تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 568 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 568

568- تفسير الصفحة رقم568 من المصحف
الآية: 35 - 37 {فليس له اليوم هاهنا حميم، ولا طعام إلا من غسلين، لا يأكله إلا الخاطئون}
قوله تعالى: "فليس له اليوم هاهنا حميم" خبر "ليس" قوله: "له" ولا يكون الخبر قوله: "ها هنا" لأن المعنى يصير: ليس ها هنا طعام إلا من غسلين، ولا يصح ذلك؛ لأن ثم طعاما غيره. و"ها هنا" متعلق بما في "له" من معنى الفعل. والحميم ها هنا القريب. أي ليس له قريب يرق له ويدفع عنه. وهو مأخوذ من الحميم وهو الماء الحار؛ كأنه الصديق الذي يرق ويحترق قلبه له. والغسلين فعلين من الغسل؛ فكأنه ينغسل من أبدانهم، وهو صديد أهل النار السائل من جروحهم وفروجهم؛ عن ابن عباس. وقال الضحاك والربيع بن أنس: هو شجر يأكله أهل النار. والغسل (بالكسر): ما يغسل به الرأس من خطمي وغيره. الأخفش: ومنه الغسلين، وهو ما أنغسل من لحوم أهل النار ودمائهم. وزيد فيه الياء والنون كما زيد في عفرين. وقال قتادة: هو شر الطعام وأبشعه. ابن زيد: لا يعلم ما هو ولا الزقوم. وقال في موضع آخر: "ليس لهم طعام إلا من ضريع" [الغاشية: 6] يجوز أن يكون الضريع من الغسلين. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير؛ والمعنى فليس له اليوم ها هنا حميم إلا من غسلين. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير؛ والمعنى فليس له اليوم ها هنا حميم إلا من غسلين؛ ويكون الماء الحار. "ولا طعام" أي وليس لهم طعام ينتفعون به. "لا يأكله إلا الخاطئون" أي المذنبون. وقال ابن عباس: يعني المشركين. وقرئ "الخاطيون" بإبدال الهمزة ياء، و"الخاطون" بطرحها. وعن ابن عباس: ما الخاطون كلنا نخطو. وروى أبو الأسود الدؤلي: ما الخاطون؟ إنما هو الخاطئون. ما الصابون إنما هو الصابئون. ويجوز أن يراد الذي يتخطون الحق إلى الباطل ويتعدون حدود الله عز وجل.
الآية: 38 - 40 {فلا أقسم بما تبصرون، وما لا تبصرون، إنه لقول رسول كريم}
قوله تعالى: "فلا أقسم بما تبصرون. وما لا تبصرون" المعنى أقسم بالأشياء كلها ما ترون منها وما لا ترون. و"لا" صلة. وقيل: هو رد لكلام سبق؛ أي ليس الأمر كما يقوله المشركون. وقال مقاتل: سبب ذلك أن الوليد بن المغيرة قال: إن محمدا ساحر. وقال أبو جهل: شاعر. وقال عقبة: كاهن؛ فقال الله عز وجل: "فلا أقسم" أي أقسم. وقيل: "لا" ها هنا نفي للقسم، أي لا يحتاج في هذا إلى قسم لوضوح الحق في ذلك، وعلى هذا فجوابه كجواب القسم. "إنه" يعني القرآن "لقول رسول كريم" يريد جبريل، قاله الحسن والكلبي ومقاتل. دليله: "إنه لقول رسول كريم. ذي قوة عند ذي العرش" [التكوير:20]. وقال الكلبي أيضا والقتبي: الرسول ها هنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لقوله: "وما هو بقول شاعر" وليس القرآن قول الرسول صلي الله عليه وسلم، إنما هو من قول الله عز وجل ونسب القول إلى الرسول لأنه تاليه ومبلغه والعامل به، كقولنا: هذا قول مالك.
