تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 531 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 531

531- تفسير الصفحة رقم531 من المصحف
الآية: 50 - 55 {وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر، ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر، وكل شيء فعلوه في الزبر، وكل صغير وكبير مستطر، إن المتقين في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر}
قوله تعالى: "وما أمرنا إلا واحدة" أي إلا مرة واحدة. "كلمح بالبصر" أي قضائي في خلقي أسرع من لمح البصر. واللمح النظر بالعجلة؛ يقال: لمح البرق ببصره. وفي الصحاح: لمحه وألمحه إذا أبصره بنظر خفيف، والاسم اللمحة، ولمح البرق والنجم لمحا أي لمع. "ولقد أهلكنا أشياعكم" أي أشباهكم في الكفر من الأمم الخالية. وقيل: أتباعكم وأعوانكم. "فهل من مدكر" أي من يتذكر.
قوله تعالى: "وكل شيء فعلوه في الزبر" أي جميع ما فعلته الأمم قبلهم من خير أو شر كان مكتوبا عليهم؛ وهذا بيان قوله: "إنا كل شيء خلقناه بقدر". "في الزبر" أي في اللوح المحفوظ. وقيل: في كتب الحفظة. وقيل: في أم الكتاب. "وكل صغير وكبير مستطر" أي كل ذنب كبير وصغير مكتوب على عامله قبل أن يفعله ليجازى به، ومكتوب إذا فعله؛ سطر يسطر سطرا كتب؛ واستطر مثله.
قوله تعالى: "إن المتقين في جنات ونهر" لما وصف الكفار وصف المؤمنين أيضا. "ونهر" يعني أنهار الماء والخمر والعسل واللبن؛ قاله ابن جريج. ووحد لأنه رأس الآية، ثم الواحد قد ينبئ عن الجميع. وقيل: في "نهر" في ضياء وسعة؛ ومنه النهار لضيائه، ومنه أنهرت الجرح؛ قال الشاعر:
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها يرى قائم من دونها ما وراءها
وقرأ أبو مجلز وأبو نهيك والأعرج وطلحة بن مصرف وقتادة "ونهر" بضمتين كأنه جمع نهار لا ليل لهم؛ كسحاب وسحب. قال الفراء: أنشدني بعض العرب:
إن تلك ليليا فإني نهر متى أرى الصبح فلا أنتظر
أي صاحب النهار. وقال آخر:
لولا الثريدان هلكنا بالضمر ثريد ليل وثريد بالنهر
"في مقعد صدق" أي مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم وهو الجنة "عند مليك مقتدر" أي يقدر على ما يشاء. و"عند" ها هنا عندية القربة والزلفة والمكانة والرتبة والكرامة والمنزلة. قال الصادق: مدح الله المكان الصدق فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق. وقرأ عثمان البتي "في مقاعد صدق" بالجمع؛ والمقاعد مواضع قعود الناس في الأسواق وغيرها. قال عبدالله بن بريدة: إن أهل الجنة يدخلون كل يوم على الجبار تبارك وتعالى، فيقرؤون القران على ربهم تبارك وتعالى، وقد جلس كل إنسان مجلسه الذي هو مجلسه، على منابر من الدر والياقوت والزبرجد والذهب والفضة بقدر أعمالهم، فلا تقر أعينهم بشيء قط كما تقر بذلك، ولم يسمعوا شيئا أعظم ولا أحسن منه، ثم ينصرفون إلى منازلهم، قريرة أعينهم إلى مثلها من الغد. وقال ثور بن يزيد عن خالد بن معدان: بلغنا أن الملائكة يأتون المؤمنين يوم القيامة فيقولون: يا أولياء الله انطلقوا؛ فيقولون: إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنة؛ فيقول المؤمنون: إنكم تذهبون بنا إلى غير بغيتنا. فيقولون: فما بغيتكم؟ فيقولون: مقعد صدق عند مليك مقتدر. وقد روي هذا الخبر على الخصوص بهذا المعنى؛ ففي الخبر: أن طائفة من العقلاء بالله عز وجل تزفها الملائكة إلى الجنة والناس في الحساب، فيقولون للملائكة: إلى أين تحملوننا؟ فيقولون إلى الجنة. فيقولون: إنكم لتحملوننا إلى غير بغيتنا؛ فيقولون: وما بغيتكم؟ فيقولون: المقعد الصدق مع الحبيب كما أخبر "في مقعد صدق عند مليك مقتدر" والله أعلم. تم تفسير "سورة القمر" والحمد لله.
