تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 534 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 534

534- تفسير الصفحة رقم534 من المصحف
قال بعض العلماء: ليس الرمان والنخل من الفاكهة، لأن الشيء لا يعطف على نفسه إنما يعطف على غيره وهذا ظاهر الكلام. وقال الجمهور: هما من الفاكهة وإنما أعاد ذكر النخل والرمان لفضلهما وحسن موقعهما على الفاكهة، كقوله تعالى: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى" [البقرة: 238] وقول: "من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال" [البقرة: 98] وقد تقدم. وقيل: إنما كررها لأن النخل والرمان كانا عندهم في ذلك الوقت بمنزلة البر عندنا، لأن النخل عامة قوتهم، والرمان كالثمرات، فكان يكثر غرسهما عندهم لحاجتهم إليهما، وكانت الفواكه عندهم من ألوان الثمار التي يعجبون بها، فإنما ذكر الفاكهة ثم ذكر النخل والرمان لعمومهما وكثرتهما عندهم من المدينة إلى مكة إلى ما والاها من أرض اليمن، فأخرجهما في الذكر من الفواكه وأفرد الفواكه على حدتها. وقيل: أفردا بالذكر لأن النخل ثمره فاكهة وطعام، والرمان فاكهة ودواء، فلم يخلصا للتفكه، ومنه قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا حلف أن لا يأكل فاكهة فأكل رمانا أو رطبا لم يحنث. وخالفه صاحباه والناس. قال ابن عباس: الرمانة في الجنة مثل البعير المقتب. وذكر ابن المبارك قال: أخبرنا سفيان عن حماد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: نخل الجنة جذوعها زمرد أخضر، وكرانيفها ذهب أحمر، وسعفها كسوة لأهل الجنة، منها مقطعاتهم وحللهم، وثمرها أمثال القلال والدلاء، أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، وألين من الزبد، ليس فيه عجم. قال: وحدثنا المسعودي عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة، قال: نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها، وثمرها أمثال القلال كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى، وإن ماءها ليجري في غير أخدود، والعنقود اثنا عشر ذراعا.
الآية: 70 - 71 {فيهن خيرات حسان، فبأي آلاء ربكما تكذبان}
قوله تعالى: "فيهن خيرات حسان" يعني النساء الواحدة خيرة على معنى ذوات خير. وقيل: "خيرات" بمعنى خيرات فخفف، كهين ولين. ابن المبارك: حدثنا الأوزاعي عن حسان بن عطية عن سعيد بن عامر قال: لو أن خيرة من "خيرات حسان" اطلعت من السماء لأضاءت لها، ولقهر ضوء وجهها الشمس والقمر، ولنصيف تكساه خيرة خير من الدنيا وما فيها. "حسان" أي حسان الخلق، وإذا قال الله تعالى: "حسان" فمن ذا الذي يقدر أن يصف حسنهن! وقال الزهري وقتادة: "خيرات" الأخلاق "حسان" الوجوه. وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أم سلمة. وقال أبو صالح: لأنهن عذارى أبكار.
وقرأ قتادة وابن السميقع وأبو رجاء العطاردي وبكر بن حبيب السهمي "خيرات" بالتشديد على الأصل. وقد قيل: أن خيرات جمع خي والمعنى ذوات خير. وقيل: مختارات. قال الترمذي: فالخيرات ما أختارهن الله فأبدع خلقهن باختياره، فاختيار الله لا يشبه اختيار الآدميين. ثم قال: "حسان" فوصفهن بالحسن فإذا وصف خالق الحسن شيئا بالحسن فانظر ما هناك. وفي الأوليين ذكر بأنهن "قاصرات الطرف" [الرحمن: 56] و"كأنهن الياقوت والمرجان" [الرحمن: 58] فانظر كم بين الخيرة وهي مختارة الله، وبين قاصرات الطرف. وفي الحديث: "إن الحور العين يأخذ بعضهن بأيدي بعض ويتغنين بأصوات لم تسمع الخلائق بأحسن منها ولا بمثلها نحن الراضيات فلا نسخط أبدا ونحن المقيمات فلا نظعن أبدا ونحن الخالدات فلا نموت أبدا ونحن النعمات فلا نبؤس أبدا ونحن خيرات حسان حبيبات لأزواج كرام". خرجه الترمذي بمعناه من حديث. علي رضي الله عنه. وقالت عائشة رضي الله عنها: إن الحور العين إذا قلن هذه المقالة أجابهن المؤمنات من نساء أهل الدنيا: نحن المصليات وما صليتن، ونحن الصائمات وما صمتن، ونحن المتوضئات وما توضأتن، ونحن المتصدقات وما تصدقتن. فقالت عائشة رضي الله، عنها: فغلبنهن والله.
