تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 558 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 558

558- تفسير الصفحة رقم558 من المصحف
سورة الطلاق
مقدمة السورة
مدنية في قول الجميع. وهي إحدى عشرة آية، أو اثنتا عشرة آية.
الآية: 1 {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمر}
قوله تعالى: "يا أيها النبي إذا طلقتم النساء" الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، خوطب بلفظ الجماعة تعظيما وتفخيما. وفي سنن ابن ماجة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة رضي الله عنها ثم راجعها. وروى قتادة عن أنس قال: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة رضي الله عنها فأتت أهلها، فأنزل الله تعالى عليه: "يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن". وقيل له: راجعها فإنها قوامة صوامة، وهي من أزواجك في الجنة. ذكره الماوردي والقشيري والثعلبي. زاد القشيري: ونزل في خروجها إلى أهلها قوله تعالى: "لا تخرجوهن، من بيوتهن". وقال الكلبي: سبب نزول هذه الآية غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على حفصة، لما أسر إليها حديثا فأظهرته لعائشة فطلقها تطليقة، فنزلت الآية. وقال السدي: نزلت في عبدالله بن عمر، طلق امرأته حائضا تطليقة واحدة فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر وتحيض ثم تطهر، فإذا أراد أن يطلقها فليطلقها حين تطهر من قبل أن يجامعها. فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء. وقد قيل: أن رجالا فعلوا مثل ما فعل عبدالله بن عمر، منهم عبدالله بن عمرو بن العاص، وعمرو بن سعد بن العاص، وعتبة بن غزوان، فنزلت الآية فيهم. قال ابن العربي: وهذا كله وإن لم يكن صحيحا فالقول الأول أمثل. والأصح فيه أنه بيان لشرع مبتدأ. وقد قيل: إنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته. وغاير بين اللفظين من حاضر وغائب وذلك لغة فصيحة، كما قال: "حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة" [يونس: 22]. تقديره: يا أيها النبي قل لهم إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن. وهذا هو قولهم،: إن الخطاب له وحده والمعنى له وللمؤمنين. وإذا أراد الله بالخطاب المؤمنين لاطفه بقول: "يا أيها النبي". فإذا كان الخطاب باللفظ والمعنى جميعا له قال: "يا أيها الرسول".
قلت: ويدل على صحة هذا القول نزول العدة في أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية. ففي كتاب أبي داود عنها أنها طلقت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن للمطلقة عدة، فأنزل الله تعالى حين طلقت أسماء بالعدة للطلاق، فكانت أول من أنزل فيها العدة للطلاق. وقيل: المراد به نداء النبي صلى الله عليه وسلم تعظيما، ثم ابتدأ فقال: "إذا طلقتم النساء"؛ كقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام" [المائدة: 90] الآية. فذكر المؤمنين على معنى تقديمهم وتكريمهم؛ ثم افتتح فقال: "إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام" الآية.
روى الثعلبي من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق). وعن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تزوجوا ولا تطلقوا فإن الطلاق يهتز منه العرش). وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تطلقوا النساء إلا من ريبة فإن الله عز وجل لا يحب الذواقين ولا الذواقات). وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما حلف بالطلاق ولا استحلف به إلا منافق). أسند جميعه الثعلبي رحمه الله في كتابه. وروى الدارقطني قال: حدثنا أبو العباس محمد بن موسى بن علي الدولابي ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا الحسن بن عرفة قال حدثنا إسماعيل بن عياش عن حميد بن مالك اللخمي عن مكحول عن معاذ بن جبل قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ ما خلق الله شيئا على وجه الأرض أحب إليه من العتاق ولا خلق الله شيئا على وجه الأرض أبغض من الطلاق. فإذا قال الرجل لمملوكه أنت حر إن شاء الله فهو حر ولا استئناء له وإذا قال الرجل لامرأته أنت طالق إن شاء الله فله استثناؤه ولا طلاق عليه). حدثنا محمد بن موسى بن علي قال: حدثنا حميد بن الربيع قال حدثنا يزيد بن هارون حدثنا إسماعيل بن عياش بإسناده نحوه. قال حميد: قال لي يزيد بن هارون: وأي حديث لو كان حميد بن مالك معروفا؟ قلت: هو جدي. قال يزيد: سررتني سررتني! الآن صار حديثا. حدثنا عثمان بن أحمد الدقاق قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن سنين حدثنا عمر بن إبراهيم بن خالد حدثنا حميد بن مالك اللخمي حدثنا مكحول عن مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق فمن طلق واستثنى فله ثنياه). قال ابن المنذر: اختلفوا في الاستثناء في الطلاق والعتق؛ فقالت طائفة: ذلك جائز. وروينا هذا القول عن طاوس. وبه قال حماد الكوفي والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي. ولا يجوز الاستثناء في الطلاق في قول مالك والأوزاعي. وهذا قول قتادة في الطلاق خاصة. قال ابن المنذر: وبالقول الأول أقول.