الآية: 41 - 42 {وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون، ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون}
قوله تعالى: "وما هو بقول شاعر" لأنه مباين لصنوف الشعر كلها. "ولا بقول كاهن" لأنه ورد بسب الشياطين وشتمهم فلا ينزلون شيئا على من يسبهم. و"ما" زائدة في قوله: "قليلا ما تؤمنون"، "قليلا ما تتذكرون"؛ والمعنى: قليلا تؤمنون وقليلا تذكرون. وذلك القليل من إيمانهم هو أنهم إذا سئلوا من خلقهم قالوا: الله. ولا يجوز أن تكون "ما" مع الفعل مصدرا وتنصب "قليلا" بما بعد "ما"، لما فيه من تقديم الصلة على الموصول؛ لأن ما عمل فيه المصدر من صلة المصدر. وقرأ ابن محيصن وابن كثير وابن عامر ويعقوب "ما يؤمنون"، و"يذكرون" بالياء. الباقون بالتاء لأن الخطاب قبله وبعده. أما قبله فقوله: "تبصرون" وأما بعده: "فما منكم" الآية.
الآية: 43 {تنزيل من رب العالمين}
قوله تعالى: "تنزيل" أي هو تنزيل. "من رب العالمين" وهو عطف على قوله: "إنه لقول رسول كريم" [الحاقة: 40]، أي إنه لقوله رسول كريم، وهو تنزيل من رب العالمين.
الآية: 44 - 46 {ولو تقول علينا بعض الأقاويل، لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين}
قوله تعالى: "ولو تقول علينا بعض الأقاويل" "تقول" أي تكلف وأتى بقول من قبل نفسه. وقرئ "ولو تقول" على البناء للمفعول. "لأخذنا منه باليمين" أي بالقوة والقدرة، أي لأخذناه بالقوة. و"من" صلة زائدة. وعبر عن القوة والقدرة باليمين لأن قوة كل شيء في ميامنه، قاله القتبي. وهو معنى قول ابن عباس ومجاهد. ومنه قول الشماخ:
إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين
أي بالقوة. عرابة اسم رجل من الأنصار من الأوس. وقال آخر:
ولما رأيت الشمس أشرق نورها تناولت منها حاجتي بيميني
وقال السدي والحكم: "باليمين" بالحق. قال:
تلقاها عرابة باليمين
أي بالاستحقاق. وقال الحسن: لقطعنا يده اليمين. وقيل: المعنى لقبضنا بيمينه عن التصرف؛ قاله نفطويه. وقال أبو جعفر الطبري: إن هذا الكلام خرج مخرج الإذلال على عادة الناس في الأخذ بيد من يعاقب. كما يقول السلطان لمن يريد هوانه: خذوا يديه. أي لأمرنا بالأخذ بيده وبالغنا في عقابه. "ثم لقطعنا منه الوتين" يعني نياط القلب؛ أي لأهلكناه. وهو عرق يتعلق به القلب إذا انقطع مات صاحبه؛ قال ابن عباس وأكثر الناس. قال: إذا بلغتني وحملت رحلي عرابة فأشرقي بدم الوتين وقال مجاهد: هو حبل القلب الذي في الظهر وهو النخاع؛ فإذا انقطع بطلت القوى ومات صاحبه. والموتون الذي قطع وتينه. وقال محمد بن كعب: إنه القلب ومراقه وما يليه. قال الكلبي: إنه عرق بين العلباء والحلقوم. والعلباء: عصب العنق. وهما علباوان بينهما ينبت العرق. وقال عكرمة: إن الوتين إذا قطع لا إن جاع عرف، ولا إن شبع عرف.
الآية: 47 - 48 {فما منكم من أحد عنه حاجزين، وإنه لتذكرة للمتقين}
قوله تعالى: "فما منكم من أحد عنه حاجزين" "ما" نفي و"أحد" في معنى الجمع، فلذلك نعته بالجمع؛ أي فما منكم قوم يحجزون عنه كقوله تعالى: "لا نفرق بين أحد من رسله" [البقرة: 285] هذا جمع، لأن "بين" لا تقع إلا على اثنين فما زاد. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لم تحل الغنائم لأحد سود الرؤوس قبلكم). لفظه واحد ومعناه الجمع. و"من" زائدة. والحجز: المنع. و"حاجزين" يجوز أن يكون صفة لأحد على المعنى كما ذكرنا؛ فيكون في موضع جر. والخبر "منكم". ويجوز أن يكون منصوبا على أنه خبر و"منكم" ملغى، ويكون متعلقا "بحاجزين". ولا يمنع الفصل به من انتصاب الخبر في هذا؛ كما لم يمتنع الفصل به في "إن فيك زيدا راغب". "وإنه" يعني القرآن "لتذكرة للمتقين" أي للخائفين الذين يخشون الله. ونظيره: "فيه هدى للمتقين" [البقرة: 2] على ما بيناه أول سورة البقرة. وقيل: المراد محمد صلى الله عليه وسلم، أي هو تذكرة ورحمة ونجاة.