واختلف أيهما أكثر حسنا وأبهر جمالا الحور أو الآدميات؟ فقيل: الحور لما ذكر من وصفهن في القرآن والسنة، ولقوله عليه الصلاة والسلام في دعائه على الميت في الجنازة: "وأبدله زوجا خيرا من زوجه". وقيل: الآدميات أفضل من الحور العين بسبعين ألف ضعف، وروي مرفوعا. وذكر ابن المبارك: وأخبرنا رشدين عن ابن أنعم عن حيان بن أبي جبلة، قال: إن نساء الدنيا من دخل منهن الجنة فضلن على الحور العين بما عملن في الدنيا. وقد قيل: إن الحور العين المذكورات في القرآن هن المؤمنات من أزواج النبيين والمؤمنين يخلقن في الآخرة على أحسن صورة، قاله الحسن البصري. والمشهور أن الحور العين لسن، من نساء أهل الدنيا وإنما هن مخلوقات في الجنة، لأن الله تعالى قال: "لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان" وأكثر نساء أهل الدنيا مطموثات، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أقل ساكني الجنة النساء" فلا يصيب كل واحد منهم امرأة، ووعد الحور العين لجماعتهم، فثبت أنهن من غير نساء الدنيا.
الآية: 72 - 75 {حور مقصورات في الخيام، فبأي آلاء ربكما تكذبان، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان، فبأي آلاء ربكما تكذبان}
قوله تعالى: "حور مقصورات في الخيام" "حور" جمع حوراء، وهي الشديدة بياض العين الشديدة سوادها وقد تقدم. "مقصورات" محبوسات مستورات "في الخيام" في الحجال لسن بالطوافات في الطرق، قال ابن عباس. وقال عمر رضي الله عنه: الخيمة درة مجوفة. وقاله ابن عباس. وقال: هي فرسخ في فرسخ لها أربعة آلاف مصراع من ذهب. وقال الترمذي الحكيم أبو عبدالله في قوله تعالى "حور مقصورات في الخيام": بلغنا في الرواية أن سحابة أمطرت من العرش فخلقت الحور من قطرات الرحمة، ثم ضرب على كل واحدة منهن خيمة على شاطئ الأنهار سعتها أربعون ميلا وليس لها باب، حتى إذا دخل ولي الله الجنة انصدعت الخيمة عن باب ليعلم ولي الله أن أبصار المخلوقين من الملائكة والخدم لم تأخذها، فهي مقصورة قد قصر بها عن أبصار المخلوقين. والله أعلم. وقال في الأوليين: "فيهن قاصرات الطرف" [الرحمن: 56] قصرن طرفهن على الأزواج ولم يذكر أنهن مقصورات، فدل على أن المقصورات أعلى وأفضل. وقال مجاهد: "مقصورات" قد قصرن على أزواجهن فلا يردن بدلا منهم. وفي الصحاح: وقصرت الشيء أقصره قصرا حبسته، ومنه مقصورة الجامع، وقصرت الشيء على كذا إذا لم تجاوز إلى غيره، وامرأة قصيرة وقصورة أي مقصورة في البيت لا تترك أن تخرج، قال كثير:
وأنت التي حببت كل قصيرة إلي وما تدري بذاك القصائر
عنيت قصيرات الحجال ولم أرد قصار الخطا شر النساء البحاتر
وأنشده الفراء قصورة، ذكره ابن السكيت. وروى أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مررت ليلة أسري بي في الجنة بنهر حافتاه قباب المرجان فنوديت منه السلام عليك يا رسول الله فقلت: يا جبريل من هؤلاء قال: هؤلاء جوار من الحور العين استأذن ربهن في أن يسلمن عليك فأذن لهن فقلن: نحن الخالدات فلا نموت أبدا ونحن الناعمات فلا نبؤس أبدا ونحن الراضيات فلا نسخط أبدا أزواج رجال كرام" ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم "حور مقصورات في الخيام" أي محبوسات حبس صيانة وتكرمة. وروي عن أسماء بنت يزيد الأشهلية أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إنا معشر النساء محصورات مقصورات، قواعد بيوتكم وحوامل أولادكم، فهل نشارككم في الأجر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم إذا أحسنتن تبعل أزواجكن وطلبتن مرضاتهم).