روى الدارقطني من حديث عبدالرزاق أخبرني عمي وهب بن نافع قال سمعت عكرمة يحدث عن ابن عباس يقول: الطلاق على أربعة وجوه: وجهان حلالان ووجهان حرامان؛ فأما الحلال فأن يطلقها طاهرا عن غير جماع وأن اطلقها حاملا مستبينا حملها. وأما الحرام فأن يطلقها وهي حائض، أو يطلقها حين يجامعها، لا تدري اشتمل الرحم على ولد أم لا.
قوله تعالى: "فطلقوهن لعدتهن" في كتاب أبي داود عن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية أنها طلقت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن للمطلقة عدة، فأنزل الله سبحانه حين طلقت أسماء بالعدة للطلاق؛ فكانت أول من أنزل فيها العدة للطلاق. وقد تقدم. قوله تعالى: "لعدتهن" يقتضي أنهن اللاتي دخل بهن من الأزواج؛ لأن غير المدخول بهن خرجن بقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها" [الأحزاب: 49].
من طلق في طهر لم يجامع فيه نفذ طلاقه وأصاب السنة. وإن طلقها حائضا نفذ طلاقه وأخطأ السنة. وقال سعيد بن المسيب في أخرى: لا يقع الطلاق في الحيض لأنه خلاف السنة. وإليه ذهبت الشيعة. وفي الصحيحين - واللفظ للدارقطني - عن عبدالله بن عمر قال: طلقت امرأتي وهي حائض؛ فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ليراجعها ثم ليمسكها حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها فيها فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا من حيضتها قبل أن يمسها فذلك الطلاق للعدة كما أمر الله). وكان عبدالله بن عمر طلقها تطليقة، فحسبت من طلاقها وراجعها عبدالله بن عمر كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم. في رواية عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (هي واحدة). وهذا نص. وهو يرد على الشيعة قولهم.
عن عبدالله بن مسعود قال: طلاق السنة أن يطلقها في كل طهر تطليقة؛ فإذا كان آخر ذلك فتلك العدة التي أمر الله تعالى بها. رواه الدارقطني عن الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبدالله. قال علماؤنا: طلاق السنة ما جمع شروطا سبعة: وهو أن يطلقها واحدة، وهي ممن تحيض، طاهرا، لم يمسها في ذلك الطهر، ولا تقدمه طلاق في حيض، ولا تبعه طلاق في طهر يتلوه، وخلا عن العوض. وهذه الشروط السبعة من حديث ابن عمر المتقدم. وقال الشافعي: طلاق السنة أن يطلقها في كل طهر خاصة، ولو طلقها ثلاثا في طهر لم يكن بدعة. وقال أبو حنيفة: طلاق السنة أن يطلقها في كل طهر طلقة. وقال الشعبي: يجوز أن يطلقها في طهر جامعها فيه. فعلماؤنا قالوا: يطلقها واحدة في طهر لم يمس فيه، ولا تبعه طلاق في عدة، ولا يكون الظهر تاليا لحيض وقع فيه الطلاق؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مرة فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق. فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء). وتعلق الإمام الشافعي بظاهر قوله تعالى: "فطلقوهن لعدتهن" وهذا عام في كل طلاق كان واحدة أو اثنتين أو أكثر. وإنما راعى الله سبحانه الزمان في هذه الآية ولم يعتبر العدد. وكذلك حديث ابن عمر لأن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الوقت لا العدد. قال ابن العربي: "وهذه غفلة عن الحديث الصحيح؛ فإنه قال: (مرة فليراجعها) وهذا يدفع الثلاث. وفي الحديث أنه قال: أرأيت لو طلقها ثلاثا؟ قال حرمت عليك وبانت منك بمعصية. وقال أبو حنيفة: ظاهر الآية يدل على أن الطلاق الثلاث والواحدة سواء. وهو مذهب الشافعي لولا قوله بعد ذلك: "لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا". وهذا يبطل دخول الثلاث تحت الآية. وكذلك قال أكثر العلماء؛ وهو بديع لهم. وأما مالك فلم يخف عليه إطلاق الآية كما قالوا، ولكن الحديث فسرها كما قلنا. وأما قول الشعبي: إنه يجوز طلاق في طهر جامعها فيه، فيرده حديث ابن عمر بنصه ومعناه. أما نصه فقد قدمناه، وأما معناه فلأنه إذا منع من طلاق الحائض لعدم الاعتداد به، فالطهر المجامع فيه أولى بالمنع؛ لأنه يسقط الاعتداد به مخافة شغل الرحم وبالحيض التالي له.
قلت: وقد احتج الشافعي في طلاق الثلاث بكلمة واحدة بما رواه الدارقطني عن سلمة بن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبيه أن عبدالرحمن بن عوف طلق امرأته تماضر بنت الأصبغ الكلبية وهي أم أبي سلمة ثلاث تطليقات في كلمة واحدة؛ فلم يبلغنا أن أحدا من أصحابه عاب ذلك. قال: وحدثنا سلمة بن أبي سلمة عن أبيه أن حفص بن المغيرة طلق امرأته فاطمة بنت قيس على عهد رسول اله صلى الله عليه وسلم ثلاث تطليقات في كلمة؛ فأبانها منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم عاب ذلك عليه. واحتج أيضا بحديث عويمر العجلاني لما لاعن قال: يا رسول الله، هي طالق ثلاث. فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم. وقد انفصل علماؤنا عن هذا أحسن انفصال. بيانه في غير هذا الموضع. وقد ذكرناه في كتاب (المقتبس من شرح موطأ مالك بن أنس). وعن سعيد بن المسيب وجماعة من التابعين أن من خالف السنة في الطلاق فأوقعه في حيض أو ثلاث لم يقع؛ فشبهوه بمن وكل بطلاق السنة فخالف.
