تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 591 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 591

591- تفسير الصفحة رقم591 من المصحف
سورة الطارق
الآية: 1 - 3 {والسماء والطارق، وما أدراك ما الطارق، النجم الثاقب}
قوله تعالى: "والسماء والطارق" قسمان: "السماء" قسم، و"الطارق" قسم. والطارق: النجم. وقد بينه اللّه تعالى بقوله: "وما أدراك ما الطارق. النجم الثاقب". واختلف فيه؛ فقيل: هو زحل: الكوكب الذي في السماء السابعة؛ ذكره محمد بن الحسن في تفسيره، وذكر له أخبارا، اللّه أعلم بصحتها. وقال ابن زيد: إنه الثريا. وعنه أيضا أنه زحل؛ وقاله الفراء. ابن عباس: هو الجدي. وعنه أيضا وعن علي بن أبي طالب - رضي اللّه عنهما - والفراء: "النجم الثاقب": نجم في السماء السابعة، لا يسكنها غيره من النجوم؛ فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء، هبط فكان معها. ثم يرجع إلى مكانه من السماء السابعة، وهو زحل، فهو طارق حين ينزل، وطارق حين يصعد. وحكى الفراء: ثقب الطائر: إذا ارتفع وعلا. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قاعدا مع أبي طالب، فانحط نجم، فامتلأت الأرض نورا، ففزع أبو طالب، وقال: أي شيء هذا؟ فقال: [هذا نجم رمي به، وهو آية من آيات اللّه] فعجب أبو طالب، ونزل: "والسماء والطارق". وروي عن ابن عباس أيضا "والسماء والطارق" قال: السماء وما يطرق فيها. وعن ابن عباس وعطاء: "الثاقب": الذي ترمي به الشياطين. قتادة: هو عام في سائر النجوم؛ لأن طلوعها بليل، وكل من أتاك ليلا فهو طارق. قال:
ومثلك حبلي قد طرقت ومرضعا فألهيتها عن ذي تمائم مغيل
وقال:
ألم ترياني كلما جئت طارقا وجدت بها طيبا وإن لم تطيب
فالطارق: النجم، اسم جنس، سمي بذلك لأنه يطرق ليلا، ومنه الحديث: [نهى النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يطرق المسافر أهله ليلا، كي تستحد المغيبة، وتمتشط الشعثة]. والعرب تسمي كل قاصد في الليل طارقا. يقال: طرق فلان إذا جاء بليل. وقد طرق يطرق طروقا، فهو طارق. ولابن الرومي:
يا راقد الليل مسرورا بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
لا تفرحن بليل طاب أوله فرب آخر ليل أجج النارا
وفي الصحاح: والطارق: النجم الذي يقال له كوكب الصبح. ومنه قول هند:
نحن بنات طارق نمشي على النمارق
أي إن أبانا في الشرف كالنجم المضيء. الماوردي: وأصل الطرق: الدق، ومنه سميت المطرقة، فسمي قاصد الليل طارقا، لاحتياجه في الوصول إلى الدق. وقال قوم: إنه قد يكون نهارا. والعرب تقول؛ أتيتك اليوم طرقتين: أي مرتين. ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم: (أعوذ بك من شر طوارق الليل والنهار، إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن). وقال جرير في الطروق:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا حين الزيارة فارجعي بسلام
ثم بين فقال: "وما أدراك ما الطارق. النجم الثاقب" والثاقب: المضيء. ومنه "شهاب ثاقب" [الصافات: 10]. يقال: ثقب يثقب ثقوبا وثقابة: إذا أضاء. وثقوبه: ضوئه. والعرب تقول: أثقب نارك؛ أي أضئها. قال:
أذاع به في الناس حتى كأنه بعلياء نار أوقدت بثقوب
الثقوب: ما تشعل به النار من دقاق العيدان. وقال مجاهد: الثاقب: المتوهج. القشيري والمعظم على أن الطارق والثاقب اسم جنس أريد به العموم، كما ذكرنا عن مجاهد. "وما أدراك ما الطارق" تفخيما لشأن هذا المقسم به. وقال سفيان: كل ما في القرآن "وما أدراك"؟ فقد أخبره به. وكل شيء قال فيه "وما يدريك": لم يخبره به.
الآية: 4 {إن كل نفس لما عليها حافظ}
قال قتادة: حفظة يحفظون عليك رزقك وعملك وأجلك. وعنه أيضا قال: قرينه يحفظ عليه عمله: من خير أو شر. وهذا هو جواب القسم. وقيل: الجواب "إنه على رجعه لقادر" في قول الترمذي: محمد بن علي. و"إن": مخففة من الثقيلة، و"ما": مؤكدة، أي إن كل نفس لعليها حافظ. وقيل: المعنى إن كل نفس إلا عليها حافظ: يحفظها من الآفات، حتى يسلمها إلى القدر. قال الفراء: الحافظ من اللّه، يحفظها حتى يسلمها إلى المقادير، وقال الكلبي. وقال أبو أمامة: قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: [وكل بالمؤمن مائة وستون ملكا يذبون عنه ما لم يقدر عليه من ذلك البصر، سبعة أملاك يذبون عنه، كما يذب عن قصعة العسل الذباب. ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين]. وقراءة ابن عامر وعاصم وحمزة "لما" بتشديد الميم، أي ما كل نفس إلا عليها حافظ، وهي لغة هذيل: يقول قائلهم: نشدتك لما قمت. الباقون بالتخفيف، على أنها زائدة مؤكدة، كما ذكرنا. ونظير هذه الآية قوله تعالى: "له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله" [الرعد: 11]، على ما تقدم. وقيل: الحافظ هو اللّه سبحانه؛ فلولا حفظه لها لم تبق. وقيل: الحافظ عليه عقله، يرشده إلى مصالحه، ويكفه عن مضاره.
