بشيء من هذه الحروف أعربت؛ فتقول: قرأت "حم" فتنصب؛ ومنه:
يذكرني حاميم والرمح شاجر فهلا تلا حاميم قبل التقدم
وقرأ عيسى بن عمر الثقفي: "حم" بفتح الميم على معنى اقرأ حم أو لالتقاء الساكنين. ابن أبي إسحاق وأبو السمال بكسرها. والإمالة والكسر للالتقاء الساكنين، أو على وجه القسم. وقرأ أبو جعفر بقطع الحاء من الميم. الباقون بالوصل. وكذلك في "حم. عسق". وقرأ أبو عمرو وأبو بكر وحمزة والكسائي وخلف وابن ذكوان بالإمالة في الحاء. وروي عن أبي عمرو بين اللفظين وهي قراءة نافع وأبي جعفر وشيبة. الباقون بالفتح مشبعا.
قوله تعالى: "تنزيل الكتاب" ابتداء والخبر"من الله العزيز العليم ". ويجوز أن يكون "تنزيل" خبرا لمبتدأ محذوف؛ أي هذا "تنزيل الكتاب". ويجوز أن يكون "حم" مبتدأ و"تنزيل" خبره والمعنى: أن القرآن أنزله الله وليس منقولا ولا مما يجوز أن يكذب به.
قوله تعالى: "غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب" قال الفراء: جعلها كالنعت للمعرفة وهي نكرة. وقال الزجاج: هي خفض على البدل. النحاس: وتحقيق الكلام في هذا وتلخيصه أن "غافر الذنب وقابل التوب" يجوز أن يكونا معرفتين على أنهما لما مضى فيكونا نعتين، ويجوز أن يكونا للمستقبل والحال فيكونا نكرتين ولا يجوز أن يكونا نعتين على هذا ولكن يكون خفضهما على البدل، ويجوز النصب على الحال، فأما "شديد العقاب" فهو نكره ويكون خفضه على البدل. قال ابن عباس: "غافر الذنب" لمن قال: "لا إله إلا الله" "وقابل التوب" ممن قال: "لا إله إلا الله" "شديد العقاب" لمن لم يقل: "لا إله إلا الله". وقال ثابت البناني: كنت إلى سرادق مصعب بن الزبير في مكان لا تمر فيه الدواب، قال: فاستفتحت "حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم" فمر علي رجل على دابة فلما قلت "غافر الذنب" قال: قل يا غافر الذنب اغفر لي ذنبي، فلما قلت: "قابل التوب" قال: قل يا قابل التوب تقبل توبتي، فلما قلت: "شديد العقاب" قال: قل يا شديد العقاب اعف عني، فلما قلت: "ذي الطول" قال: قل يا ذا الطول طل علي بخير؛ فقمت إليه فأخذ ببصري، فالتفت يمينا وشمالا فلم أر شيئا. وقال أهل الإشارة: "غافر الذنب" فضلا "وقابل التوب" وعدا "شديد العقاب" عدلا "لا إله إلا هو إليه المصير" فردا. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه افتقد رجلا ذا بأس شديد من أهل الشام؛ فقيل له: تتابع في هذا الشراب؛ فقال عمر لكاتبه: اكتب من عمر إلى فلان، سلام عليك، وأنا أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو: "بسم الله الرحمن. حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير" ثم ختم الكتاب وقال لرسوله: لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيا، ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة، فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول: قد وعدني الله أن يغفر لي، وحذرني عقابه، فلم يبرح يرددها حتى بكى ثم نزع فأحسن النزع وحسنت توبته. فلما بلغ عمر أمره قال: هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أحدكم قد زل زلة فسددوه وادعوا الله له أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانا للشياطين عليه. و"التوب" يجوز أن يكون مصدر تاب يتوب توبا، ويحتمل أن يكون جمع توبة نحو دومة ودوم وعزمة وعزم؛ ومنه قوله:
فيخبو ساعة ويهب ساعا
ويجوز أن يكون التوب بمعنى التوبة. قال أبو العباس: والذي يسبق إلى قلبي أن يكون مصدرا؛ أي يقبل هذا الفعل، كما تقول قالا قولا، وإذا كان جمعا فمعناه يقبل التوبات. "ذي الطول لا إله إلا هو" على البدل وعلى النعت؛ لأنه معرفة. وأصل الطول الإنعام والفضل يقال منه: اللهم طل علينا أي انعم وتفضل. قال ابن عباس: "ذي الطول" ذي النعم. وقال مجاهد: ذي الغنى والسعة؛ ومنه قوله تعالى: "ومن لم يستطع منكم طولا" [النساء: 25] أي غنى وسعة. وعن ابن عباس أيضا: "ذي الطول" ذي الغنى عمن لا يقول لا إله إلا الله. وقال عكرمة: "ذي الطول" ذي المن. قال الجوهري: والطول بالفتح المن؛ يقال منه طال عليه وتطول عليه إذا امتن عليه. وقال محمد بن كعب: "ذي الطول" ذي التفضل؛ قال الماوردي: والفرق بين المن والتفضل أن المن عفو عن ذنب. والتفضل إحسان غير مستحق. والطول مأخوذ من الطول كأنه طال بإنعامه على غيره. وقيل: لأنه طالت مدة إنعامه. "إليه المصير" أي المرجع.