الآية: 49 - 52 {وإنا لنعلم أن منكم مكذبين، وإنه لحسرة على الكافرين، وإنه لحق اليقين، فسبح باسم ربك العظيم}
قوله تعالى: "وإنا لنعلم أن منكم مكذبين" قال الربيع: بالقرآن. "وإنه لحسرة" يعني التكذيب. والحسرة: الندامة. وقيل: أي وإن القرآن لحسرة على الكافرين يوم القيامة إذا رأوا ثواب من آمن به. وقيل: هي حسرتهم في الدنيا حين لم يقدروا على معارضته عند تحديهم أن يأتوا بسورة مثله. "وإنه لحق اليقين" يعني أن القرآن العظيم تنزيل من الله عزو جل؛ فهو لحق اليقين. وقيل: أي حقا يقينا ليكونن ذلك حسرة عليهم يوم القيامة. فعلى هذا "وإنه لحسرة" أي لتحسر؛ فهو مصدر بمعنى التحسر، فيجوز تذكيره. وقال ابن عباس: إنما هو كقولك: لعين اليقين ومحض اليقين. ولو كان اليقين نعتا لم يجز أن يضاف إليه؛ كما لا تقول: هذا رجل الظريف. وقيل: أضافه إلى نفسه لاختلاف اللفظين. "فسبح باسم ربك العظيم" أي فصل لربك؛ قال ابن عباس. وقيل: أي نزه الله عن السوء والنقائص.
سورة المعارج
مقدمة السورة
وهي مكية باتفاق. وهي أربع وأربعون آية.
الآية: 1 - 4 {سأل سائل بعذاب واقع، للكافرين ليس له دافع، من الله ذي المعارج، تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة}
قوله تعالى: "سأل سائل بعذاب واقع" قرأ نافع وابن عامر "سال سايل" بغير همزة. الباقون بالهمز. فمن همز فهو من السؤال. والباء يجوز أن تكون زائدة، ويجوز أن تكون بمعنى عن. والسؤال بمعنى الدعاء؛ أي دعا داع بعذاب؛ عن ابن عباس وغيره. يقال: دعا على فلان بالويل، ودعا عليه بالعذاب. ويقال: دعوت زيدا؛ أي ألتمست إحضاره. أي التمس ملتمس عذابا للكافرين؛ وهو واقع بهم لا محالة يوم القيامة. وعلى هذا فالباء زائدة؛ كقوله تعالى: "تنبت بالدهن" [المؤمنون: 20]، وقوله. "وهزي إليك بجذع النخلة" [مريم: 25] فهي تأكيد. أي سأل سائل عذابا واقعا. "للكافرين" أي على الكافرين. وهو النضر بن الحارث حيث قال: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم" [الأنفال: 32] فنزل سؤاله، وقتل يوم بدر صبرا هو وعقبة بن أبي معيط؛ لم يقتل صبرا غيرهما؛ قاله ابن عباس ومجاهد. وقيل: إن السائل هنا هو الحارث بن النعمان الفهري. وذلك أنه لما بلغه قول النبي صلى الله عليه وسلم في علي رضي الله عنه: (من كنت مولاه فعلي مولاه) ركب ناقته فجاء حتى أناخ راحلته بالأبطح ثم قال: يا محمد، أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبلناه منك، وأن نصلي خمسا فقبلناه منك، ونزكي أموالنا فقبلناه منك، وأن نصوم شهر رمضان في كل عام فقبلناه منك، وأن نحج فقبلناه منك، ثم لم ترض بهذا حتى فضلت ابن عمك علينا! أفهذا شيء منك أم من الله؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله الذي لا إله إلا هو ما هو إلا من الله) فولى الحارث وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. فوالله ما وصل إلى ناقته حتى رماه الله بحجر فوقع على دماغه فخرج من دبره فقتله؛ فنزلت: "سأل سائل بعذاب واقع" الآية. وقيل: إن السائل هنا أبو جهل وهو القائل لذلك، قال الربيع. وقيل: إنه قول جماعة من كفار قريش. وقيل: هو نوح عليه السلام سأل العذاب على الكافرين. وقيل: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم أي دعا عليه السلام بالعقاب وطلب أن يوقعه الله بالكفار؛ وهو واقع بهم لا محالة. وأمتد الكلام إلى قوله تعالى: "فاصبر صبرا جميلا" [المعارج: 5] أي لا تستعجل فإنه قريب. وإذا كانت الباء بمعنى عن - وهو قول قتادة - فكأن سائلا سأل عن العذاب بمن يقع أو متى يقع. قال الله تعالى: "فاسأل به خبيرا" [الفرقان: 59] أي سل عنه. وقال علقمة:
فإن تسألوني بالنساء فإنني بصير بأدواء النساء طبيب
أي عن النساء. ويقال: خرجنا نسأل عن فلان وبفلان. فالمعنى سألوا بمن يقع العذاب ولمن يكون فقال الله: "للكافرين". قال أبو علي وغيره: وإذا كان من السؤال فأصله أن يتعدى إلى مفعولين ويجوز الاقتصار على أحدهما. وإذا اقتصر على أحدهما جاز أن يتعدى إليه بحرف جر؛ فيكون التقدير سأل سائل النبي صلى الله عليه وسلم أو المسلمين بعذاب أو عن عذاب. ومن قرأ بغير همز فله وجهان: أحدهما: أنه لغة في السؤال وهي لغة قريش؛ تقول العرب: سال يسال؛ مثل نال ينال وخاف يخاف. والثاني: أن يكون من السيلان؛ ويؤيده قراءة ابن عباس "سال سيل". قال عبدالرحمن بن زيد: سال واد من أودية جهنم يقال له: سائل؛ وقول زيد بن ثابت. قال الثعلبي: والأول أحسن؛ كقول الأعشى في تخفيف الهمزة:
سالتاني الطلاق إذ رأتاني قل مالي قد جئتماني بنكر
وفي الصحاح: قال الأخفش: يقال خرجنا نسأل عن فلان وبفلان. وقد تخفف همزته فيقال: سال يسال. وقال:
ومرهق سال إمتاعا بِأُصْدَته لم يستعن وحوامي الموت تغشاه
المرهق: الذي أدرك ليقتل. والأصدة بالضم: قميص صغير يلبس تحت الثوب. المهدوي: من قرأ "سال" جاز أن يكون خفف الهمزة بإبدالها ألفا، وهو البدل على غير قياس. وجاز أن تكون الألف منقلبة عن واو على لغة من قال: سلت أسال؛ كخفت أخاف. النحاس: حكى سيبويه سلت أسال؛ مثل خفت أخاف؛ بمعنى سألت. وأنشد:
سالت هذيلٌ رسول الله فاحشة ضلت هذيل بما سالت ولم تصب
ويقال: هما يتساولان. المهدوي: وجاز أن تكون مبدلة من ياء، من سال يسيل. ويكون سايل واديا في جهنم؛ فهمزة سايل على القول الأول أصلية، وعلى الثاني بدل من واو، وعلى الثالث بدل من ياء. القشيري: وسائل مهموز؛ لأنه إن كان من سأل بالهمز فهو مهموز، وإن كان من غير الهمز كان مهموزا أيضا؛ نحو قائل وخائف؛ لأن العين اعتل في الفعل واعتل في اسم الفاعل أيضا. ولم يكن الاعتلال بالحذف لخوف الالتباس، فكان بالقلب إلى الهمزة، ولك تخفيف الهمزة حتى تكون بين بين. "واقع" أي يقع بالكفار بين أنه من الله ذي المعارج. وقال الحسن: أنزل الله تعالى: "سأل سائل بعذاب واقع" فقال لمن هو؟ فقال للكافرين؛ فاللام في الكافرين متعلقة "بواقع". وقال الفراء: التقدير بعذاب للكافرين واقع؛ فالواقع من نعت العذاب واللام دخلت للعذاب لا للواقع، أي هذا العذاب للكافرين في الآخرة لا يدفعه عنهم أحد. وقيل إن اللام بمعنى على، والمعنى: واقع على الكافرين. وروي أنها في قراءة أبي كذلك. وقيل: بمعنى عن؛ أي ليس له دافع عن الكافرين من الله. أي ذلك العذاب من الله ذي المعارج أي ذي العلو والدرجات الفواضل والنعم؛ قاله ابن عباس وقتادة فالمعارج مراتب إنعامه على الخلق وقيل ذي العظمة والعلاء وقال مجاهد: هي معارج السماء. وقيل: هي معارج الملائكة؛ لأن الملائكة تعرج إلى السماء فوصف نفسه بذلك. وقيل: المعارج الغرف؛ أي إنه ذو الغرف، أي جعل لأوليائه في الجنة غرفا. وقرأ عبدالله "ذي المعاريج" بالياء. يقال: معرج ومعراج ومعارج ومعاريج؛ مثل مفتاح ومفاتيح. والمعارج الدرجات؛ ومنه: "ومعارج عليها يظهرون" [الزخرف: 33].