قوله تعالى: "لم يطمثهن" أي لم يمسسهن على ما تقدم قبل. وقراءة العامة "يطمثهن" بكسر الميم. وقرأ أبو حيوة الشامي وطلحة بن مصرف والأعرج والشيرازي عن الكسائي بضم الميم في الحرفين. وكان الكسائي يكسر إحداهما ويضم الأخرى ويخير في ذلك، فإذا رفع الأولى كسر الثانية إذا كسر الأولى رفع الثانية. وهي قراءة أبي إسحاق السبيعي. قال أبو إسحاق: كنت أصلي خلف أصحاب علي فيرفعون الميم، وكنت أصلي خلف أصحاب عبدالله فيكسرونها، فاستعمل الكسائي الأثرين. وهما لغتان طمث وطمث مثل يعرشون ويعكفون، فمن ضم فللجمع بين اللغتين، ومن كسر فلأنها اللغة السائرة. وإنما أعاد قوله: "لم يطمثهن"، ليبين أن صفة الحور المقصورات في الخيام كصفة الحور القاصرات الطرف. يقول: إذا قصرن كانت لهن الخيام في تلك الحال.
الآية: 76 - 78 {متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان، فبأي آلاء ربكما تكذبان، تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام}
قوله تعالى: "متكئين على رفرف خضر" الرفرف المحابس. وقال ابن عباس: الرفرف فضول الفرش والبسط. وعنه أيضا: الرفرف المحابس يتكئون على فضولها، وقاله قتادة. وقال الحسن والقرظي: هي البسط. وقال ابن عيينة: هي الزرابي. وقال ابن كيسان: هي المرفق، وقال الحسن أيضا. وقال أبو عبيدة: هي حاشية الثوب. وقال ابن كيسان: هي المرافق، تبسط. وقيل: الفرش المرتفعة. وقيل: كل ثوب عريض عند العرب فهو مرفرف. قال ابن مقبل:
وإنا لنزالون تغشى نعالنا سواقط من أصناف ريط ورفرف
وهذه أقوال متقاربة. وفي الصحاح: والرفرف ثياب خضر تتخذ منها المحابس، الواحدة رفرفة. وقال سعيد بن جبير وابن عباس أيضا: الرفرف رياض الجنة، واشتقاق الرفرف من رف يرف إذا ارتفع، ومنه رفرفة الطائر لتحريكه جناحيه في الهواء. وربما سموا الظليم رفرافا بذلك، لأنه يرفرف بجناحيه ثم يعدو. ورفرف الطائر أيضا إذا حرك جناحيه حول الشيء يريد أن يقع عليه. والرفرف أيضا كسر الخباء وجوانب الدرع وما تدلى منها، الواحد رفرفة. وفي الخبر في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: فرفع الرفرف فرأينا وجهه كأنه ورقة تخشخش أي رفع طرف الفسطاط. وقيل: اصل الرفرف من رف النبت يرف إذا صار غضبا نضيرا، حكاه الثعلبي. وقال القتبي: يقال للشيء إذا كثر ماؤه من النعمة والغضاضة حتى كاد يهتز: رف يرف رفيفا، حكاه الهروي. وقد قيل: إن الرفرف شيء إذا استوى عليه صاحبه رفرف به وأهوى به كالمرجاح يمينا وشمالا ورفعا وخفضا يتلذذ به مع أنسيته، قاله الترمذي الحكيم في "نوادر الأصول" وقد ذكرناه في "التذكرة". قال الترمذي: فالرفرف اعظم خطرا من الفرش فذكره في الأوليين "متكئين على فرش بطائنها من إستبرق" [الرحمن: 54] وقال هنا: "متكئين على رفرف خضر" فالرفرف هو شيء إذا استوى عليه الولي رفرف به، أي طار به هكذا وهكذا حيث ما يريد كالمرجاح، وأصله من رفرف بين يدي الله عز وجل، روي لنا في حديث المعراج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغ سدرة المنتهى جاءه الرفرف فتناوله منم جبريل وطار به إلى مسند العرش، فذكر أنه قال: "طار بي يخفضني ويرفعني حتى وقف بي بين يدي ربي" ثم لما حان الانصراف تناول فطار به خفضا ورفعا يهوي به حتى أداه إلى جبريل صلوات الله وسلامه عليه وجبريل يبكي ويرفع صوته بالتحميد، فالرفرف خادم من الخدم بين يدي الله تعالى له خواص الأمور في محل الدنو والقرب، كما أن البراق دابة يركبها الأنبياء مخصوصة بذلك في أرضه، فهذا الرفرف الذي سخره الله لأهل الجنتين الدانيتين هو