قلت: العقل وغيره وسائط، والحافظ في الحقيقة هو اللّه جل وعز؛ قال اللّه عز وجل: "فالله خير حافظا" [يوسف: 65]، وقال: "قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن" [الأنبياء: 52]. وما كان مثله.
الآية: 5 - 8 {فلينظر الإنسان مم خلق، خلق من ماء دافق، يخرج من بين الصلب والترائب، إنه على رجعه لقادر}
قوله تعالى: "فلينظر الإنسان" أي ابن آدم "مم خلق" وجه الاتصال بما قبله توصية الإنسان بالنظر في أول أمره، وسنته الأولى، حتى يعلم أن من أنشأه قادر على إعادته وجزائه؛ فيعمل ليوم الإعادة والجزاء، ولا يملي على حافظه إلا ما يسره في عاقبة أمره. و"مم خلق"؟ استفهام؛ أي من أي شيء خلق؟ ثم قال: "خلق" وهو جواب الاستفهام "من ماء دافق" أي من المني. والدفق: صب الماء، دفقت الماء أدفقه دفقا: صببته، فهو ماء دافق، أي مدفوق، كما قالوا: سر كاتم: أي مكتوم؛ لأنه من قولك: دفق الماء، على ما لم يسم فاعله. ولا يقال: دفق الماء. ويقال: دفق اللّه روحه: إذا دعي عليه بالموت. قال الفراء والأخفش: "من ماء دافق" أي مصبوب في الرحم، الزجاج: من ماء ذي اندفاق. يقال: دارع وفارس ونابل؛ أي ذو فرس، ودرع، ونبل. وهذا مذهب سيبويه. فالدافق هو المندفق بشدة قوته. وأراد ماءين: ماء الرجل وماء المرأة؛ لأن الإنسان مخلوق منهما، لكن جعلهما ماء واحدا لامتزاجهما. وعن عكرمة عن ابن عباس: "دافق" لزج. "يخرج" أي هذا الماء "من بين الصلب" أي الظهر. وفيه لغات أربع: صلب، وصلب - وقرئ بهما - وصلب (بفتح اللام)، وصالب (على وزن قالب)؛ ومنه قول العباس:
تنقل من صالب إلى رحم
"والترائب" أي الصدر، الواحدة: تريبة؛ وهي موضع القلادة من الصدر. قال:
مهفهفة بيضاء غير مفاضة ترائبها مصقولة كالسجنجل
والصلب من الرجل، والترائب من المرأة. قال ابن عباس: الترائب: موضع القلادة. وعنه: ما بين ثدييها؛ وقال عكرمة. وروي عنه: يعني ترائب المرأة: اليدين والرجلين والعينين؛ وبه قال الضحاك. وقال سعيد بن جبير: هو الجيد. مجاهد: هو ما بين المنكبين والصدر عنه: الصدر. وعنه: التراقي. وعن ابن جبير عن ابن عباس: الترائب: أربع أضلاع من هذا الجانب. وحكى الزجاج: أن الترائب أربع أضلاع من يمنة الصدر، وأربع أضلاع من يسرة الصدر. وقال معمر بن أبي حبيبة المدني: الترائب عصارة القلب؛ ومنها يكون الولد. والمشهور من كلام العرب: أنها عظام الصدر والنحر. وقال دريد بن الصمة:
فإن تدبروا نأخذكم في ظهوركم وإن تقبلوا نأخذكم في الترائب
وقال آخر:
وبدت كأن ترائبا من نحرها جمر الغضى في ساعد تتوقد
وقال آخر:
والزعفران على ترائبها شرق به اللبات والنحر
وعن عكرمة: الترائب: الصدر؛ ثم أنشد:
نظام در على ترائبها
وقال ذو الرمة:
ضرجن البرود عن ترائب حرة
أي شققن. ويروي "ضرحن" بالخاء، أي ألقين. وفي الصحاح: والتربية: واحدة الترائب، وهي عظام الصدر؛ ما بين الترقوة والثندوة. قال الشاعر:
أشرف ثدياها على التريب
وقال المثقب العبدي:
ومن ذهب يسن على تريب كلون العاج ليس بذي غضون
[عن غير الجوهري: الثندوة للرجل: بمنزلة الثدي للمرأة. وقال الأصمعي: مغرز الثدي. وقال ابن السكيت: هي اللحم الذي حول الثدي؛ إذا ضممت أولها همزت، وإذا فتحت لم تهمز]. وفي التفسير: يخلق من ماء الرجل الذي يخرج من صلبه العظم والعصب. ومن ماء المرأة الذي يخرج من ترائبها اللحم والدم؛ وقال الأعمش. وقد تقدم مرفوعا في أول سورة "آل عمران". والحمد لله - وفي (الحجرات) "إنا خلقناكم من ذكر وأنثى" [الحجرات:31] وقد تقدم. وقيل: إن ماء الرجل ينزل من الدماغ، ثم يجتمع في الأنثيين. وهذا لا يعارض قوله: "من بين الصلب"؛ لأنه إن نزل من الدماغ، فإنما يمر بين الصلب والترائب. وقال قتادة: المعنى ويخرج من صلب الرجل وترائب المرأة. وحكى الفراء أن مثل هذا يأتي عن العرب؛ وعليه فيكون معنى من بين الصلب: من الصلب. وقال الحسن: المعنى: يخرج من صلب الرجل وترائب الرجل، ومن صلب المرأة وترائب المرأة. ثم إنا نعلم أن النطفة من جميع أجزاء البدن؛ ولذلك يشبه الرجل والديه كثيرا. وهذه الحكمة في غسل جميع الجسد من خروج المني. وأيضا المكثر من الجماع يجد وجعا في ظهره وصلبه؛ وليس ذلك إلا لخلو صلبه عما كان محتبسا من الماء. وروى إسماعيل عن أهل مكة "يخرج من بين الصلُب" بضم اللام. ورويت عن عيسى الثقفي. حكاه المهدوي وقال: من جعل المني يخرج من بين صلب الرجل وترائبه، فالضمير في "يخرج" للماء. ومن جعله من بين صلب الرجل وترائب المرأة، فالضمير للإنسان. وقرئ "الصلب"، بفتح الصاد واللام. وفيه أربع لغات: صلب وصلب وصلب وصالب. قال العجاج:
في صلب مثل العنان المؤدم
وفي مدح النبي صلى اللّه عليه وسلم:
تنقل من صالب إلى رحم
الأبيات مشهورة معروفة. "إنه" أي إن اللّه جل ثناؤه "على رجعه" أي على رد الماء في الإحليل، "لقادر" كذا قال مجاهد والضحاك. وعنهما أيضا أن المعنى: إنه على رد الماء في الصلب؛ وقال عكرمة. وعن الضحاك أيضا أن المعنى: إنه على رد الإنسان ماء كما كان لقادر. وعنه أيضا أن المعنى: إنه على رد الإنسان من الكبر إلى الشباب، ومن الشباب إلى الكبر، لقادر. وكذا في المهدوي. وفي الماوردي والثعلبي: إلى الصبا، ومن الصبا إلى النطفة. وقال ابن زيد: إنه على حبس ذلك الماء حتى لا يخرج، لقادر. وقال ابن عباس وقتادة والحسن وعكرمة أيضا: إنه على رد الإنسان بعد الموت لقادر. وهو اختيار الطبري. الثعلبي: وهو الأقوى؛ لقوله تعالى: "يوم تبلى السرائر" [الطارق: 9] قال الماوردي: ويحتمل أنه على أن يعيده إلى الدنيا بعد بعثه في الآخرة؛ لأن الكفار يسألون اللّه تعالى فيها الرجعة.