قوله تعالى: "تعرج الملائكة والروح" أي تصعد في المعارج التي جعلها الله لهم. وقرأ ابن مسعود وأصحابه والسلمي والكسائي "يعرج" بالياء على إرادة الجمع؛ ولقوله: اذكروا الملائكة ولا تؤنثوهم. وقرأ الباقون بالتاء على إرادة الجماعة. "والروح" جبريل عليه السلام؛ قال ابن عباس. دليله قوله تعالى: "نزل به الروح الأمين" [الشعراء: 193]. وقيل: هو ملك آخر عظيم الخلقة. وقال أبو صالح: إنه خلق من خلق الله كهيئة الناس وليس بالناس. قال قبيصة بن ذؤيب: إنه روح الميت حين يقبض. "إليه" أي إلى المكان الذي هو محلهم وهو في السماء؛ لأنها محل بره وكرامته. وقيل: هو كقول إبراهيم "إني ذاهب إلى ربي" [الصافات: 99]. أي إلى الموضع الذي أمرني به. وقيل: "إليه" أي إلى عرشه. "في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة" قال وهب والكلبي ومحمد بن إسحاق: أي عروج الملائكة إلى المكان الذي هو محلهم في وقت كان مقداره على غيرهم لو صعد خمسين ألف سنة. وقال وهب أيضا: ما بين أسفل الأرض إلى العرش مسيرة خمسين ألف سنة. وهو قول مجاهد. وجمع بين هذة الآية وبين قوله: "في يوم كان مقداره ألف سنة" في سورة السجدة، فقال: "في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة" من منتهى أمره من أسفل الأرضين إلى منتهى أمره من فوق السموات خمسون ألف سنة. وقوله تعالى في (آلم تنزيل): "في يوم كان مقداره ألف سنة" [السجدة: 5] يعني بذلك نزول الأمر من سماء الدنيا إلى الأرض، ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد فذلك مقدار ألف سنة لأن ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام. وعن مجاهد أيضا والحكم وعكرمة: هو مدة عمر الدنيا من أول ما خلقت إلى آخر ما بقي خمسون ألف سنة. لا يدري أحدكم مضى ولا كم بقي إلا الله عز وجل. وقيل: المراد يوم القيامة، أي مقدار الحكم فيه لو تولاه مخلوق خمسون ألف سنة، قاله عكرمة أيضا والكلبي ومحمد بن كعب. يقول سبحانه وتعالى وأنا أفرغ منه في ساعة. وقال الحسن: هو يوم القيامة، ولكن يوم القيامة لا نفاد له فالمراد ذكر موقفهم للحساب فهو في خمسين ألف سنة من سني الدنيا، ثم حينئذ يستقر أهل الدارين في الدارين. وقال يمان: هو يوم القيامة، فيه خمسون موطنا كل موطن ألف سنة. وقال ابن عباس: هو يوم القيامة، جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة، ثم يدخلون النار للاستقرار.