قال الجرجاني: اللام في قوله تعالى: "لعدتهن" بمعنى في؛ كقوله تعالى: "هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر" [الحشر: 2]. أي في أول الحشر. فقوله: "لعدتهن" أي في عدتهن؛ أي في الزمان الذي يصلح لعدتهن. وحصل الإجماع على أن الطلاق في الحيض ممنوع وفي الطهر مأذون فيه. ففيه دليل على أن القرء هو الطهر. وقد مضى القول فيه في "البقرة" فإن قيل: معنى "فطلقوهن لعدتهن" أي في قبل عدتهن، أو لقبل عدتهن. وهي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما قال ابن عمر في صحيح مسلم وغيره. فقيل العدة آخر الطهر حتى يكون القرء الحيض، قيل له: هذا هو الدليل الواضح لمالك ومن قال بقوله؛ على أن الأقراء هي الأطهار. ولو كان كما قال الحنفي ومن تبعه لوجب أن يقال: إن من طلق في أول الطهر لا يكون مطلقا لقبل الحيض؛ لأن الحيض لم يقبل بعد. وأيضا إقبال الحيض يكون بدخول الحيض، وبانقضاء الطهر لا يتحقق إقبال الحيض. ولو كان إقبال الشيء إدبار ضده لكان الصائم مفطرا قبل مغيب الشمس؛ إذ الليل يكون مقبلا في إدبار النهار قبل انقضاء النهار. ثم إذا طلق في آخر الطهر فبقية الطهر قرء، ولأن بعض القرء يسمى قرءا لقوله تعالى: "الحج أشهر معلومات" [البقرة: 197] يعني شوالا وذا القعدة وبعض ذي الحجة؛ لقوله تعالى: "فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه" [البقرة: 203] وهو ينفر في بعض اليوم الثاني. وقد مضى هذا كله في "البقرة" مستوفى.
قوله تعالى: "وأحصوا العدة" يعني في المدخول بها؛ لأن غير المدخول بها لا عدة عليها، وله أن يراجعها فيما دون الثلاث قبل انقضاء العدة، ويكون بعدها كأحد الخطاب. ولا تحل له في الثلاث إلا بعد زوج. قوله تعالى: "وأحصوا العدة" معناه احفظوها؛ أي احفظوا الوقت الذي وقع فيه الطلاق، حتى إذا انفصل المشروط منه وهو الثلاثة قروء في قوله تعالى: "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" [البقرة: 228] حلت للأزواج. وهذا يدل على أن العدة هي الأطهار وليست بالحيض. ويؤكده ويفسره قراءة النبي صلى الله عليه وسلم "لقبل عدتهن" وقبل الشيء بعضه لغة وحقيقة، بخلاف استقباله فإنه يكون غيره.
من المخاطب بأمر الإحصاء؟ وفيه ثلاث أقوال: أحدها: أنهم الأزواج. الثاني: أنهم الزوجات. الثالث: أنهم المسلمون. ابن العربي: "والصحيح أن المخاطب بهذا اللفظ الأزواج؛ لأن الضمائر كلها من "طلقتم" و"أحصوا" و"لا تخرجوا" على نظام واحد يرجع إلى الأزواج، ولكن الزوجات داخلة فيه بالإلحاق بالزوج؛ لأن الزوج يحصي ليراجع، وينفق أو يقطع، وليسكن أو يخرج وليلحق نسبه أو يقطع. وهذه كلها أمور مشتركة بينه وبين المرأة، وتنفرد المرأة دونه بغير ذلك. وكذلك الحاكم يفتقر إلى الإحصاء للعدة للفتوى عليها، وفصل الخصومة عند المنازعة فيها. وهذه فوائد الإحصاء المأمور به".
قوله تعالى: "واتقوا الله ربكم" أي لا تعصوه. "لا تخرجوهن من بيوتهن" أي ليس للزوج أن يخرجها من مسكن النكاح ما دامت في العدة، ولا يجوز لها الخروج أيضا لحق الزوج إلا لضرورة ظاهرة، فإن خرجت أثمت ولا تنقطع العدة. والرجعية والمبتوتة في هذا سواء. وهذا لصيانة ماء الرجل. وهذا معنى إضافة البيوت إليهن؛ كقوله تعالى: "واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة" [الأحزاب: 34]، وقوله تعالى: "وقرن في بيوتكن" [الأحزاب: 33] فهو إضافة إسكان وليس إضافة تمليك. وقوله: "لا تخرجوهن" يقتضي أن يكون حقا في الأزواج. ويقتضي قوله: "ولا يخرجن" أنه حق على الزوجات. وفي صحيح الحديث عن جابر بن عبدالله قال: طلقت خالتي فأرادت أن تجد نخلها فزجرها رجل أن تخرج؛ فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (بلى فجدي نخلك فإنك عسى أن تصدقي أو تفعلي معروفا). خرجه مسلم. ففي هدا الحديث دليل لمالك والشافعي وابن حنبل والليث على قولهم: أن المعتدة تخرج بالنهار في حوائجها، وإنما تلزم منزلها بالليل. وسواء عند مالك كانت رجعية أو بائنة. وقال الشافعي في الرجعية: لا تخرج ليلا ولا نهارا، وإنما تخرج نهارا المبتوتة. وقال أبو حنيفة: ذلك في المتوفي عنها زوجها، وأما المطلقة فلا تخرج لا ليلا ولا نهارا. والحديث يرد عليه.