متكاهما وفرشهما، يرفرف بالولي على حافات تلك الأنهار وشطوطها حيث شاء إلى خيام أزواجه الخيرات الحسان. ثم قال: "وعبقري حسان" فالعبقري ثياب منقوشة تبسط، فإذا قال خالق النقوش إنها حسان فما ظنك بتلك العباقر!. وقرأ عثمان رضي الله عنه والجحدري والحسن وغيرهم "متكئين على رفارف" بالجمع غير مصروف كذلك "وعباقري حسان" جمع رفرف وعبقري. و"رفرف" اسم للجمع و"عبقري" واحد يدل على الجمع المنسوب إلى عبقر. وقد قيل: إن واحد رفرف وعبقري رفرفة وعبقرية، والرفارف والعباقر جمع الجمع. والعبقري الطنافس الثخان منها، قال الفراء. وقيل: الزراعي، عن ابن عباس وغيره. الحسن: هي البسط. مجاهد: الديباج. القتبي: كل ثوب وشيء عند العرب عبقري. قال أبو عبيد: هو منسوب إلى أرض يعمل فيها الوشي فينسب إليها كل وشي حبك. قال ذو الرمة:
حتى كأن رياض القف ألبسها من وشي عبقر تجليل وتنجيد
ويقال: عبقر قرية بناحية اليمن تنسج فيها بسط منقوشة. وقال ابن الأنباري: إن الأصل فيه أن عبقر قرية يسكنها الجن ينسب إليها كل فائق جليل. وقال الخليل: كل جليل نافس فاضل وفاخر من الرجال والنساء وغيرهم عند العرب عبقري. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمر رضي الله عنه: فلم أر عبقريا من الناس يفري فريه" وقال أبو عمر بن العلاء وقد سئل عن قوله صلى الله عليه وسلم "فلم أر عبقريا يفري فريه" فقال: رئيس قوم وجليلهم. وقال زهير:
بخيل عليها جنة عبقرية جديرون يوما أن ينالوا فيستعلوا
وقال الجوهري: العبقري موضع تزعم العرب أنه من أرض الجن. قال لبيد:
كهول وشبان كجنة عبقر
ثم نسبوا إليه كل شيء يعجبون من حذقه وجودة صنعته وقوته فقالوا: عبقري وهو واحد وجمع. وفي الحديث: "إنه كان يسجد على عبقري" وهو هذه البسط التي فيها الأصباغ والنقوش حتى قالوا: ظلم عبقري وهذا عبقري قوم للرجل القوي. وفي الحديث: "فلم أر عبقريا يفري فريه" ثم خاطبهم الله بما تعارفوه فقال: "وعبقري حسان" وقرأه بعضهم "عباقري" وهو خطأ لأن المنسوب لا يجمع على نسبته، وقال قطرب: ليس بمنسوب وهو مثل كرسي وكراسي وبختي وبخاتي. وروى أبو بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ "متكئين على رفارف خضر وعباقر حسان" ذكره الثعلبي. وضم الضاد من "خضر" قليل.
قوله تعالى: "تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام" "تبارك" تفاعل من البركة وقد تقدم. "ذي الجلال" أي العظمة. وقد تقدم "والإكرام" وقرأ عامر "ذو الجلال" بالواو وجعله وصفا للاسم، وذلك تقوية لكون الاسم هو المسمى. الباقون "ذي الجلال" جعلوا "ذي" صفة لـ "ربك". وكأنه يربد الاسم الذي افتتح به السورة، فقال: "الرحمن" [الرحمن: 1] فافتتح بهذا الاسم، فوصف خلق الإنسان والجن، وخلق السماوات والأرض وصنعه، وأنه "كل يوم هو في شأن" [الرحمن: 29] ووصف تدبيره فيهم، ثم وصف يوم القيامة وأهوالها، وصفة النار ثم ختمها بصفة الجنان. ثم قال في آخر السورة: "تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام" أي هذا الاسم الذي افتتح به هذه السورة، كأنه يعلمهم أن هذا كله خرج لكم من رحمتي، فمن رحمتي خلقتكم وخلقت لكم السماء والأرض والخلق والخليقة والجنة والنار، فهذا كله لكم من اسم الرحمن فمدح اسمه ثم قال: "ذي الجلال والإكرام" جليل في ذاته، كريم في أفعال. ولم يختلف القراء في إجراء النعت على الوجه بالرفع في أول السورة، وهو يدل على أن المراد به وجه الله الذي يلقى المؤمنون عندما ينظرون إليه، فيستبشرون بحسن الجزاء، وجميل اللقاء، وحسن العطاء. والله أعلم.