قلت: وهذا القول أحسن ما قيل في الآية إن شاء الله، بدليل ما رواه قاسم بن أصبغ من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة". فقلت: ما أطول هذا! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده إنه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة المكتوبة يصليها في الدنيا). واستدل النحاس على صحة هذا القول بما رواه سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من رجل لم يؤد زكاة مال إلا جعل شجاعا من نار تكوى به جبهته وظهره وجنباه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي الله بين الناس). قال: فهذا يدل على أنه يوم القيامة. وقال إبراهيم التيمي: ما قدر ذلك اليوم على المؤمن إلا قدر ما بين الظهر والعصر. وروي هذا المعنى مرفوعا من حديث معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يحاسبكم الله تعالى بمقدار ما بين الصلاتين ولذلك سمى نفسه سريع الحساب وأسرع الحاسبين). ذكره الماوردي. وقبل: بل يكون الفراغ لنصف يوم، كقوله تعالى: "أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا" [الفرقان: 24]. وهذا على قدر فهم الخلائق، وإلا فلا يشغله شأن عن شأن. وكما يرزقهم في ساعة كذا يحاسبهم في لحظة، قال الله تعالى: "ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة" [لقمان: 28]. وعن ابن عباس أيضا أنه سماها هذه الآية وعن قوله تعالى: "في يوم كان مقداره ألف سنة" [السجدة: 5] فقال: أيام سماها الله عز وجل هو أعلم بها كيف تكون، وأكره أن أقول فيها ما لا أعلم. وقيل: معنى ذكر خمسين ألف سنة تمثيل، وهو تعريف طول مدة القيامة في الموقف، وما يلقى الناس فيه من الشدائد. والعرب تصف أيام الشدة بالطول، وأيام الفرح بالقصر؛ قال الشاعر:
ويوم كظل الرمح قصر طوله دم الزق عنا واصطفاق المزاهر
وقيل: في الكلام تقديم وتأخير؛ والمعنى: سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له من الله دافع، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة تعرج الملائكة والروح إليه. وهذا القول هو معنى ما أخترناه، والموفق الإله.
الآية: 5 - 7 {فاصبر صبرا جميلا، إنهم يرونه بعيدا، ونراه قريب}
قوله تعالى: "فاصبر صبرا جميلا" أي على أذى قومك. والصبر الجميل: هو الذي لا جزع فيه ولا شكوى لغير الله. وقيل: هو أن يكون صاحب المصيبة في القوم لا يدرى من هو. والمعنى متقارب. وقال ابن زيد: هي منسوخة بآية السيف. "إنهم يرونه بعيدا" يريد أهل مكة يرون العذاب بالنار بعيدا؛ أي غير كائن. "ونراه قريبا" لأن ما هو آت فهو قريب. وقال الأعمش: يرون البعث بعيدا لأنهم لا يؤمنون به كأنهم يستبعدونه على جهة الإحالة. كما تقول لمن تناظره: هذا بعيد لا يكون وقيل: أي يرون هذا اليوم بعيدا "ونراه" أي نعلمه؛ لأن الرؤية إنما تتعلق بالموجود. وهو كقولك: الشافعي يرى في هذه المسألة كذا وكذا.
الآية: 8 - 10 {يوم تكون السماء كالمهل، وتكون الجبال كالعهن، ولا يسأل حميم حميم}
قوله تعالى: "يوم تكون السماء كالمهل" العامل في "يوم" "واقع"؛ تقديره يقع بهم العذاب يوم. وقيل: "نراه" أو "يبصرونهم" أو يكون بدلا من قريب. والمهل: دردي الزيت وعكره؛ في قول ابن عباس وغيره. وقال ابن مسعود: ما أذيب من الرصاص والنحاس والفضة. وقال مجاهد: "كالمهل" كقيح من دم وصديد. وقد مضى في سورة "الدخان"، و"الكهف" القول فيه. "وتكون الجبال كالعهن" أي كالصوف المصبوغ. ولا يقال للصوف عهن إلا أن يكون مصبوغا. وقال الحسن: "وتكون الجبال كالعهن" وهو الصوف الأحمر، وهو أضعف الصوف. ومنه قول زهير:
كأن فتات العهن في كل منزل نزلن به حب الفنا لم يحطم
الفتات القطع. والعهن الصوف الأحمر؛ واحده عهنة. وقيل: العهن الصوف ذو الألوان؛ فشبه الجبال به في تلونها ألوانا. والمعنى: أنها تلين بعد الشدة، وتتفرق بعد الاجتماع. وقيل: أول ما تتغير الجبال تصير رملا مهيلا، ثم عهنا منفوشا، ثم هباء منبثا. "ولا يسأل حميم حميما" أي عن شأنه لشغل كل إنسان بنفسه، قال قتادة. كما قال تعالى: "لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه" [عبس: 37]. وقيل: لا يسأل حميم عن حميم، فحذف الجار ووصل الفعل. وقراءة العامة "يسأل" بفتح الياء. وقرأ شيبة والبزي عن عاصم "ولا يسأل بالضم على ما لم يسم فاعله، أي لا يسأل حميم عن حميمه ولا ذو قرابة عن قرابته، بل كل إنسان يسأل عن عمله. نظيره: "كل نفس بما كسبت رهينة" [المدثر: 38].