وفي الصحيحين أن أبا حفص بن عمرو خرج مع علي بن أبي طالب إلى اليمن، فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطلقة كانت بقيت من طلاقها، وأمر لها الحارث بن هشام وعياش بن أبي ربيعة بنفقة؛ فقالا لها: والله مالك من نفقة إلا أن تكوني حاملا. فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له قولهما. فقال: (لا نفقة لك)، فاستأذنته في الانتقال فأذن لها؛ فقالت: أين يا رسول الله؟ فقال: (إلى ابن أم مكتوم)، وكان أعمى تضع ثيابها عنده ولا يراها. فلما مضت عدتها أنكحها النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد. فأرسل إليها مروان قبيصة بن ذؤيب يسألها عن الحديث، فحدثته. فقال مروان: لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة، سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها. فقالت فاطمة حين بلغها قول مروان: فبيني وبينكم القرآن، قال الله عز وجل: "لا تخرجوهن من بيوتهن" الآية، قالت: هذا لمن كانت له رجعة؛ فأي أمر يحدث بعد الثلاث؟ فكيف تقولون: لا نفقة لها إذا لم تكن حاملا، فعلام تحبسونها؟ لفظ مسلم. فبين أن الآية في تحريم الإخراج والخروج إنما هو في الرجعية. وكذلك استدلت فاطمة بأن الآية التي تليها إنما تضمنت النهي عن خروج المطلقة الرجعية؛ لأنها بصدد أن يحدث لمطلقها رأي في أرتجاعها ما دامت في عدتها؛ فكأنها تحت تصرف الزوج في كل وقت. وأما البائن فليس له شيء من ذلك؛ فيجوز لها أن تخرج إذا دعتها إلى ذلك حاجة، أو خافت عورة منزلها؛ كما أباح لها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. وفي مسلم - قالت فاطمة يا رسول الله، زوجي طلقني ثلاثا وأخاف أن يقتحم علي. قال: فأمرها فتحولت.
وفي البخاري عن عائشة أنها كانت في مكان وحش فخيف على ناحيتها؛ فلذلك أرخص النبي صلى الله عليه وسلم لها. وهذا كله يرد على الكوفي قول. وفي حديث فاطمة: أن زوجها أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت من طلاقها؛ فهو حجة لمالك وحجة على الشافعي. وهو أصح من حديث سلمة بن أبي سلمة عن أبيه أن حفص بن المغيرة طلق امرأته ثلاث تطليقات في كلمة؛ على ما تقدم.
قوله تعالى: "إلا أن يأتين بفاحشة مبينة" قال ابن عباس وابن عمر والحسن والشعبي ومجاهد: هو الزنى؛ فتخرج ويقام عليها الحد. وعن ابن عباس أيضا والشافعي: أنه البذاء على أحمائها؛ فيحل لهم إخراجها. وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال في فاطمة: تلك امرأة استطالت على أحمائها بلسانها فأمرها عليه السلام أن تنتقل. وفي كتاب أبي داود قال سعيد: تلك امرأة فتنت الناس، إنها كانت لسنة فوضعت على يدي ابن أم مكتوم الأعمى. قال عكرمة: في مصحف أبي "إلا أن يفحشن عليكم". ويقوي هذا أن محمد بن إبراهيم بن الحارث روي أن عائشة قالت لفاطمة بنت قيس: اتقي الله فإنك تعلمين لم أخرجت؟ وعن ابن عباس أيضا: الفاحشة كل معصية كالزنى والسرقة والبذاء على الأهل. وهو اختيار الطبري. وعن ابن عمر أيضا والسدي: الفاحشة خروجها من بيتها في العدة. وتقدير الآية: إلا أن يأتين بفاحشة مبينة بخروجهن من بيوتهن بغير حق؛ أي لو خرجت كانت عاصية. وقال قتادة: الفاحشة النشوز، وذلك أن يطلقها على النشوز فتتحول عن بيته. قال ابن العربي: أما من قال إنه الخروج للزنى؛ فلا وجه له؛ لأن ذلك الخروج هو خروج القتل والإعدام: وليس ذلك بمستثنى في حلال ولا حرام. وأما من قال: إنه البذاء؛ فهو مفسر في حديث فاطمة بنت قيس. وأما من قال: إنه كل معصية؛ فوهم لأن الغيبة ونحوها من المعاصي لا تبيح الإخراج ولا الخروج. وأما من قال: إنه الخروج بغير حق؛ فهو صحيح. وتقدير الكلام: لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن شرعا إلا أن يخرجن تعديا.