سورة الواقعة
مقدمة السورة
مكية في قول الحسن وعكرمة وجابر وعطاء. وقال ابن قتاد: إلا آية منها نزلت بالمدية وهي قوله تعالى: "وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون" [الواقعة: 82]. وقال الكلبي: مكية إلا أربع آيات، منها آيتان "أفبهذا الحديث أنتم مدهنون. وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون" [الواقعة: 82] نزلتا في سفره إلى مكة، وقوله تعالى: "ثلة من الأولين. وثلة من الأخرين" [الواقعة: 40] في سفره إلى المدينة. وقال مسروق: من أراد أن يعلم نبأ الأولين والأخرين، ونبأ أهل الجنة، ونبأ أهل النار، ونبأ أهل الدنيا، ونبأ أهل الآخرة، فليقرأ سورة الواقعة. وذكر أبو عمر بن عبدالبر في "التمهيد" و"التعليق" والثعلبي أيضا: أن عثمان دخل على ابن مسعود يعوده في مرضه الذي مات فيه فقال: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي. قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي. قال: أفلا ندعو لك طبيبا؟ قال: الطبيب أمرضني. قال: أفلا نأمر لك بعطاء لك؟ قال: لا حاجة لي فيه، حبسته عني في حياتي، وتدفعه لي عند مماتي؟ قال: يكون لبناتك من بعدك. قال: أتخشى على بناتي الفاقة من بعدي؟ إنى أمرتهن أن يقرأن سورة "الواقعة" كل ليلة، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا).
الآية: 1 - 6 {إذا وقعت الواقعة، ليس لوقعتها كاذبة، خافضة رافعة، إذا رجت الأرض رجا، وبست الجبال بسا، فكانت هباء منبث}
قوله تعالى: "إذا وقعت الواقعة" أي قامت القيامة، والمراد النفخة الأخيرة. وسميت واقعة لأنها تقع عن قرب. وقيل: لكثرة ما يقع فيها من الشدائد. وفيه إضمار، أي اذكروا إذا وقعت الواقعة. وقال الجرجاني: "إذا" صلة، أي وقعت الواقعة، كقوله: "اقتربت الساعة" [القمر: 1] و"أتى أمر الله" [النحل: 1] وهو كما يقال: قد جاء الصوم أي دنا واقترب. وعلى الأول "إذا" للوقت، والجواب قوله: "فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة" [الواقعة: 8]. "ليس لوقعتها كاذبة" الكاذبة مصدر بمعنى الكذب، والعرب قد تضع الفاعل والمفعول موضع المصدر، كقوله تعالى: "لا تسمع فيها لاغية" [الغاشية: 11] أي لغو، والمعنى لا يسمع لها كذب، قاله الكسائي. ومنه قول العامة: عائذا بالله أي معاذ الله، وقم قائما أي قم قياما. ولبعض نساء العرب ترقص أبنها:
قم قائما قم قائما أصبت عبدا نائما
وقيل: الكاذبة صفة والموصوف محذوف، أي ليس لوقعتها حال كاذبة، أو نفس كاذبة، أي كل من يخبر عن وقعتها صادق. وقال الزجاج: "ليس لوقعتها كاذبة" أي لا يردها شيء. ونحوه قول الحسن وقتادة. وقال الثوري: ليس لوقعتها أحد يكذب بها. وقال الكسائي أيضا: ليس لها تكذيب، أي ينبغي ألا يكذب بها أحد. وقيل: إن قيامها جد لا هزل فيه.
قوله تعالى: "خافضة رافعة" قال عكرمة ومقاتل والسدي: خفضت الصوت فأسمعت من دنا ورفع من نأى، يعني أسمعت القريب والبعيد. وقال السدي: خفضت المتكبرين ورفعت المستضعفين. وقال قتادة: خفضت أقواما في عذاب الله، ورفعت، أقواما إلى طاعة الله. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: خفضت أعداء الله في النار، ورفعت أولياء الله في الجنة. وقال محمد بن كعب: خفضت أقواما كانوا في الدنيا مرفوعين، ورفعت، أقوات كانوا في الدنيا مخفوضين. وقال ابن عطاء: خفضت أقواما بالعدل، ورفعت آخرين بالفضل. والخفض والرفع يستعملان عند العرب في المكان والمكانة، والعز والمهانة. ونسب سبحانه الخفض والرفع للقيامة توسعا ومجازا على عادة العرب في إضافتها الفعل إلى المحل والزمان وغيرهما مما لم يكن منه الفعل، يقولون: ليل نائم ونهار صائم. وفي التنزيل: "بل مكر الليل والنهار" [سبأ: 33] والخافض والرافع على الحقيقة إنما هو الله وحده، فرفع أولياءه في أعلى الدرجات، وخفض أعداءه في أسفل الدركات. وقرأ الحسن وعيسى الثقفي "خافضة رافعة" بالنصب. الباقون بالرفع على إضمار مبتدأ، ومن نصب فعلى الحال. وهو عند الفراء على إضمار فعل، والمعنى: إذا وقعت الواقعة. ليس لوقعتها كاذبة وقعت: خافضة رافعة. والقيامة لا شك في وقوعها، وأنها ترفع أقواما وتضع آخرين على ما بيناه.