الآية 9 {يوم تبلى السرائر}
العامل في "يوم" - وفي قول من جعل المعنى إنه على بعث الإنسان - قوله "لقادر"، ولا يعمل فيه "رجعه" لما فيه من التفرقة بين الصلة والموصول بخبر "إن". وعلى الأقوال الأخر التي في "إنه على رجعه لقادر"، يكون العامل في "يوم" فعل مضمر، ولا يعمل فيه "لقادر"؛ لأن المراد في الدنيا. و"تبلى" أي تمتحن وتختبر؛ وقال أبو الغول الطهوي:
ولا تبلى بسالتهم وإن هم صلوا بالحرب حينا بعد حين
ويروى تبلى بسالتهم. فمن رواه "تبلى" - بضم التاء - جعله من الاختبار؛ وتكون البسالة على هذه الرواية الكراهة؛ كأنه قال: لا يعرف لهم فيها كراهة. و"تبلى" تعرف. وقال الراجز:
قد كنت قبل اليوم تزدريني فاليوم أبلوك وتبتليني
أي أعرفك وتعرفني. ومن رواه "تبلى" - بفتح التاء - فالمعنى: أنهم لا يضعفون عن الحرب وإن تكررت عليهم زمانا بعد زمان. وذلك أن الأمور الشداد إذا تكررت على الإنسان هدته وأضعفته. وقيل: "تبلى السرائر": أي تخرج مخبآتها وتظهر، وهو كل ما كان استسره الإنسان من خير أو شر، وأضمره من إيمان أو كفر؛ كما قال الأحوص:
سيبقى لها في مضمر القلب والحشا سريرة ود يوم تبلى السرائر
روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (ائتمن اللّه تعالى خلقه على أربع: على الصلاة، والصوم، والزكاة، والغسل، وهي السرائر التي يختبرها اللّه عز وجل يوم القيامة). ذكره المهدوي. وقال ابن عمر قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: (ثلاث من حافظ عليها فهو ولي اللّه حقا، ومن اختانهن فهو عدو اللّه حقا: الصلاة؛ والصوم، والغسل من الجنابة) ذكره الثعلبي. وذكر الماوردي عن زيد ابن أسلم: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (الأمانة ثلاث: الصلاة والصوم، والجنابة. استأمن اللّه عز وجل ابن آدم على الصلاة؛ فإن شاء قال صليت ولم يصل. استأمن اللّه عز وجل ابن آدم على الصوم، فإن شاء قال صمت ولم يصم. استأمن اللّه عز وجل ابن آدم على الجنابة؛ فإن شاء قال اغتسلت ولم يغتسل، اقرؤوا إن شئتم "يوم تبلى السرائر")، وذكره الثعلبي عن عطاء. وقال مالك في رواية أشهب عنه، وسألته عن قوله تعالى: "يوم تبلى السرائر": أبلغك أن الوضوء من السرائر؟ قال: قد بلغني ذلك فيما يقول الناس، فأما حديث أحدث به فلا. والصلاة من السرائر، والصيام من السرائر، إن شاء قال صليت ولم يصل. ومن السرائر ما في القلوب؛ يجزي اللّه به العباد. قال ابن العربي: قال ابن مسعود يغفر للشهيد إلا الأمانة، والوضوء من الأمانة، والصلاة والزكاة من الأمانة، والوديعة من الأمانة؛ وأشد ذلك الوديعة؛ تمثل له على هيئتها يوم أخذها؛ فيرمي بها في قعر جهنم، فيقال له: أخرجها، فيتبعها فيجعلها في عنقه، فإذا رجا أن يخرج بها زلت منه، فيتبعها؛ فهو كذلك دهر الداهرين. وقال أبي بن كعب: من الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها. قال أشهب: قال لي سفيان: في الحيضة والحمل، إن قالت لم أحض وأنا حامل صدقت، ما لم تأت بما يعرف فيه أنها كاذبة. وفي الحديث: [غسل الجنابة من الأمانة]. وقال ابن عمر: يبدي اللّه يوم القيامة كل سر خفي، فيكون زينا في الوجوه، وشينا في الوجوه. واللّه عالم بكل شيء، ولكن يظهر علامات الملائكة والمؤمنين.