سورة الرحمن
مقدمة السورة
مكية كلها في قول الحسن وعروة بن الزبير وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس: إلا آية منها هي قوله تعالى: "يسأله من في السماوات والأرض" [الرحمن: 29] الآية. وهي ست وسبعون آية. وقال ابن مسعود ومقاتل: هي مدنية كلها. والقول الأول أصح لما روى عروة بن الزبير قال: أول من جهر بالقرآن بمكة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعود؛ وذلك أن الصحابة قالوا: ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر به قط، فمن رجل يسمعهموه؟ فقال ابن مسعود: أنا، فقالوا: إنا نخشى عليك، وإنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه، فأبى ثم قام عند المقام فقال: "بسم الله الرحمن الرحيم. الرحمن. علم القرآن" [الرحمن:2] ثم تمادى رافعا بها صوته وقريش في أنديتها، فتأملوا وقالوا: ما يقول ابن أم عبد؟ قالوا: هو يقول الذي يزعم محمد أنه أنزل عليه، ثم ضربوه حتى أثروا في وجهه. وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم قام يصلي الصبح بنخلة، فقرأ سورة "الرحمن" ومر النفر من الجن فأمنوا به. وفي الترمذي عن جابر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة "الرحمن" من أولها إلي آخرها فسكتوا، فقال: (لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردودا منكم كنت كلما أتيت على قوله: "فبأي آلاء ربكما تكذبان" [الرحمن: 13] قالوا لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد) قال: هذا حديث غريب. وفي هذا دليل على أنها مكية والله أعلم. وروي أن قيس بن عاصم المنقري قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اتل علي مما أنزل عليك، فقرأ عليه سورة "الرحمن" فقال: أعدها، فأعادها ثلاثا، فقال: والله إن له لطلاوة، وإن عليه لحلاوة، وأسفله لمغدق، وأعلاه مثمر، وما يقول هذا بشر، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. وروي عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لكل شيء عروس وعروس القرآن سورة الرحمن).
الآية: 1 - 13 {الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان، الشمس والقمر بحسبان، والنجم والشجر يسجدان، والسماء رفعها ووضع الميزان، ألا تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان، والأرض وضعها للأنام، فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام، والحب ذو العصف والريحان، فبأي آلاء ربكما تكذبان}
قوله تعالى: "الرحمن، علم القرآن" قال سعيد بن جبير وعامر الشعبي: "الرحمن" فاتحة ثلاث سور إذا جمعن كن اسما من أسماء الله تعالى "الر" و"حم" و"ن" فيكون مجموع هذه "الرحمن". "علم القرآن" أي علمه نبيه صلى الله عليه وسلم حتى أداه إلى جميع الناس. وأنزلت حين قالوا: وما الرحمن؟ وقيل: نزلت جوابا لأهل مكة حين قالوا: إنما يعلمه بشر وهو رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب، فأنزل الله تعالى: "الرحمن. علم القرآن". وقال الزجاج: معنى "علم القرآن" أي سهله لأن يذكر ويقرأ كما قال: "ولقد يسرنا القرآن للذكر" [القمر: 17]. وقيل: جعله علامة لما تعبد الناس به. "خلق الإنسان" قال ابن عباس وقتادة والحسن يعني آدم عليه السلام. "علمه البيان" أسماء كل شيء. وقيل: علمه اللغات كلها. وعن ابن عباس أيضا وابن كيسان: الإنسان ها هنا يراد به محمد صلى الله عليه وسلم، والبيان بيان الحلال من الحرام، والهدى من الضلال. وقيل: ما كان وما يكون، لأنه بين عن الأولين والآخرين ويوم الدين. وقال الضحاك: "البيان" الخير والشر. وقال الربيع بن أنس: هو ما ينفعه وما يضره، وقاله قتادة. وقيل: "الإنسان" يراد به جميع الناس فهو اسم للجنس و"البيان" على هذا الكلام والفهم، وهو مما فضل به الإنسان على سائر الحيوان. وقال السدي: علم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به. وقال يمان: الكتابة والخط بالقلم. نظيره: "علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم" [العلق: 4]. "الشمس والقمر بحسبان" أي يجريان بحساب معلوم فأضمر الخبر. قال ابن عباس وقتادة وأبو مالك: أي يجريان بحساب في منازل لا يعدوانها ولا يحيدان عنها. وقال ابن زيد وابن، كيسان: يعني أن بهما تحسب الأوقات والآجال الأعمار، ولولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدر أحد كيف يحسب شيئا لو كان الدهر كله أو نهاره. وقال السدي: "بحسبان" تقدير آجالهما أي تجري بآجال كآجال الناس، فإذا جاء أجلهما هلكا، نظيره: "كل يجري لأجل مسمى" [الزمر: 5]. وقال الضحاك: بقدر. مجاهد: "بحسبان" كحسبان الرحى يعني قطبها يدوران في مثل القطب. والحسبان قد يكون مصدر حسبته أحسبته بالضم حسبا وحسبانا، مثل الغفران والكفران والرجحان، وحسابة أيضا أي عددته. وقال الأخفش: ويكون جماعة الحساب مثل شهاب وشهبان. والحسبان أيضا بالضم العذاب والسهام القصار، وقد مضى في "الكهف" الواحدة حسبانة، والحسبانة أيضا الوسادة الصغيرة، تقول منه: حسبته إذا وسدته، قال:
... لثويت غير مُحَسِّب
أي غير موسَّد يعني غير مكرم ولا مكفن "والنجم والشجر يسجدان" قال ابن عباس وغيره: النجم ما لا ساق له والشجر ما له ساق، وأنشد ابن عباس قول صفوان بن أسد التميمي:
لقد أنجم القاع الكبير عضاهه وتم به حيا تميم ووائل
وقال زهير بن أبي سلمى:
مكلل بأصول النجم تنسجه ريح الجنوب لضاحي مائه حبك
واشتقاق النجم من نجم الشيء ينجم بالضم نجوما ظهر وطلع، وسجودهما بسجود ظلالهما، قاله الضحاك. وقال الفراء: سجودهما أنهما يستقبلان الشمس إذا طلعت ثم يميلان معها حتى ينكسر الفيء. وقال الزجاج: سجودهما دوران الظل معهما، كما قال تعالى: "يتفيأ ظلاله" [النحل: 48]. وقال الحسن ومجاهد: النجم نجم السماء، وسجوده في قول مجاهد دوران ظله، وهو اختيار الطبري، حكاه المهدوي. وقيل: سجود النجم أفوله، وسجود الشجر إمكان الاجتناء لثمرها، حكاه الماوردي. وقيل: إن جميع ذلك مسخر لله، فلا تعبدوا النجم كما عبد قوم من الصابئين النجوم، وعبد كثير من العجم الشجر. والسجود الخضوع، والمعني به آثار الحدوث، حكاه القشيري. النحاس: أصل السجود في اللغة الاستسلام والانقياد لله عز وجل، فهو من الموات كلها استسلامها لأمر الله عز وجل وانقيادها له، ومن الحيوان كذلك ويكون من سجود الصلاة، وأنشد محمد بن يزيد في النجم بمعنى النجوم قال:
فباتت تعد النجم في مستحيرة سريع بأيدي الآكلين جمودها
قوله تعالى: "والسماء رفعها" وقرأ أبو السمال "والسماء" بالرفع على الابتداء واختيار ذلك لما عطف على الجملة التي هي: "والنجم والشجر يسجدان" فجعل المعطوف مركبا من مبتدأ وخبر كالمعطوف عليه. الباقون بالنصب على إضمار فعل يدل عليه ما بعده. "ووضع الميزان" أي العدل، عن مجاهد وقتادة والسدي، أي وضع في الأرض العدل الذي أمر به، يقال.: وضع الله الشريعة. ووضع فلان كذا أي ألقاه، وقيل: على هذا الميزان القرآن، لأن فيه بيان ما يحتاج إليه وهو قول الحسين بن الفضل. وقال الحسن وقتادة - أيضا - والضحاك: هو الميزان ذو اللسان الذي يوزن به لينتصف به الناس بعضهم من بعض، وهو خبر بمعنى الأمر بالعدل، يدل عليه قوله تعالى: "وأقيموا الوزن بالقسط" والقسط العدل. وقيل: هو الحكم. وقيل: أراد وضع الميزان في الآخرة لوزن الأعمال. وأصل ميزان موزان وقد مضى في "الأعراف" القول فيه. "ألا تطغوا في الميزان" موضع "أن" يجوز أن يكون نصبا على تقدير حذف حرف الجر كأنه قال: لئلا تطغوا، كقوله تعالى: "يبين الله لكم أن تضلوا" [النساء: 176]. ويجوز ألا يكون لـ "أن" موضع من الإعراب فتكون بمعنى أي و"تطغوا" على هذا التقدير مجزوما، كقوله تعالى: "وانطلق الملأ منهم أن امشوا" [ص: 6] أي امشوا. والطغيان مجاوزة الحد. فمن قال: الميزان العدل قال طغيانه الجور. ومن قال: إنه الميزان الذي يوزن به قال طغيانه البخس. قال ابن عباس: أي لا تخونوا من وزنتم له. وعنه أنه قال: يا معشر الموالي! وليتم أمرين بهما هلك الناس: المكيال والميزان. ومن قال إنه الحكم قال: طغيانه التحريف. وقيل: فيه إضمار، أي وضع الميزان وأمركم ألا تطغوا فيه. "وأقيموا الوزن بالقسط" أي افعلوه مستقيما بالعدل. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: أقيموا لسان الميزان بالقسط والعدل. وقال ابن عيينة: الإقامة باليد والقسط بالقلب. وقال مجاهد: القسط العدل بالرومية. وقيل: هو كقولك أقام الصلاة أي أتى بها في وقتها، وأقام الناس أسواقهم أي أتوها لوقتها. أي لا تدعوا التعامل بالوزن بالعدل. "ولا تخسروا الميزان" ولا تنقصوا الميزان ولا تبخسوا الكيل والوزن، وهذا كقوله: "ولا تنقصوا المكيال والميزان" [هود: 84]. وقال قتادة في هذه الآية: آعدل يا ابن آدم كما تحب أن يعدل لك، وأوف كما تحب أن يوفى لك، فإن العدل صلاح الناس. وقيل: المعنى ولا تخسروا ميزان حسناتكم يوم القيامة فيكون ذلك حسرة عليكم. وكرر الميزان لحال رؤوس الآي. وقيل: التكرير للأمر بإيفاء الوزن ورعاية العدل فيه. وقراءة العامة "تخسروا" بضم التاء وكسر السين. وقرأ بلال بن أبي بردة وأبان عن عثمان "تخسروا" بفتح التاء والسين وهما لغتان، يقال: أخسرت الميزان وخسرته كأجبرته وجبرته. وقيل: "تخسروا" بفتح التاء والسين محمول على تقدير حذف حرف الجر، والمعنى ولا تخسروا في الميزان. "والأرض وضعها للأنام" الأنام الناس، عن ابن عباس. الحسن: الجن والإنس. الضحاك: كل ما دب على وجه الأرض، وهذا عام.