قوله تعالى: "ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا" سجل سبحانه على المجادلين في آيات الله بالكفر، والمراد الجدال بالباطل، من الطعن فيها، والقصد إلى إدحاض الحق، وإطفاء نور الله تعالى. وقد دل على ذلك في قوله تعالى: "وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق". [غافر:5]. فأما الجدال فيها لإيضاح ملتبسها، وحل مشكلها، ومقادحة أهل العلم في استنباط معانيها، ورد أهل الزيغ بها وعنها، فأعظم جهاد في سبيل الله. وقد مضى هذا المعنى في "البقرة" عند قوله تعالى: "ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه" [البقرة: 258] مستوفى. "فلا يغررك تقلبهم في البلاد" "فلا يغررك" وقرئ: "فلا يغرك" "تقلبهم" أي تصرفهم "في البلاد" فإني إن أمهلتهم لا أهملهم بل أعاقبهم. قال ابن عباس: يريد تجارتهم من مكة إلى الشام وإلى اليمن. وقيل: "لا يغررك" ما هم فيه من الخير والسعة في الرزق فإنه متاع قليل في الدنيا. وقال الزجاج: "لا يغررك" سلامتهم بعد كفرهم فإن عاقبتهم الهلاك. وقال أبو العالية: آيتان ما أشدهما على الذين يجادلون في القرآن: قوله: "ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا"، وقوله: "وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد" [البقرة: 176].
الآية: 5 - 9 {كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب، وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار، الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم، ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم، وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم}
قوله تعالى: "كذبت قبلهم قوم نوح" على تأنيث الجماعة أي كذبت الرسل. "والأحزاب من بعدهم" أي والأمم الذين تحزبوا عل أنبيائهم بالتكذيب نحو عاد وثمود فمن بعدهم. "وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه" أي ليحبسوه ويعذبوه. وقال قتادة والسدي: ليقتلوه. والأخذ يرد بمعنى الإهلاك؛ كقوله: "ثم أخذتهم فكيف كان نكير" [الحج: 44]. والعرب تسمي الأسير الأخيذ؛ لأنه مأسور للقتل؛ وأنشد قطرب قول الشاعر:
فإما تأخذوني تقتلوني فكم من آخذ يهوى خلودي
وفي وقت أخذهم لرسولهم قولان: أحدهما عند دعائه لهم. الثاني عند نزول العذاب بهم. "وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق" أي ليزيلوا. ومنه مكان دحض أي مزلقة، والباطل داحض؛ لأنه يزلق ويزل فلا يستقر. قال يحيى بن سلام: جادلوا الأنبياء بالشرك ليبطلوا به الإيمان. "فأخذتهم" أي بالعذاب. "فكيف كان عقاب" أي عاقبة الأمم المكذبة. أي أليس وجدوه حقا.
قوله تعالى: "وكذلك حقت" أي وجبت ولزمت؛ مأخوذ من الحق لأنه اللازم. "كلمة ربك" هذه قراءة العامة على التوحيد. وقرأ نافع وابن عامر: "كلمات" جمعا. "على الذين كفروا أنهم أصحاب النار" قال الأخفش: أي لأنهم وبأنهم. قال الزجاج: ويجوز إنهم بكسر الهمزة."أصحاب النار" أي المعذبون بها وتم الكلام.