الآية: 10 {فما له من قوة ولا ناصر}
قوله تعالى: "فما له" أي للإنسان "من قوة" أي منعة تمنعه. "ولا ناصر" ينصره مما نزل به. وعن عكرمة "فما له من قوة ولا ناصر" قال: هؤلاء الملوك، ما لهم يوم القيامة من قوة ولا ناصر. وقال سفيان: القوة: العشيرة. والناصر: الحليف. وقيل: "فما له من قوة" في بدنه. "ولا ناصر" من غيره يمتنع به من اللّه. وهو معنى قول قتادة.
الآية: 11 - 16 {والسماء ذات الرجع، والأرض ذات الصدع، إنه لقول فصل، وما هو بالهزل، إنهم يكيدون كيدا، وأكيد كيد}
قوله تعالى: "والسماء ذات الرجع" أي ذات المطر. ترجع كل سنة بمطر بعد مطر. كذا قاله عامة المفسرين. وقال أهل اللغة: الرجع: المطر، وأنشدوا للمتنخل يصف سيفا شبهه بالماء:
أبيض كالرجع رسوب إذا ما ثاخ في محتفل يختلي
[ثاخت قدمه في الوحل تثوخ وتثيخ: خاضت وغابت فيه؛ قاله الجوهري]. قال الخليل: الرجع: المطر نفسه، والرجع أيضا: نبات الربيع. وقيل: "ذات الرجع". أي ذات النفع. وقد يسمى المطر أيضا أوبا، كما يسمى رجعا، قال:
رباء شماء لا يأوي لقلتها إلا السحاب وإلا الأوب والسبل
وقال عبدالرحمن بن زيد: الشمس والقمر والنجوم يرجعن في السماء؛ تطلع من ناحية وتغيب في أخرى. وقيل: ذات الملائكة؛ لرجوعهم إليها بأعمال العباد. وهذا قسم. "والأرض ذات الصدع" قسم آخر؛ أي تتصدع عن النبات والشجر والثمار والأنهار؛ نظيره "ثم شققنا الأرض شقا" [عبس: 26] الآية. والصدع: بمعنى الشق؛ لأنه يصدع الأرض، فتنصدع به. وكأنه قال: والأرض ذات النبات؛ لأن النبات صادع للأرض. وقال مجاهد: والأرض ذات الطرق التي تصدعها المشاة. وقيل: ذات الحرث، لأنه يصدعها. وقيل: ذات الأموات: لانصداعها عنهم للنشور. "إنه لقول فصل" على هذا وقع القسم. أي إن القرآن يفصل بين الحق والباطل. وقد تقدم في مقدمة الكتاب ما رواه الحارث عن علي رضي اللّه عنه قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: [كتاب فيه خبر ما قبلكم وحكم ما بعدكم، هو الفصل، ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه اللّه، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله اللّه]. وقيل: المراد بالقول الفصل: ما تقدم من الوعيد في هذه السورة، من قوله تعالى: "إنه على رجعه لقادر. يوم تبلى السرائر". "وما هو بالهزل" أي ليس القرآن بالباطل واللعب. والهزل: ضد الجد، وقد هزل يهزل. قال الكميت:
يُجَد بنا في كل يوم ونهزِل
"إنهم" أي إن أعداء اللّه "يكيدون كيدا" أي يمكرون بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه مكرا. "وأكيد كيدا" أي أجازيهم جزاء كيدهم. وقيل: هو ما أوقع اللّه بهم يوم بدر من القتل والأسر. وقيل: كيد اللّه: استدراجهم من حيث لا يعلمون. وقد مضى هذا المعنى في أول "البقرة"، عند قوله تعالى: "الله يستهزئ بهم" [البقرة: 15]. مستوفى.
الآية: 17 {فمهل الكافرين أمهلهم رويد}
قوله تعالى: "فمهل الكافرين" أي أخرهم، ولا تسأل اللّه تعجيل إهلاكهم، وارض بما يدبره في أمورهم. ثم نسخت بآية السيف "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" [التوبة: 5]. "أمهلهم" تأكيد. ومهل وأمهل: بمعنى؛ مثل نزل وأنزل. وأمهله: أنظره، ومهله تمهيلا، والاسم: المهلة. والاستمهال: الاستنظار. وتمهل في أمره أي اتأد. واتمهل اتمهلالا: أي اعتدل وانتصب. والاتمهلال أيضا: سكون وفتور. ويقال: مهلا يا فلان؛ أي رفقا وسكونا. "رويدا" أي قريبا؛ عن ابن عباس. قتادة: قليلا. والتقدير: أمهلهم إمهالا قليلا. والرويد في كلام العرب: تصغير رود. وكذا قاله أبو عبيد. وأنشد:
كأنها ثمل يمشي على رود
أي على مهل. وتفسير "رويدا": مهلا، وتفسير رويدك: أمهل؛ لأن الكاف إنما تدخله إذا كان بمعنى أفعل دون غيره، وإنما حركت الدال لالتقاء الساكنين، فنصب نصب المصادر، وهو مصغر مأموو به؛ لأنه تصغير الترخيم من إرواد؛ وهو مصدر أرود يرود. وله أربعة أوجه: اسم للفعل، وصفة، وحال، ومصدر؛ فالاسم نحو قولك: رويد عمرا؛ أي أرود عمرا، بمعنى أمهله. والصفة نحو قولك: ساروا سيرا رويدا. والحال نحو قولك: سار القوم رويدا؛ لما اتصل بالمعرفة صار حالا لها. والمصدر نحو قولك: رويد عمرو بالإضافة؛ كقوله تعالى: "فضرب الرقاب" [محمد: 4]. قال جميعه الجوهري. والذي في الآية من هذه الوجوه أن يكون نعتا للمصدر؛ أي إمهالا رويدا. ويجوز أن يكون للحال؛ أي أمهلهم غير مستعجل لهم العذاب. ختمت السورة.