قوله تعالى: "إذا رجت الأرض رجا" أي زلزلت وحركت عن مجاهد وغيره، يقال: رجه يرجه رجا أي حركه وزلزله. وناقة رجاء في عظيمة السنام. وفي الحديث: (من ركب البحر حين يرتج فلا ذمة له) يعني إذا اضطربت أمواجه. قال الكلبي: وذلك أن الله تعالى إذا أوحى إليها أضطربت فرقا من الله تعالى. قال المفسرون: ترتج كما يرتج الصبي في المهد حتى ينهدم كل ما عليها، وينكسر كل شيء عليها من الجبال وغيرها. وعن ابن عباس الرجة الحركة الشديدة يسمع لها صوت. وموضع "إذا" نصب على البدل من "إذا وقعت". ويجوز أن ينتصب بـ "خافضة رافعة" أي تخفض وترفع وقت رج الأرض وبس الجبال، لأن عند ذلك ينخفض ما هو مرتفع، ويرتفع ما هو منخفض. وقيل: أي وقعت الواقعة إذا رجت الأرض، قاله الزجاج والجرجاني. وقيل: أي اذكر "إذا رجت الأرض رجا" مصدر وهو دليل على تكرير الزلزلة.
قوله تعالى: "وبست الجبال بسا" أي فتتت، عن ابن عباس. مجاهد: كما يبس الدقيق أي يلت. والبسيسة السويق أو الدقيق يلت بالسمن أو بالزيت ثم يؤكل ولا يطبخ وقد يتخذ زادا. قال الراجز:
لا تخبزا خبزا وبسا بسا ولا تطيلا بمناخ حبسا
وذكر أبو عبيدة: أنه لص من غطفان أراد أن يخبز فخاف أن يعجل عن ذلك فأكله عجينا. والمعنى أنها خلطت فصارت كالدقيق الملتوت بشيء من الماء. أي نصير الجبال ترابا فيختلط البعض بالبعض. وقال الحسن: وبست قلعت من أصلها فذهبت، نظيره: "ينسفها ربي نسفا" [طه: 105]. وقال عطيه: بسطت كالرمل والتراب. وقيل: البس السوق أي سيقت الجبال. قال أبو زيد: البس السوق، وقد بسست الإبل أبسها بالضم بسا. وقال أبو عبيد: بسست الإبل وأبسست لغتان إذا زجرتها وقلت لها بس بس. وفي الحديث. (يخرج قوم من المدينة إلى اليمن والشام والعراق يبسون والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون) ومنه الحديث الآخر: (جاءكم أهل اليمن يبسون عيالهم) والعرب تقول: جيء به من حسك وبسك. ورواهما أبو زيد بالكسر، فمعنى من حسك من حيث أحسسته، وبسك من حيث بلغه مسيرك. وقال مجاهد: سألت سيلا. عكرمة: هدت هدا. محمد بن كعب: سيرت سيرا، ومنه قول الأغلب العجلي: وقال الحسن: قطعت قطعا. والمعنى متقارب.
قوله تعالى: "فكانت هباء منبثا" قال علي رضي الله عنه: الهباء الرهج الذي يسطع من حوافز الدواب ثم يذهب، فجعل الله أعمالهم كذلك. وقال مجاهد: الهباء هو الشعاع الذي يكون في الكوة كهيئة الغبار. وروي نحوه عن ابن عباس. وعنه أيضا: هو ما تطاير من النار إذا اضطربت يطير منها شرر فإذا وقع لم يكن شيئا. وقال عطية. وقد مضى في "الفرقان" عند قوله تعالى: "وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا" [الفرقان: 23] وقراءة العامة "منبثا" بالثاء المثلثة أي متفرقا من قوله تعالى: "وبث فيها من كل دابة" [لقمان: 10] أي فرق ونشر. وقرأ مسروق والنخعي وأبو حيوة "منبتا" بالتاء المثناة أي منقطعا من قولهم: بته الله أي قطعه، ومنه البتات.