قوله تعالى: "فيها فاكهة" أي كل ما يتفكه به الإنسان من ألوان الثمار. "والنخل ذات الأكمام" الأكمام جمع كم بالكسر. قال الجوهري: والكمة بالكسر والكمامة وعاء الطلع وغطاء النور والجمع كمام وأكمة وأكمام والأكاميم أيضا. وكم الفصيل إذا أشفق عليه فستر حتى يقوى، قال العجاج:
بل لو شهدت الناس إذ تكموا بغمة لو لم تفرج غموا
وتكموا أي أغمي عليهم وغطوا. وأكمت النخلة وكممت أي أخرجت أكمامها. والكمام بالكسر والكمامة أيضا ما يكم به فم البعير لئلا يعض، تقول منه: بعير مكموم أي محجوم. وكممت الشيء غطيته. والكم ما ستر شيئا وغطاه، ومنه كم القميص بالضم والجمع أكمام وكممة، مثل حب وحببة. والكمة القلنسوة المدورة، لأنها تغطي الرأس. قال:
فقلت لهم كيلو بكمة بعضكم دراهمكم إني كذلك أكيل
قال الحسن: "ذات الأكمام" أي ذات الليف فإن النخلة قد تكمم بالليف، وكمامها ليفها الذي في أعناقها. ابن زيد: ذات الطلع قبل أن يتفتق. وقال عكرمة: ذات الأحمال. "والحب ذو العصف والريحان" الحب الحنطة والشعير ونحوهما، والعصف التبن، عن الحسن وغيره. مجاهد: ورق الشجر والزرع. ابن عباس: تبن الزرع وورقه الذي تعصفه الرياح. سعيد بن جبير: بقل الزرع أي أول ما ينبت منه، وقاله الفراء. والعرب تقول: خرجنا نعصف، الزرع إذا قطعوا منه قبل أن يدرك. وكذا في الصحاح: وعصفت الزرع أي جززته قبل أن يدرك. وعن ابن عباس أيضا: العصف ورق الزرع الأخضر إذا قطع رؤوسه ويبس، نظيره: "فجعلهم كعصف مأكول" [الفيل:5]. الجوهري: وقد أعصف الزرع، ومكان معصف أي كثير الزرع. قال أبو قيس بن الأسلت الأنصاري:
إذا جمادى منعت قطرها زان جنابي عطن معصف
والعصف أيضا الكسب، ومنه قول الراجز:
بغير ما عصف ولا اصطراف
وكذلك الاعتصاف. والعصيفة الورق المجتمع الذي يكون فيه السنبل. وقال الهروي: والعصف والعصيفة ورق السنبل. وحكى الثعلبي: وقال ابن السكيت تقول العرب لورق الزرع العصف والعصيفة والجل بكسر الجيم. قال علقمة بن عبدة:
تسقي مذانب قد مالت عصيفتها حدورها من أتى الماء مطموم
وفي الصحاح: والجل بالكسر قصب الزرع إذا حصد. والريحان الرزق، عن ابن عباس ومجاهد. الضحاك: هي لغة حمير. وعن ابن عباس أيضا والضحاك وقتادة: أنه الريحان الذي يشم، وقاله ابن زيد. وعن ابن عباس أيضا: أنه خضرة الزرع. وقال سعيد بن جبير: هو ما قام على ساق. وقال الفراء: العصف المأكول من الزرع، والريحان ما لا يؤكل. وقال الكلبي: إن العصف الورق الذي لا يؤكل، والريحان هو الحب المأكول. وقيل: الريحان كل بقلة طيبة الريح سميت ريحانا، لأن الإنسان يراح لها رائحة طيبة. أي يشم فهو فعلان روحان من الرائحة، وأصل الياء في الكلمة واو قلب ياء للفرق بينه وبين الروحاني وهو كل شيء له روح. قال ابن الأعرابي: يقال شيء روحاني وريحاني أي له روح. ويجوز أن يكون على وزن فيعلان فأصله ريوحان فأبدل من الواو ياء وأدغم كهين ولين، ثم ألزم التخفيف لطول ولحاق الزائدتين الألف والنون، والأصل فيما يتركب من الراء والواو والحاء الاهتزاز والحركة. وفي الصحاح: والريحان نبت معروف، والريحان الرزق، تقول: خرجت أبتغي ريحان الله، قال النمر بن تولب:
سلام الإله وريحانه ورحمته وسماء درر
وفي الحديث: "الولد من ريحان الله". وقولهم: سبحان الله وريحانه، نصبوهما على المصدر يريدون تنزيها له واسترزاقا. وأما قوله: "والحب ذو العصف والريحان" فالعصف ساق الزرع، والريحان ورقه، عن الفراء. وقراءة العامة "والحب ذو العصف والريحان" بالرفع فيها كلها على العطف على الفاكهة. ونصبها كلها ابن عامر وأبو حيوة والمغيرة عطفا على الأرض. وقيل: بإضمار فعل، أي وخلق الحب ذا العصف والريحان، فمن هذا الوجه يحسن الوقف على "ذات الأكمام". وجر حمزة والكسائي "الريحان" عطفا على العصف، أي فيها الحب ذو العصف والريحان، ولا يمتنع ذلك على قول من جعل الريحان الرزق، فيكون كأنه قال: والحب ذو الرزق. والرزق من حيث كان العصف رزقا، لأن العصف رزق للبهائم، والريحان رزق للناس، ولا شبهة فيه في قول من قال إنه الريحان المشموم.