سورة الأعلى
الآية: 1 {سبح اسم ربك الأعلى}
يستحب للقارئ إذا قرأ "سبح اسم ربك الأعلى" أن يقول عقبه: سبحان ربي الأعلى؛ قاله النبي صلى اللّه عليه وسلم، وقاله جماعة من الصحابة والتابعين؛ على ما يأتي. وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال: (إن لله تعالى ملكا يقال له حِزقيائيل، له ثمانية عشر ألف جناح، ما بين الجناح إلى الجناح مسيرة خمسمائة عام، فخطر له خاطر هل تقدر أن تبصر العرش جميعه؟ فزاده اللّه أجنحة مثلها، فكان له ستة وثلاثون ألف جناح، ما بين الجناح إلى الجناح خمسمائة عام. ثم أوحى اللّه إليه: أيها الملك، أن طر، فطار مقدار عشرين ألف سنة؛ فلم يبلغ رأس قائمة من قوائم العرش. ثم ضاعف اللّه له في الأجنحة والقوة، وأمره أن يطير، فطار مقدار ثلاثين ألف سنة أخرى، فلم يصل أيضا؛ فأوحى اللّه إليه أيها الملك، لو طرت إلى نفخ الصور مع أجنحتك وقوتك لم تبلغ ساق عرشي. فقال الملك: سبحان ربي الأعلى؛ فأنزل اللّه تعالى: "سبح اسم ربك الأعلى". فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: اجعلوها في سجودكم). ذكره الثعلبي في (كتاب العرائس) له. وقال ابن عباس والسدي: معنى "سبح اسم ربك الأعلى" أي عظم ربك الأعلى. والاسم صلة، قصد بها تعظيم المسمى؛ كما قال لبيد:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
وقيل: نزه ربك عن السوء، وعما يقول فيه الملحدون. وذكر الطبري أن المعنى نزه اسم ربك عن أن تسمي به أحدا سواه. وقيل: نزه تسمية ربك وذكرك إياه، أن تذكره إلا وأنت خاشع معظم، ولذكره محترم. وجعلوا الاسم بمعنى التسمية، والأولى أن يكون الاسم هو المسمى. روى نافع عن ابن عمر قال: لا تقل على اسم اللّه؛ فإن اسم اللّه هو الأعلى. وروى أبو صالح عن ابن عباس: صلّ بأمر ربك الأعلى. قال: وهو أن تقول سبحان ربك الأعلى. وروي عن علي رضي اللّه عنه، وابن عباس وابن عمرو وابن الزبير وأبي موسى وعبدالله بن مسعود رضي اللّه عنهم: أنهم كانوا إذا افتتحوا قراءة هذه السورة قالوا: سبحان ربي الأعلى؛ امتثالا لأمره في ابتدائها. فيختار الاقتداء بهم في قراءتهم؛ لا أن سبحان ربي الأعلى من القرآن؛ كما قاله بعض أهل الزيغ. وقيل: إنها في قراءة أُبيّ: "سبحان ربي الأعلى". وكان ابن عمر يقرؤها كذلك. وفي الحديث: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا قرأها قال: [سبحان ربي الأعلى].
قال أبو بكر الأنباري: حدثني محمد بن شهريار، قال: حدثنا حسين بن الأسود، قال: حدثنا عبدالرحمن بن أبي حماد قال: حدثنا عيسى بن عمر، عن أبيه، قال: قرأ علي بن أبي طالب عليه السلام في الصلاة "سبح اسم ربك الأعلى"، ثم قال: سبحان ربي الأعلى؛ فلما انقضت الصلاة قيل له: يا أمير المؤمنين، أتزيد هذا في القرآن؟ قال: ما هو؟ قالوا: سبحان ربي الأعلى. قال: لا، إنما أمرنا بشيء فقلته، وعن عقبة بن عامر الجهني قال: لما نزلت "سبح اسم ربك الأعلى" قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (اجعلوها في سجودكم). وهذا كله يدل على أن الاسم هو المسمى؛ لأنهم لم يقولوا: سبحان اسم ربك الأعلى. وقيل: إن أول من قال [سبحان ربي الأعلى] ميكائيل عليه السلام. وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لجبريل: (يا جبريل أخبرني بثواب من قال: سبحان ربي الأعلى في صلاته أو في غير صلاته). فقال: (يا محمد، ما من مؤمن ولا مؤمنة يقولها في سجوده أو في غير سجوده، إلا كانت له في ميزانه أثقل من العرش والكرسي وجبال الدنيا، ويقول اللّه تعالى: صدق عبدي، أنا فوق كل شيء، وليس فوقي شيء، اشهدوا يا ملائكتي أني قد غفرت له، وأدخلته الجنة فإذا مات زاره ميكائيل كل يوم، فإذا كان يوم القيامة حمله على جناحه، فأوقفه بين يدي اللّه تعالى، فيقول: يا رب شفعني فيه، فيقول قد شفعتك فيه، فاذهب به إلى الجنة). وقال الحسن: "سبح اسم ربك الأعلى" أي صل لربك الأعلى. وقل: أي صل بأسماء اللّه، لا كما يصلي المشركون بالمكاء والتصدية. وقيل: ارفع صوتك بذكر ربك. قال جرير:
قبح الإله وجوه تغلب كلما سبح الحجيج وكبروا تكبيرا
الآية: 2 - 5 {الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، والذي أخرج المرعى، فجعله غثاء أحوى}