قوله تعالى: "وتلك حدود الله" أي هذه الأحكام التي بينها أحكام الله على العباد، وقد منع التجاوز عنها فمن تجاوز فقد ظلم نفسه وأوردها مورد الهلاك. "لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا" الأمر الذي يحدثه الله أن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها، ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه؛ فيراجعها. وقال جميع المفسرين: أراد بالأمر هنا الرغبة في الرجعة. ومعنى القول: التحريض على طلاق الواحدة والنهي عن الثلاث؛ فإنه إذا طلق أضر بنفسه عند الندم على الفراق والرغبة في الارتجاع، فلا يجد عند الرجعة سبيلا. وقال مقاتل: "بعد ذلك" أي بعد طلقة أو طلقتين "أمرا" أي المراجعة من غير خلاف.
الآية: 2 - 3 {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا، ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدر}
قوله تعالى: "فإذا بلغن أجلهن" أي قاربن انقضاء العدة؛ كقوله تعالى: "وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن" [البقرة: 231] أي قربن من انقضاء الأجل. "فأمسكوهن بمعروف" يعني المراجعة بالمعروف؛ أي بالرغبة من غير قصد المضارة في الرجعة تطويلا لعدتها. كما تقدم في "البقرة". "أو فارقوهن بمعروف" أي اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فيملكن أنفسهن. وفي قوله تعالى: "فإذا بلغن أجلهن" ما يوجب أن يكون القول قول المرأة في انقضاء العدة إذا أدعت ذلك، على ما بيناه في سورة "البقرة" عند قوله تعالى: "ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" [البقرة: 228] الآية.
قوله تعالى: "وأشهدوا" أمر بالإشهاد على الطلاق. وقيل: على الرجعة. والظاهر رجوعه إلى الرجعة لا إلى الطلاق. فإن راجع من غير إشهاد ففي صحة الرجعة قولان للفقهاء. وقيل: المعنى وأشهدوا عند الرجعة والفرقة جميعا. وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة؛ كقوله تعالى: "وأشهدوا إذا تبايعتم" [البقرة: 282]. وعند الشافعي واجب في الرجعة، مندوب إليه في الفرقة. وفائدة الإشهاد ألا يقع بينهما التجاحد، وإلا يتهم في إمساكها، ولئلا يموت أحدهما فيدعي الباقي ثبوت الزوجية ليرث.
الإشهاد عند أكثر العلماء على الرجعة ندب. وإذا جامع أو قبل أو باشر يريد بذلك الرجعة، وتكلم بالرجعة يريد به الرجعة فهو مراجع عند مالك، وإن لم يرد بذلك الرجعة فليس بمراجع. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا قبل أو باشر أو لامس بشهوة فهو رجعة. وقالوا: والنظر إلى الفرج رجعة. وقال الشافعي وأبو ثور: إذا تكلم بالرجعة فهو رجعة. وقد قيل: وطؤه مراجعة على كل حال، نواها أو لم ينوها. وروي ذلك عن طائفة من أصحاب مالك. وإليه ذهب الليث. وكان مالك يقول: إذا وطئ ولم ينو الرجعة فهو وطء فاسد؛ ولا يعود لوطئها حتى يستبرئها من مائه الفاسد، وله الرجعة في بقية العدة الأولى، وليس له رجعة في هذا الاستبراء.
أوجب الإشهاد في الرجعة أحمد بن حنبل في أحد قوليه، والشافعي كذلك لظاهر الأمر. وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد والشافعي في القول الآخر: إن الرجعة لا تفتقر إلى القبول، فلم تفتقر إلى الإشهاد كسائر الحقوق، وخصوصا حل الظهار بالكفارة. قال ابن العربي: وركب أصحاب الشافعي على وجوب الإشهاد في الرجعة أنه لا يصح أن يقول: كنت راجعت أمس وأنا أشهد اليوم على الإقرار بالرجعة، ومن شرط الرجعة الإشهاد فلا تصح دونه. وهذا فاسد مبني على أن الإشهاد في الرجعة تعبد. ونحن لا نسلم فيها ولا في النكاح بأن نقول: إنه موضع للتوثق، وذلك موجود في الإقرار كما هو موجود في الإنشاء.
من ادعى بعد انقضاء العدة أنه راجع امرأته في العدة، فإن صدقته جاز وإن أنكرت حلفت، فإن أقام بينة أنه ارتجعها في العدة ولم تعلم بذلك لم يضره جهلها بذلك، وكانت زوجته، وإن كانت قد تزوجت ولم يدخل بها ثم أقام الأول البينة على رجعتها فعن مالك في ذلك روايتان: إحداهما: أن الأول أحق بها. والأخرى: أن الثاني أحق بها. فإن كان الثاني قد دخل بها فلا سبيل للأول إليها.
قوله تعالى: "ذوي عدل منكم" قال الحسن: من المسلمين. وعن قتادة: من أحراركم. وذلك يوجب اختصاص الشهادة على الرجعة بالذكور دون الإناث؛ لأن "ذوي" مذكر. ولذلك قال علماؤنا: لا مدخل للنساء فيما عدا الأموال. وقد مضى ذلك في سورة "البقرة". "وأقيموا الشهادة لله" أي تقربا إلى الله في إقامة الشهادة على وجهها، إذا مست الحاجة إليها من غير تبديل ولا تغيير. وقد مضى في سورة "البقرة" معناه عند قوله تعالى: "وأقوم للشهادة" [البقرة: 282]. "ذلكم يوعظ به" أي يرضى به. "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر" فأما غير المؤمن فلا ينتفع بهذه المواعظ.