الآية: 7 - 12 {وكنتم أزواجا ثلاثة، فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة، والسابقون السابقون، أولئك المقربون، في جنات النعيم}
قوله تعالى: "وكنتم أزواجا ثلاثة" أي أصنافا ثلاثة كل، صنف يشاكل ما هو منه، كما يشاكل الزوج الزوجة، ثم بين من هم فقال: "فأصحاب الميمنة" "وأصحاب المشأمة" و"السابقون"، فأصحاب الميمنة هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة، وأصحاب المشأمة هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار، قاله السدي. والمشأمة الميسرة وكذلك الشأمة. يقال: قعد فلان شأمة. ويقال: يا فلان شائم بأصحابك، أي خذ بهم شأمة أي ذات الشمال. والعرب تقول لليد الشمال الشؤمى، وللجانب الشمال الأشأم. وكذلك يقال لما جاء عن اليمين اليمن، ولما جاء عن الشمال الشؤم. وقال ابن عباس والسدي: أصحاب الميمنة هم الذين كانوا عن يمين حين أخرجت الذرية من صلبه فقال الله لهم: هؤلاء في الجنة ولا أبالي. وقال زيد بن أسلم: أصحاب الميمنة هم الذين أخذوا من شق آدم الأيمن يومئذ، وأصحاب المشأمة الذين أخذوا من شق آدم الأيسر. وقال عطاء ومحمد بن كعب: أصحاب الميمنة من أوتي كتابه بيمينه، وأصحاب المشأمة من أوتي كتابه بشماله. وقال ابن جريج: أصحاب الميمنة هم أهل الحسنات، وأصحاب المشأمة هم أهل السيئات. وقال الحسن والربيع: أصحاب الميمنة الميامين على أنفسهم بالأعمال الصالحة، وأصحاب المشأمة المشائيم علي أنفسهم بالأعمال السيئة القبيحة. وفي صحيح مسلم من حديث الإسراء عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فلما علونا السماء الدنيا فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة - قال - فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شمال بكى - قال - فقال مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح - قال - قلت يا جبريل من هذا قال هذا آدم عليه السلام وهذه الأسودة التي عن يمينه وعن شماله نسم بنيه فأهل اليمين أهل الجنة والأسودة التي عن شماله أهل النار) وذكر الحديث. وقال المبرد: وأصحاب الميمنة أصحاب التقدم، وأصحاب الشأمة أصحاب التأخر. والعرب تقول: اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالك، أي أجعلني من المتقدمين ولا تجعلنا من المتأخرين. والتكرير في "ما أصحاب الميمنة". و"ما أصحاب المشأمة" للتفخيم والتعجيب، كقوله: "الحاقة ما الحاقة" [الحاقة: 1] و"القارعة ما القارعة" [القارعة: 1] كما يقال: زيد ما زيد! وفي حديث أم زرع رضي الله عنها: مالك وما مالك! والمقصود تكثير ما لأصحاب الميمنة من الثواب ولأصحاب المشأمة من العقاب. وقيل: "أصحاب" رفع بالابتداء والخبر"ما أصحاب الميمنة" كأنه قال: "فأصحاب الميمنة" ما هم، المعنى: أي شيء هم. وقيل: يجوز أن تكون "ما" تأكيدا، والمعنى فالذين يعطون كتابهم بأيمانهم هم أصحاب التقدم وعلو المنزلة.
قوله تعالى: "والسابقون السابقون" روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (السابقون الذين إذا أعطوا الحق قبلوه وإذا بذلوه وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم) ذكره المهدوي. وقال محمد بن كعب القرظي: إنهم الأنبياء. الحسن وقتادة: السابقون إلى الإيمان من كل أمة. ونحوه عن عكرمة. محمد بن سيرين: هم الذين صلوا إلى القبلتين، دليله قوله تعالى: "والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار" [التوبة: 100]. وقال مجاهد وغيره: هم السابقون إلى الجهاد، وأول الناس رواحا إلى الصلاة. وقال علي رضي الله عنه: هم السابقون إلى الصلوات الخمس. الضحاك: إلى الجهاد. سعيد بن جبير: إلى التوبة وأعمال البر، قال الله تعالى: "وسارعوا إلى مغفرة من ربكم" [آل عمران: 133] ثم أثنى عليهم فقال: "أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون" [المؤمنون: 61]. وقيل: إنهم أربعة، منهم سابق أمة موسى وهو حزقيل مؤمن آل فرعون، وسابق أمة عيسى وهو حبيب النجار صاحب أنطاكية، وسابقان في أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهما أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، قال ابن عباس، حكاه الماوردي. وقال شميط بن العجلان: الناس ثلاثة، فرجل ابتكر للخير في حداثة سنه داوم عليه حتى خرج من الدنيا فهذا هو السابق المقرب، ورجل ابتكر عمره بالذنوب ثم طول الغفلة ثم رجع بتوبته حتى ختم له بها فهذا من أصحاب اليمين، ورجل ابتكر عمره بالذنوب ثم لم يزل عليها حتى ختم له بها فهذا من أصحاب الشمال. وقيل: هم كل من سبق إلى شيء من أشياء الصلاح. ثم قيل: "السابقون" رفع بالابتداء والثاني توكيد له والخبرة "أولئك المقربون" وقال الزجاج: "السابقون" رفع بالابتداء والثاني خبره، والمعنى السابقون إلى طاعة الله هم السابقون إلى رحمة الله "أولئك المقربون" من صفتهم. وقيل: إذا خرج رجل من السابقين المقربين من منزله في الجنة كان له ضوء يعرفه به من دونه.