قوله تعالى: "الذي خلق فسوى" قد تقدم معنى التسوية في "الانفطار" وغيرها. أي سوى ما خلق، فلم يكن في خلقه تثبيج. وقال الزجاج: أي عدل قامته. وعن أكثر قامته. ابن عباس: حسن ما خلق. وقال الضحاك: خلق آدم فسوى خلقه. وقيل: خلق في أصلاب الآباء، وسوى في أرحام الأمهات. وقيل: خلق الأجساد، فسوى الأفهام. وقيل: أي خلق الإنسان وهيأه للتكليف. "الذي قدر فهدى" قرأ علي رضي اللّه عنه السلمي والكسائي "قدر" مخففة الدال، وشدد الباقون. وهما بمعنى واحد. أي قدر ووفق لكل شكل شكل. "فهدى" أي أرشد. قال مجاهد: قدر الشقاوة والسعادة، وهدى للرشد والضلالة. وعنه قال: هدى الإنسان للسعادة والشقاوة، وهدى الأنعام لمراعيها. وقيل: قدر أقواتهم وأرزاقهم، وهداهم لمعاشهم إن كانوا إنسا، ولمراعيهم إن كانوا وحشا. وروي عن ابن عباس والسدي ومقاتل والكلبي في قوله "فهدى" قالوا: عَرّف خلقه كيف يأتي الذكر الأنثى؛ كما قال في (طه): "الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى" [طه: 50] أي الذكر للأنثى. وقال عطاء: جعل لكل دابة ما يصلحها، وهداها له. وقيل: خلق المنافع في الأشياء، وهدى الإنسان لوجه استخراجها منها. وقيل "قدر فهدى": قدر لكل حيوان ما يصلحه، فهداه، وعرفه وجه الانتفاع به. يحكى أن الأفعى إذا أتت عليها ألف سنة عميت، وقد ألهمها اللّه أن مسح العين بورق الرازيانج الغض يرد إليها بصرها؛ فربما كانت في برية بينها وبين الريف مسيرة أيام، فتطوي تلك المسافة على طولها وعلى عماها، حتى تهجم في بعض البساتين على شجرة الرازيانج لا تخطئها، فتحك بها عينيها وترجع باصرة بإذن اللّه تعالى. وهدايات الإنسان إلى ما لا يحد من مصالحه، ولا يحصر من حوائجه، في أغذيته وأدويته، وفي أبواب دنياه ودينه، وإلهامات البهائم والطيور وهوام الأرض باب واسع، وشوط بطين، لا يحيط به وصف واصف؛ فسبحان ربي الأعلى. وقال السدي: قدر مدة الجنين في الرحم تسعة أشهر، وأقل وأكثر، ثم هداه للخروج من الرحم. وقال الفراء: أي قدر، فهدى وأضل؛ فاكتفى بذكر أحدهما؛ كقوله تعالى: "سرابيل تقيكم الحر" [النحل: 81]. ويحتمل أن يكون بمعنى دعا إلى الإيمان؛ كقوله تعالى: "وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم". [الشورى: 52]. أي لتدعو، وقد دعا الكل إلى الإيمان. وقيل: "فهدى" أي دلهم بأفعاله على توحيده، وكونه عالما قادرا. ولا خلاف أن من شدد الدال من "قدر" أنه من التقدير؛ كقوله تعالى: "وخلق كل شيء فقدره تقديرا" [الفرقان: 2]. ومن خفف فيحتمل أن يكون من التقدير فيكونان بمعنى. ويحتمل أن يكون من القدر والملك؛ أي ملك الأشياء، وهدي من يشاء.
قلت: وسمعت بعض أشياخي يقول: الذي خلق فسوى وقدر فهدى. هو تفسير العلو الذي يليق بجلال اللّه سبحانه على جميع مخلوقاته.
قوله تعالى: "والذي أخرج المرعى" أي النبات والكلأ الأخضر. قال الشاعر:
وقد ينبت المرعى على دمن الثرى وتبقى حزازات النفوس كما هيا
"فجعله غثاء أحوى" الغثاء: ما يقذف به السيل على جوانب الوادي من الحشيش والنبات والقماش. وكذلك الغثاء (بالتشديد). والجمع: الأغثاء، قتادة: الغثاء: الشيء اليابس. ويقال للبقل والحشيش إذا تحطم ويبس: غثاء وهشيم. وكذلك للذي يكون حول الماء من القماش غثاء؛ كما قال:
كأن طمية المجيمر غدوة من السيل والأغثاء فلكة مغزل
وحكى أهل اللغة: غثا الوادي وجفا. وكذلك الماء: إذا علاه من الزبد والقماش ما لا ينتفع به. والأحوى: الأسود؛ أي أن النبات يضرب إلى الحوة من شدة الخضرة كالأسود. والحوة: السواد؛ قال الأعشى:
لمياء في شفتيها حوة لعس وفي اللثاث وفي أنيابها شنب
وفي الصحاح: والحوة: سمرة الشفة. يقال: رجل أحوى، وامرأة حواء، وقد حويت. وبعير أحوى إذا خالط خضرته سواد وصفوة. وتصغير أحوى أحيو؛ في لغة من قال أسيود. ثم قيل: يجوز أن يكون "أحوى" حالا من "المرعى"، ويكون المعنى: كأنه من خضرته يضرب إلى السواد؛ والتقدير: أخرج المرعى أحوى، فجعله غثاء يقال: قد حوي النبت؛ حكاه الكسائي، وقال:
وغيث من الوسميّ حُوٍّ تلاعه تبطنته بشيظم صلتان
ويجوز أن يكون "حوى" صفة لـ "غثاء". والمعنى: أنه صار كذلك بعد خضرته. وقال أبو عبيدة: فجعله أسود من احتراقه وقدمه؛ والرطب إذا يبس أسود. وقال عبدالرحمن زيد: أخرج المرعى أخضر، ثم لما يبس أسود من احتراقه، فصار غثاء تذهب به الرياح والسيول. وهو مثل ضربه اللّه تعالى للكفار، لذهاب الدنيا بعد نضارتها.