قوله تعالى: "فبأي آلاء ربكما تكذبان" خطاب للإنس والجن، لأن الأنام واقع عليهما. وهذا قول الجمهور، يدل عليه حديث جابر المذكور أول السورة، وخرجه الترمذي وفيه" للجن أحسن منكم ردا". وقيل: لما قال: "خلق الإنسان" [الرحمن: 3] "وخلق الجان" [الرحمن: 15] دل ذلك على أن ما تقدم وما تأخر لهما. وأيضا قال: "سنفرغ لكم أيها الثقلان" [الرحمن: 31] خطاب للإنس والجن وقد قال في هذه السورة: "يا معشر الجن والإنس" [الرحمن: 33]. الجرجاني: خاطب الجن مع الإنس وإن لم يتقدم للجن ذكر، كقوله تعالى: "حتى توارت بالحجاب" [ص: 32]. وقد سبق ذكر الجن فيما سبق نزوله من القران، والقران كالسورة الواحدة، فإذا ثبت أنهم مكلفون كالإنس خوطب الجنسان بهذه الآيات. وقيل: الخطاب للإنس على عادة العرب في الخطاب للواحد بلفظ التثنية، حسب ما تقدم من القول في "ألقيا في جهنم" [ق: 24]. وكذلك قوله:
قفا نبك...
وخليلي مرا بي...
فأما ما بعد "خلق الإنسان" [الرحمن: 3] "وخلق الجان" [الرحمن: 15] فإنه خطاب للإنس والجن، والصحيح قول الجمهور لقوله تعالى: "والأرض وضعها للأنام" والآلاء النعم، وهو قول جميع المفسرين، واحدها إلى وألى مثل معى وعصا، وإلي وألي أربع لغات حكاها النحاس قال: وفي واحد "أناء الليل" ثلاث تسقط منها المفتوحة الألف المسكنة اللام، وقد مضى في "الأعراف" و"النجم". وقال ابن زيد: إنها القدرة، وتقدير الكلام فبأي قدرة ربكما تكذبان، وقاله الكلبي واختاره الترمذي محمد بن علي، وقال: هذه السورة من بين السور علم القرآن، والعلم إمام الجند والجند تتبعه، وإنما صارت علما لأنها سورة صفة الملك والقدرة، فقال: "الرحمن. علم القرآن" فافتتح السورة باسم الرحمن من بين الأسماء ليعلم العباد أن جميع ما يصفه بعد هذا من أفعاله ومن ملكه وقدرته خرج إليهم من الرحمة العظمى من رحمانيته فقال: "الرحمن. علم القرآن" ثم ذكر الإنسان فقال: "خلق الإنسان" ثم ذكر ما صنع به وما من عليه به، ثم ذكر حسبان الشمس والقمر وسجود الأشياء مما نجم وشجر، وذكر رفع السماء ووضع الميزان وهو العدل، ووضع الأرض للأنام، فخاطب هذبن الثقلين الجن والإنس حين رأوا ما خرج من القدرة والملك برحمانيته التي رحمهم بها من غير منفعة ولا حاجة إلى ذلك، فأشركوا به الأوثان وكل معبود اتخذوه من دونه، وجحدوا الرحمة التي خرجت هذه الأشياء بها إليهم، فقال سائلا لهم: "فبأي آلاء ربكما تكذبان" أي بأي قدرة ربكما تكذبان، فإنما كان تكذيبهم أنهم جعلوا له في هذه الأشياء التي خرجت من ملكه وقدرته شريكا يملك معه يقدر معه، فذلك تكذيبهم. ثم ذكر خلق الإنسان من صلصال، وذكر خلق الجان من مارج من نار، ثم سألهم فقال: "فبأي آلاء ربكما تكذبان" أي بأي قدرة ربكما تكذبان، فإن له في كل خلق بعد خلق قدرة بعد قدرة، فالتكرير في هذه الآيات للتأكيد والمبالغة في التقرير، واتخاذ الحجة عليهم بما وقفهم على خلق خلق. وقال القتبي: إن الله تعالى عدد في هذه السورة نعماءه، وذكر خلقه آلاءه، ثم أتبع كل، خلة وصفها ونعمة وضعها بهذه وجعلها فاصلة بين كل نعمتين لينبههم على النعم ويقررهم بها، كما تقول لمن تتابع فيه إحسانك وهو يكفره ومنكره: ألم تكن فقيرا فأغنيتك أفتنكر هذا؟! ألم تكن خاملا فعززتك أفتنكر هذا؟! ألم تكن صرورة فحججت بك أفتنكر هذا!؟ ألم تكن راجلا فحملتك أفتنكر هذا؟! والتكرير حسن في مثل هذا. قال:
كم نعمة كانت لكم كم كم وكم
وقال آخر:
لا تقتلي مسلما إن كنت مسلمة إياك من دمه إياك إياك
وقال آخر:
لا تقطعن الصديق ما طرفت عيناك من قول كاشح أشر
ولا تملن من زيارته زره وزره وزر وزر وزر
وقال الحسين بن الفضل: التكرير طردا للغفلة، وتأكيدا للحجة.