قوله تعالى: "ومن يتق الله يجعل له مخرجا" عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عمن طلق ثلاثا أو ألفا هل له من مخرج؟ فتلاها. وقال ابن عباس والشعبي والضحاك: هذا في الطلاق خاصة؛ أي من طلق كما أمره الله يكن له مخرج في الرجعة في العدة، وأن يكون كأحد الخطاب بعد العدة. وعن ابن عباس أيضا "يجعل له مخرجا" ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة. وقيل: المخرج هو أن يقنعه الله بما رزقه؛ قاله علي بن صالح. وقال الكلبي: "ومن يق الله" بالصبر عند المصيبة. "يجعل له مخرجا" من النار إلى الجنة. وقال الحسن: مخرجا مما نهى الله عنه. وقال أبو العالية: مخرجا من كل شدة. الربيع بن خيثم: "يجعل له مخرجا" من كل شيء ضاق على الناس. الحسين بن الفضل: "ومن يتق الله" في أداء الفرائض، "يجعل له مخرجا" من العقوبة. "ويرزقه" الثواب "من حيث لا يحتسب" أي يبارك له فيما آتاه. وقال سهل بن عبدالله: "ومن يتق الله" في أتباع السنة "يجعل له مخرجا" من عقوبة أهل البدع، ويرزقه الجنة من حيث لا يحتسب. وقيل: "ومن يتق الله" في الرزق بقطع العلائق يجعل له مخرجا بالكفاية. وقال عمر بن عثمان الصدفي: "ومن يتق الله" فيقف عند حدوده ويجتنب معاصيه يخرجه من الحرام إلى الحلال، ومن الضيق إلى السعة، ومن النار إلى الجنة. "ويرزقه من حيث لا يحتسب" من حيث لا يرجو. وقال ابن عيينة: هو البركة في الرزق. وقال أبو سعيد الخدري: ومن يبرأ من حوله وقوته بالرجوع إلى الله يجعل له مخرجا مما كلفه بالمعونة له. وتأول ابن مسعود ومسروق الآية على العموم. وقال أبو ذر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنى لأعلم آية لو أخذ بها الناس لكفتهم - ثم تلا - "ومن يق الله يجعل له مخرجا. ويرزقه من حيث لا يحتسب"). فما زال يكررها ويعيدها.
وقال ابن عباس: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم "ومن يتق الله يجعل له مخرجا. ويرزقه من حيث لا يحتسب" قال: (مخرجا من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم القيامة). وقال أكثر المفسرين فيما ذكر الثعلبي: إنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي. روي الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: جاء عوف بن مالك الأشجعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن ابني أسره العدو وجزعت الأم. وعن جابر بن عبدالله: نزلت في عوف بن مالك الأشجعي أسر المشركون ابنا له يسمى سالما، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه الفاقة وقال: إن العدو أسر ابني وجزعت الأم، فما تأمرني؟ فقال عليه السلام: (أتق الله وأصبر وآمرك وإياها أن تستكثرا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله). فعاد إلى بيته وقال لامرأته: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني وإياك أن نستكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله. فقالت: نعم ما أمرنا به. فجعلا يقولان؛ فغفل العدو عن ابنه، فساق غنمهم وجاء بها إلى أبيه؛ وهي أربعة آلاف شاة. فنزلت الآية، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم تلك الأغنام له. في رواية: أنه جاء وقد أصاب إبلا من العدو وكان فقيرا. قال الكلبي: أصاب خمسين بعيرا. وفي رواية: فأفلت ابنه من الأسر وركب ناقة للقوم، ومر في طريقه بسرح لهم فاستاقه. وقال مقاتل: أصاب غنما ومتاعا فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: أيحل لي أن آكل مما أتى به ابني؟ قال: (نعم). ونزلت: "ومن يتق الله يجعل له مخرجا. ويرزقه من حيث لا يحتسب". فروي الحسن عن عمران بن الحصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من انقطع إلى الله كفاه الله كل مؤونة ورزقه من حيث لا يحتسب. ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها). وقال الزجاج: أي إذا اتقى وآثر الحلال والتصبر على أهله، فتح الله عليه إن كان ذا ضيقة ورزقه من حيث لا يحتسب. وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب).