الآية: 6 - 8 {سنقرئك فلا تنسى، إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى، ونيسرك لليسرى}
قوله تعالى: "سنقرئك" أي القرآن يا محمد فنعلمكه "فلا تنسى" أي فتحفظ؛ رواه ابن وهب عن مالك. وهذه بشرى من اللّه تعالى؛ بشره بأن أعطاه آية بينة، وهي أن يقرأ عليه جبريل ما يقرأ عليه من الوحي، وهو أُمي لا يكتب ولا يقرأ، فيحفظه ولا ينساه. وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد، قال: كان يتذكر مخافة أن ينسى، فقيل: كفيتكه. قال مجاهد والكلبي: كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا نزل عليه جبريل بالوحي، لم يفرغ جبريل من آخر الآية، حتى يتكلم النبي صلى اللّه عليه وسلم بأولها، مخافة أن ينساها؛ فنزلت: "سنقرئك فلا تنسى" بعد ذلك شيئا، فقد كفيتكه.
قوله تعالى: "إلا ما شاء الله" وجه الاستثناء على، ما قاله الفراء: إلا ما شاء اللّه، وهو لم يشأ أن تنسى شيئا؛ كقوله تعالى: "خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك" [هود: 108]. ولا يشاء. ويقال في الكلام: لأعطينك كل ما سألت إلا ما شئت، وإلا أن أشاء أن أمنعك، والنية على ألا يمنعه شيئا. فعلى هذا مجاري الإيمان؛ يستثنى فيها ونية الحالف التمام. وفي رواية أبي صالح عن ابن عباس: فلم ينس بعد نزول هذه الآية حتى مات، "إلا ما شاء اللّه". وعن سعيد عن قتادة، قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا ينسى شيئا؛ "إلا ما شاء اللّه". وعلى هذه الأقوال قيل: إلا ما شاء اللّه أن ينسى، ولكنه لم ينسى شيئا منه بعد نزول هذه الآية. وقيل: إلا ما شاء اللّه أن ينسى، ثم يذكر بعد ذلك؛ فاذا قد نسي، ولكنه يتذكر ولا ينسى نسيانا كليا. وقد روي أنه أسقط آية في قراءته في الصلاة، فحسب أبي أنها نسخت، فسأله فقال: [إني نسيتها]. وقيل: هو من النسيان؛ أي إلا ما شاء اللّه أن ينسيك. ثم قيل: هذا بمعنى النسخ؛ أي إلا ما شاء اللّه أن ينسخه. والاستثناء نوع من النسخ. وقيل. النسيان بمعنى الترك؛ أي يعصمك من أن تترك العمل به؛ إلا ما شاء اللّه أن تتركه لنسخه إياه. فهذا في نسخ العمل، والأول في نسخ القراءة. قال الفرغاني: كان يغشى مجلس الجنيد أهل البسط من العلوم، وكان يغشاه ابن كيسان النحوي، وكان رجلا جليلا؛ فقال يوما: ما تقول يا أبا القاسم في قول اللّه تعالى: "سنقرئك فلا تنسى"؟ فأجابه مسرعا - كأنه تقدم له السؤال قبل ذلك بأوقات: لا تنسى العمل به. فقال ابن كيسان: لا يفضض اللّه فاك مثلك من يصدر عن رأيه. وقوله "فلا": للنفي لا للنهي. وقيل: للنهي؛ وإنما أثبتت الياء لأن رؤوس الآي على ذلك. والمعنى: لا تغفل عن قراءته وتكراره فتنساه؛ إلا ما شاء اللّه أن ينسيكه برفع تلاوته للمصلحة. والأول هو المختار؛ لأن الاستثناء من النهي لا يكاد يكون إلا مؤقتا معلوما. وأيضا فإن الياء مثبتة في جميع المصاحف، وعليها القراء. وقيل: معناه إلا ما شاء اللّه أن يؤخر إنزاله. وقيل: المعنى فجعله غثاء أحوى إلا ما شاء اللّه أن ينال بنو آدم والبهائم، فإنه لا يصير كذلك.
قوله تعالى: "إنه يعلم الجهر وما يخفى" أي الإعلان من القول والعمل. "وما يخفى" من السر. وعن ابن عباس: ما في قلبك ونفسك. وقال محمد بن حاتم: يعلم إعلان الصدقة وإخفاءها. وقيل: الجهر ما حفظته من القرآن في صدرك. "وما يخفى" هو ما نسخ من صدرك. "ونيسرك": معطوف على "سنقرئك" وقوله: "إنه يعلم الجهر وما يخفى" اعتراش. ومعنى "لليسرى" أي للطريقة اليسرى؛ وهي عمل الخير. قال ابن عباس: نيسرك لأن تعمل خيرا. ابن مسعود: "لليسرى" أي للجنة. وقيل: نوفقك للشريعة اليسرى؛ وهي الحنيفية السمحة السهلة؛ قال معناه الضحاك. وقيل: أي نهون عليك الوحي حتى تحفظه وتعمل به.
الآية: 9 {فذكر إن نفعت الذكرى}
قوله تعالى: "فذكر" أي فعظ قومك يا محمد بالقرآن. "إن نفعت الذكرى" أي الموعظة. وروى يونس عن الحسن قال: تذكرة للمؤمن، وحجة على الكافر. وكان ابن عباس يقول: تنفع أوليائي، ولا تنفع أعدائي. وقال الجرجاني: التذكير واجب وإن لم ينفع. والمعنى: فذكر إن نفعت الذكرى؛ أو لم تنفع، فحذف؛ كما قال: "سرابيل تقيكم الحر" [النحل: 81]. وقيل: إنه مخصوص بأقوام بأعيانهم. وقيل: إن "إن" بمعنى ما؛ أي فذكر ما نفعت الذكرى، فتكون "إن" بمعنى ما، لا بمعنى الشرط؛ لأن الذكرى نافعة بكل حال؛ قال ابن شجرة. وذكر بعض أهل العربية: "أن" "إن" بمعنى إذ؛ أي إذ نفعت؛ كقوله تعالى: "وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين" [آل عمران: 139] أي إذ كنتم؛ فلم يخبر بعلوهم إلا بعد إيمانهم. وقيل: بمعنى قد.