الآية: 13 - 16 {ثلة من الأولين، وقليل من الآخرين، على سرر موضونة، متكئين عليها متقابلين}
قوله تعالى: "ثلة من الأولين" أي جماعة من الأمم الماضية. "وقليل من الآخرين" أي ممن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم. قال الحسن: ثلة ممن قد مضى قبل هذه الأمة، وقليل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعلنا منهم بكرمك. وسموا قليلا بالإضافة إلى من كان قبلهم لأن الأنبياء المتقدمين كثروا فكثر السابقون إلى الإيمان منهم، فزادوا على عدد من سبق إلى التصديق من أمتنا. وقيل: لما نزل هذا شق على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت: "ثلة من الأولين. وثلة من الآخري" [الواقعة: 40] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة بل ثلث أهل الجنة بل نصف أهل الجنة وتقاسمونهم في النصف الثاني) رواه أبو هريرة، ذكره الماوردي وغيره. ومعناه ثابت في صحيح مسلم من حديث عبدالله بن مسعود. وكأنه أراد أنها منسوخة والأشبه أنها محكمة لأنها خبر، ولأن ذلك في جماعتين مختلفتين. قال الحسن: سابقو من مضى أكثر من سابقينا، ولذلك قال: "وقليل من الآخرين" وقال في أصحاب اليمين وهم سوى السابقين: "ثلة من الأولين. وثلة من الآخرين" [الواقعة:40] ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لأرجو أن تكون أمتي شطر أهل الجنة) ثم تلا قوله تعالى: "ثلة من الأولين. وثلة من الآخرين". قال مجاهد: كل من هذه الأمة. وروى سفيان عن أبان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: (الثلتان جميعا من أمتي) يعني "ثلة من الأولين. وثلة من الآخرين" [الواقعة: 40]. وروي هذا القول عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه. قال أبو بكر رضي الله عنه: كلا الثلتين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فمنهم من هو في أول أمته، ومنهم من هو في آخرها، وهو مثل قوله تعالى: "فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله" [فاطر: 32]. وقيل: "ثلة من الأولين" أي من أول هذه الأمة. "وقليل من الآخرين" يسارع في الطاعات حتى يلحق درجة الأولين، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (خيركم قرني) ثم سوى في أصحاب اليمين بين الأولين والآخرين. والثلة من ثللت الشيء أي قطعته، فمعنى ثلة كمعنى فرقة، قاله الزجاج.
قوله تعالى: "على سرر" أي السابقون في الجنة "على سرر"، أي مجالسهم على سرر جمع سرير. "موضونة" قال ابن عباس: منسوخة بالذهب. وقال عكرمة: مشبكة بالدر والياقوت. وعن ابن عباس أيضا: "موضونة" مصفوفة، كما قال في موضع آخر: "على سرر مصفوفة" [الطور: 20]. وعنه أيضا وعن مجاهد: مرمولة بالذهب. وفي التفاسير: "موضونة" أي منسوجة بقضبان الذهب مشبكة بالدر والياقوت والزبرجد - والوضن النسج المضاعف والنضد، يقال: وضن فلان الحجر والآجر بعضه فوق بعض فهو موضون، ودرع موضونة أي محكمة في النسج مثل مصفوفة، قال الأعشى:
ومن نسج داود موضونة تساق مع الحي عيرا فعيرا
وقال أيضا:
وبيضاء كالنهي موضونة لها قونس فوق جيب البدن
والسرير الموضون: الذي سطحه بمنزلة المنسوج، ومنه الوضين: بطان من سيور ينسج فيدخل بعضه في بعض، ومنه قوله:
إليك تعدو قلقا وضينها
"متكئين عليها" أي على السرر "متقابلين" أي لا يرى بعضهم قفا بعض، بل تدور بهم الأسرة، وهذا في المؤمن وزوجته وأهله، أي يتكئون متقابلين. قال مجاهد وغيره. وقال الكلبي: طول كل سرير ثلاثمائة ذراع، فإذا أراد العبد أن يجلس عليها تواضعت فإذا جلس عليها ارتفعت.