قوله تعالى: "ومن يتوكل على الله فهو حسبه" أي من فوض إليه أمره كفاه ما أهمه. وقيل: أي من اتقى الله وجانب المعاصي وتوكل عليه، فله فيما يعطيه في الآخرة من ثوابه كفاية. ولم يرد الدنيا؛ لأن المتوكل قد يصاب في الدنيا وقد يقتل. "إن الله بالغ أمره" قال مسروق: أي قاض أمره فيمن توكل عليه وفيمن لم يتوكل عليه؛ إلا أن من توكل عليه فيكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا. وقراءة العامة "بالغ" منونا. "أمره" نصبا. وقرأ عاصم "بالغ أمره" بالإضافة وحذف التنوين استخفافا. وقرأ المفضل "بالغا أمره" على أن قوله: "قد جعل الله" خبر "إن" و"بالغا" حال. وقرأ داود بن أبي هند "بالغ أمره" بالتنوين ورفع الراء. قال الفراء: أي أمره بالغ. وقيل: "أمره" مرتفع "ببالغ" والمفعول محذوف؛ والتقدير: بالغ أمره ما أراد. "قد جعل الله لكل شيء قدرا" أي لكل شيء من الشدة والرخاء أجلا ينتهي إليه. وقيل تقديرا. وقال السدي: هو قدر الحيض في الأجل والعدة. وقال عبدالله بن رافع: لما نزل قوله تعالى: "ومن يتوكل على الله فهو حسبه" قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فنحن إذا توكلنا عليه نرسل ما كان لنا ولا نحفظه؛ فنزلت: "إن الله بالغ أمره" فيكم وعليكم. وقال الربيع بن خيثم: إن الله تعالى قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه ومن آمن به هداه، ومن أقرضه جازاه، ومن وثق به نجاه، ومن دعاه أجاب له. وتصديق ذلك في كتاب الله: "ومن يؤمن بالله يهد قلبه" [التغابن: 11]. "ومن يتوكل على الله فهو حسبه" [الطلاق: 3]. "إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم" [التغابن: 17]. "ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم" [آل عمران: 101]. "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان" [البقرة: 186].
الآية: 4 - 5 {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا، ذلك أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجر}
قوله تعالى: "واللائي يئسن من المحيض من نسائكم" لما بين أمر الطلاق والرجعة في التي تحيض، وكانوا قد عرفوا عدة ذوات الأقراء، عرفهم في هذه السورة عدة التي لا ترى الدم وقال أبو عثمان عمر بن سالم: لما نزلت عدة النساء في سورة "البقرة" في المطلقة والمتوفى عنها زوجها قال أبي بن كعب: يا رسول الله، إن ناسا يقولون قد بقي من النساء من لم يذكر فيهن شيء: الصغار وذوات الحمل، فنزلت: "واللائي يئسن" الآية. وقال مقاتل: لما ذكر قوله تعالى: "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" [البقرة: 228] قال خلاد بن النعمان: يا رسول الله، فما عدة التي لم تحض، وعدة التي انقطع حيضها، وعدة الحبلى؟ فنزلت: "واللائي يئسن من المحيض من نسائكم" يعني قعدن عن المحيض. وقيل: إن معاذ بن جبل سأل عن عدة الكبيرة التي يئست؛ فنزلت الآية. والله أعلم. وقال مجاهد: الآية واردة في المستحاضة لا تدري دم حيض هو أو دم علة.
قوله تعالى: "إن ارتبتم" أي شككتم، وقيل تيقنتم. وهو من الأضداد؛ يكون شكا ويقينا كالظن. واختيار الطبري أن يكون المعنى: إن شككتم فلم تدروا ما الحكم فيهن. وقال الزجاج: إن ارتبتم في حيضها وقد انقطع عنها الحيض وكانت ممن يحيض مثلها. القشيري: وفي هذا نظر؛ لأنا إذا شككنا هل بلغت سن اليأس لم نقل عدتها ثلاثة أشهر. والمعتبر في سن اليأس في قول؛ أقصى عادة امرأة في العالم، وفي قوله: غالب نساء عشيرة المرأة. وقال مجاهد: قوله "إن ارتبتم" للمخاطبين؛ يعني إن لم تعلموا كم عدة اليائسة والتي لم تحض فالعدة هذه. وقيل: المعنى إن ارتبتم أن الدم الذي يظهر منها من أجل كبر أو من الحيض المعهود أو من الاستحاضة فالعدة ثلاثة أشهر. وقال عكرمة وقتادة: من الريبة المرأة المستحاضة التي لا يستقيم لها الحيض؛ تحيض في أول الشهر مرارا وفي الأشهر مرة. وقيل: إنه متصل بأول السورة. والمعنى: لا تخرجوهن من بيوتهن إن ارتبتم في انقضاء العدة. وهو أصح ما قيل فيه.
المرتابة في عدتها لا تنكح حتى تستبرئ نفسها من ريبتها ولا تخرج من العدة إلا بارتفاع الريبة. وقد قيل في المرتابة التي ترفعها حيضتها وهي لا تدري ما ترفعها: إنها تنتظر سنة من يوم طلقها زوجها؛ منها تسعة أشهر استبراء، وثلاثة عدة. فإن طلقها فحاضت حيضة أو حيضتين ثم ارتفع عنها بغير يأس منها انتظرت تسعة أشهر، ثم ثلاثة من يوم طهرت من حيضتها ثم حلت للأزواج. وهذا قاله الشافعي بالعراق. فعلى قياس هذا القول تقيم الحرة المتوفى عنها زوجها المستبرأة بعد التسعة أشهر أربعة أشهر وعشرا، والأمة شهرين وخمس ليال بعد التسعة الأشهر. وروي عن الشافعي أيضا أن أقراءها على ما كانت حتى تبلغ سن اليائسات. وهو قول النخعي والثوري وغيرهما، وحكاه أبو عبيد عن أهل العراق.