الآية: 14 - 18 {خلق الإنسان من صلصال كالفخار، وخلق الجان من مارج من نار، فبأي آلاء ربكما تكذبان، رب المشرقين ورب المغربين، فبأي آلاء ربكما تكذبان}
قوله تعالى: "خلق الإنسان" لما ذكر سبحانه خلق العالم الكبير من السماء والأرض، وما فيهما من الدلالات على وحدانيته وقدرته ذكر خلق العالم الصغير فقال: "خلق الإنسان" باتفاق من أهل التأويل يعني آدم. "من صلصال كالفخار" الصلصال الطين اليابس الذي يسمع له صلصلة، شبهه بالفخار الذي طبخ. وقيل: هو طين خلط برمل. وقيل: هو الطين المنتن من صل اللحم وأصل إذا أنتن، وقد مضى في "الحجر". وقال هنا: "من صلصال كالفخار" وقال هناك: "من صلصال من حمأ مسنون" [الحجر: 26]. وقال: "إنا خلقناهم من طين لازب" [الصافات: 11]. وقال: "كمثل آدم خلقه من تراب" [آل عمران: 59] وذلك متفق المعنى، وذلك أنه أخذ من تراب الأرض فعجنه فصار طينا، ثم انتقل فصار كالحمأ المسنون، ثم انتقل فصار صلصالا كالفخار. "وخلق الجان من مارج من نار" قال الحسن: الجان إبليس وهو أبو الجن. وقيل: الجان واحد الجن، والمارج الهب، عن ابن عباس، وقال: خلق الله الجان من خالص النار. وعنه أيضا من لسانها الذي يكون في طرفها إذا التهبت. وقال الليث: المارج الشعلة الساطعة ذات اللهب الشديد. وعن ابن عباس أنه اللهب الذي يعلو النار فيختلط بعضه ببعض أحمر وأصفر وأخضر، ونحوه عن مجاهد، وكله متقارب المعنى. وقيل: المارج كل أمر مرسل غير ممنوع، ونحوه قول المبرد، قال المبرد: المارج النار المرسلة التي لا تمنع. وقال أبو عبيدة والحسن: المارج خلط النار، وأصله من مرج إذا أضطرب واختلط، ويروى أن الله تعالى خلق نارين فمرج إحداهما بالأخرى، فأكلت إحداهما الأخرى وهي نار السموم فخلق منها إبليس. قال القشيري والمارج في اللغة المرسل أو المختلط وهو فاعل بمعنى مفعول، كقوله: "ماء دافق" [الطارق: 6] و"عيشة راضية" [الحاقة: 21] والمعنى ذو مرج، قال الجوهري في الصحاح: و"مارج من نار" نار لا دخان لها خلق منها الجان. "فبأي آلاء ربكما تكذبان". "رب المشرقين ورب المغربين" أي هو رب المشرقين. وفي الصافات "ورب المشارق" [الصافات: 5] وقد مضى الكلام في ذلك هنالك.