قوله تعالى: "الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به" ويروى: أن حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم قد خرقت العرش، وهم خشوع لا يرفعون طرفهم، وهم أشراف الملائكة وأفضلهم. ففي الحديث: (أن الله تبارك وتعالى أمر جميع الملائكة أن يغدوا ويروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلا لهم على سائر الملائكة). ويقال: خلق الله العرش من جوهرة خضراء، وبين القائمتين من قوامه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام. وقيل: حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة يطوفون به مهللين مكبرين، ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام، قد وضعوا أيديهم على عواتقهم، ورافعين أصواتهم بالتهليل والتكبير، ومن ورائهم مائة ألف صف، وقد وضعوا الإيمان على الشمائل، ما منهم أحد إلا وهو يسبح بما لا يسبح به الآخر. وقرأ ابن عباس: "العرش" بضم العين؛ ذكر جميعه الزمخشري رحمه الله. وقيل: اتصل هذا بذكر الكفار؛ لأن المعنى والله أعلم - "الذين يحملون العرش ومن حوله" ينزهون الله عز وجل عما يقوله الكفار وأقاويل أهل التفسير على أن العرش هو السرير، وأنه جسم مجسم خلقه الله عز وجل، وأمر ملائكة بحمله، وتعبدهم بتعظيمه والطواف به، كما خلق في الأرض بيتا وأمر بني آدم بالطواف به واستقباله في الصلاة. وروى ابن طهمان، عن موسى بن عقبة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبدالله الأنصاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسير سبعمائة عام) ذكره البيهقي وقد مضى في "البقرة" في آية الكرسي عظم العرش وأنه أعظم المخلوقات. وروى ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن كعب الأحبار أنه قال: لما خلق الله تعالى العرش قال: لن يخلق الله خلقا أعظم مني؛ فاهتز فطوقه الله بحية، للحية سبعون ألف جناح، في الجناح سبعون ألف ريشة، في كل ريشة سبعون ألف وجه، في كل وجه سبعون ألف فم، في كل فم سبعون ألف لسان. يخرج من أفواهها في كل يوم من التسبيح عدد قطر المطر، وعدد ورق الشجر، وعدد الحصى والثرى، وعدد أيام الدنيا وعدد الملائكة أجمعين، فالتوت الحية بالعرش، فالعرش إلى نصف الحية وهي ملتوية به. وقال مجاهد: بين السماء السابعة وبين العرش سبعون ألف حجاب، حجاب نور وحجاب ظلمة، وحجاب نور وحجاب ظلمة. "ربنا" أي يقولون "ربنا" "وسعت كل شيء رحمة وعلما" أي وسعت رحمتك وعلمك كل شيء، فلما نقل الفعل عن الرحمة والعلم نصب على التفسير. "فاغفر للذين تابوا" أي من الشرك والمعاصي "واتبعوا سبيلك" أي دين الإسلام. "وقهم عذاب الجحيم" أي اصرفه عنهم حتى لا يصل إليهم. قال إبراهيم النخعي: كان أصحاب عبدالله يقولون الملائكة خير من ابن الكواء؛ هم يستغفرون لمن في الأرض وابن الكواء يشهد عليهم بالكفر، قال إبراهيم: وكانوا يقولون لا يحجبون الاستغفار عن أحد من أهل القبلة. وقال مطرف بن عبدالله: وجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة، ووجدنا أغش عباد الله لعباد الله الشيطان، وتلا هذه الآية. وقال يحيى بن معاذ الرازي لأصحابه في هذه الآية: افهموها فما في العالم جنة أرجى منها؛ إن ملكا واحدا لو سأل الله أن يغفر لجميع المؤمنين لغفر لهم، كيف وجميع الملائكة وحملة العرش يستغفرون للمؤمنين. وقال خلف بن هشام البزار القارئ: كنت أقرأ على سليم بن عيسى فلما بلغت: "ويستغفرون للذين آمنوا" بكى ثم قال: يا خلف ما أكرم المؤمن على الله نائما على فراشه والملائكة يستغفرون له.
قوله تعالى: "ربنا وأدخلهم جنات عدن" يروى أن عمر بن الخطاب قال لكعب الأحبار: ما جنات عدن. قال: قصور من ذهب في الجنة يدخلها النبيون والصديقون والشهداء وأئمة العدل. "التي وعدتهم" "التي" في محل نصب نعتا للجنات. "ومن صلح" "من" في محل نصب عطفا على الهاء والميم في قوله: "وأدخلهم". "ومن صلح" بالإيمان "من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم" وقد مضى في "الرعد" نظير هذه الآية. قال سعيد بن جبير: يدخل الرجل الجنة، فيقول: يا رب أين أبي وجدي وأمي؟ وأين ولدي وولد ولدي؟ وأين زوجاتي؟ فيقال إنهم لم يعملوا كعملك؛ فيقول: يا رب كنت أعمل لي ولهم؛ فيقال ادخلوهم الجنة. ثم تلا: "الذين يحملون العرش ومن حوله" إلى قوله: "ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم". ويقرب من هذه الآية قوله: "والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم" [الطور: 21].
قوله تعالى: "وقهم السيئات" قال قتادة: أي وقهم ما يسوءهم، وقيل: التقدير وقهم عذاب السيئات وهو أمر من وقاه الله يقيه وقاية بالكسر؛ أي حفظه. "ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته" أي بدخول الجنة "وذلك هو الفوز العظيم" أي النجاة الكبيرة.