فإن كانت المرأة شابة استؤني بها هل هي حامل أم لا؛ فإن استبان حملها فإن أجلها وضعه. وإن لم يستبن فقال مالك: عدة التي ارتفع حيضها وهي شابة سنة. وبه قال أحمد وإسحاق ورووه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره. وأهل العراق يرون أن عدتها ثلاث حيض بعد ما كانت حاضت مرة واحدة في عمرها، وإن مكثت عشرين سنة، إلا أن تبلغ من الكبر مبلغا تيأس فيه من الحيض فتكون عدتها بعد الإياس ثلاثة أشهر. قال الثعلبي: وهذا الأصح من مذهب الشافعي وعليه جمهور العلماء. وروي ذلك عن ابن مسعود وأصحابه. قال الكيا. وهو الحق؛ لأن الله تعالى جعل عدة الآيسة ثلاثة أشهر؛ والمرتابة ليست آيسة.
وأما من تأخر حيضها لمرض؛ فقال مالك وابن القاسم وعبدالله بن أصبغ: تعتد تسعة أشهر ثم ثلاثة. وقال أشهب: هي كالمرضع بعد الفطام بالحيض أو بالسنة. وقد طلق حبان بن منقذ. امرأته وهي ترضع؛ فمكثت سنة لا تحيض لأجل الرضاع، ثم مرض حبان فخاف أن ترثه فخاصمها إلى عثمان وعنده علي وزيد، فقالا: نرى أن ترثه؛ لأنها ليست من القواعد ولا من الصغار؛ فمات حبان فورثته واعتدت عدة الوفاة.
ولو تأخر الحيض لغير مرض ولا رضاع فإنها تنتظر سنة لا حيض فيها، تسعة أشهر ثم ثلاثة؛ على ما ذكرناه. فتحل ما لم ترتب بحمل؛ فإن أرتابت بحمل أقامت أربعة أعوام، أو خمسة، أو سبعة؛ على اختلاف الروايات عن علمائنا. ومشهورها خمسة أعوام؛ فإن تجاوزتها حلت. وقال أشهب: لا تحل أبدا حتى تنقطع عنها الريبة. قال ابن العربي: وهو الصحيح؛ لأنه إذا جاز أن يبقى الولد في بطنها خمسة أعوام جاز أن يبقى عشرة وأكثر من ذلك. وقد روي عن مالك مثله.
وأما التي جهل حيضها بالاستحاضة ففيها ثلاثة أقوال: قال ابن المسيب: تعتد سنة. وهو قول الليث. قال الليث: عدة المطلقة وعدة المتوفى عنها زوجها إذا كانت مستحاضة سنه. وهو مشهور قول علمائنا؛ سواء علمت دم حيضها من دم استحاضتها، وميزت ذلك أو لم تميزه، عدتها في ذلك كله عند مالك في تحصيل مذهبه سنة؛ منها تسعة أشهر استبراء وثلاثة عدة. وقال الشافعي في أحد أقواله: عدتها ثلاثة أشهر. وهو قول جماعة من التابعين والمتأخرين من القرويين. ابن العربي: وهو الصحيح عندي. وقال أبو عمر: المستحاضة إذا كان دمها ينفصل فعلمت إقبال حيضتها أو إدبارها أعتدت ثلاثة قروء. وهذا أصح في النظر، وأثبت في القياس والأثر.
قوله تعالى: "واللائي لم يحضن" يعني الصغيرة فعدتهن ثلاثة أشهر؛ فأضمر الخبر. وإنما كانت عدتها بالأشهر لعدم الأقراء فيها عادة، والأحكام إنما أجراها الله تعالى على العادات؛ فهي تعتد بالأشهر. فإذا رأت الدم في زمن احتماله عند النساء أنتقلت إلى الدم لوجود الأصل، وإذا وجد الأصل لم يبق للبدل حكم؛ كما أن المسنة إذا اعتدت بالدم ثم ارتفع عادت إلى الأشهر. وهذا إجماع.
قوله تعالى: "وأولات الأحمال أجلهن" وضع الحمل، وإن كان ظاهرا في المطلقة لأنه عليها عطف وإليها رجع عقب الكلام؛ فإنه في المتوفى عنها زوجها كذلك؛ لعموم الآية وحديث سبعة. وقد مضى في "البقرة" القول فيه مستوفى.
إذا وضعت المرأة ما وضعت من علقة أو مضغة حلت. وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا تحل إلا بما يكون ولدا. وقد مضى القول فيه في سورة "البقرة" وسورة "الرعد" والحمد لله.
قوله تعالى: "ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا" قال الضحاك: أي من يتقه في طلاق السنة يجعل له من أمره يسرا في الرجعة. مقاتل: ومن يتق الله في أجتناب معاصيه يجعل له من أمره يسرا في توفيقه للطاعة. "ذلك أمر الله" أي الذي ذكر من الأحكام أمر الله أنزله إليكم وبينه لكم. "ومن يتق الله" أي يعمل بطاعته. "يكفر عنه سيئاته" من الصلاة إلى الصلاة، ومن الجمعة إلى الجمعة. "ويعظم له أجرا" أي في الآخرة.