الآية: 10 {سيذكر من يخشى}
أي من يتقي اللّه ويخافه. فروى أبو صالح عن ابن عباس قال: نزلت في ابن أم مكتوم. الماوردي: وقد يذكر من يرجوه، إلا أن تذكرة الخاشي أبلغ من تذكرة الراجي؛ فلذلك علقها بالخشية دون الرجاء، وإن تعلقت بالخشية والرجاء. وقيل: أي عمم أنت التذكير والوعظ، وإن كان الوعظ إنما ينفع من يخشى، ولكن يحصل لك ثواب الدعاء؛ حكاه القشيري.
الآية: 11 - 13 {ويتجنبها الأشقى، الذي يصلى النار الكبرى، ثم لا يموت فيها ولا يحيى}
قوله تعالى: "ويتجنبها" أي ويتجنب الذكرى ويبعد عنها. "الأشقى" أي الشقي في علم اللّه. وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة. "الذي يصلى النار الكبرى" أي العظمى، وهي السفلى من أطباق النار؛ قاله الفراء. وعن الحسن: الكبرى نار جهنم، والصغرى نار الدنيا؛ وقاله يحيى بن سلام. "ثم لا يموت فيها ولا يحيى" أي لا يموت فيستريح من العذاب، ولا يحيا حياة تنفعه؛ كما قال الشاعر:
ألا ما لنفس لا تموت فينقضي عناها ولا تحيا حياة لها طعم
وقد مضى في "النساء" وغيرها حديث أبي سعيد الخدري، وأن الموحدين من المؤمنين إذا دخلوا جهنم - وهي النار الصغرى على قول الفراء - احترقوا فيها وماتوا؛ إلى أن يشفع فيهم. خرجه مسلم. وقيل: أهل الشقاء متفاوتون في شقائهم، هذا الوعيد للأشقى، وإن كان ثم شقي لا يبلغ هذه المرتبة.
الآية: 14 - 15 {قد أفلح من تزكى، وذكر اسم ربه فصلى}
قوله تعالى: "قد أفلح" أي قد صادف البقاء في الجنة؛ أي من تطهر من الشرك بإيمان؛ قاله ابن عباس وعطاء وعكرمة. وقال الحسن والربيع: من كان عمله زاكيا ناميا. وقال معمر عن قتادة: "تزكى" قال بعمل صالح. وعنه وعن عطاء وأبي عالية: نزلت في صدقة الفطر. وعن ابن سيرين "قد أفلح من تزكى. وذكر اسم ربه فصلى" قال: خرج فصلى بعدما أدى. وقال عكرمة: كان الرجل يقول أقدم زكاتي بين يدي صلاتي. فقال سفيان: قال اللّه تعالى: "قد أفلح من تزكى. وذكر اسم ربه فصلى". وروي عن أبي سعيد الخدري وابن عمر: أن ذلك في صدقة الفطر، وصلاة العيد. وكذلك قال أبو العالية، وقال: إن أهل المدينة لا يرون صدقة أفضل منها، ومن سقاية الماء. وروى كثير بن عبدالله عن أبيه عن جده، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قوله تعالى: "قد أفلح من تزكى" قال: [أخرج زكاة الفطر]، "وذكر اسم ربه فصلى" قال: [صلاة العيد]. وقال ابن عباس والضحاك: "وذكر اسم ربه" في طريق المصلى "فصلى" صلاة العيد. وقيل: المراد بالآية زكاة الأموال كلها؛ قال أبو الأحوص وعطاء. وروى ابن جريج قال: قلت لعطاء: "قد أفلح من تزكى" للفطر؟ قال: هي للصدقات كلها. وقيل: هي زكاة الأعمال، لا زكاة الأموال، أي تطهر في أعماله من الرياء والتقصير؛ لأن الأكثر أن يقال في المال: زكى، لا تزكى. وروى جابر بن عبدالله قال: قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: ["قد أفلح من تزكى" أي من شهد أن لا إله إلا اللّه، وخلع الأنداد، وشهد أني رسول اللّه]. وعن ابن عباس "تزكى" قال: لا إله إلا اللّه. وروى عنه عطاء قال: نزلت في عثمان بن عفان رضي اللّه عنه. قال: كان بالمدينة منافق كانت له نخلة بالمدينة، مائلة في دار رجل من الأنصار، إذا هبت الرياح أسقطت البسر والرطب إلى دار الأنصاري، فيأكل هو وعياله، فخاصمه المنافق؛ فشكا ذلك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأرسل إلى المنافق وهو لا يعلم نفاقه، فقال: [إن أخاك الأنصاري ذكر أن بسرك ورطبك يقع إلى منزل، فيأكل هو وعياله، فهل لك أن أعطيك نخلة في الجنة بدلها]؟ فقال: أبيع عاجلا بآجل لا أفعل. فذكروا أن عثمان بن عفان أعطاه حائطا من نخل بدل نخلته؛ ففيه نزلت "قد أفلح من تزكى". ونزلت في المنافق "ويتجنبها الأشقى". وذكر الضحاك أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه.
وقد ذكرنا القول في زكاة الفطر في السورة "البقرة" مستوفى. وقد تقدم أن هذه السورة مكية؛ في قول الجمهور، ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة فطر. القشيري: ولا يبعد أن يكون أثنى على من يمتثل أمره في صدقة الفطر وصلاة العيد، فيما يأمر به في المستقبل.
قوله تعالى: "وذكر اسم ربه فصلى" أي ذكر ربه. وروى عطاء عن ابن عباس قال: يريد ذكر معاده وموقفه بين يدي اللّه جل ثناؤه، فعبده وصلى له. وقيل: ذكر اسم ربه بالتكبير في أول الصلاة، لأنها لا تنعقد إلا بذكره؛ وهو قوله: اللّه أكبر: وبه يحتج على وجوب تكبيرة الافتتاح، وعلى أنها ليست من الصلاة؛ لأن الصلاة معطوفة عليها. وفيه حجة لمن قال: إن الافتتاح جائز بكل اسم من أسماء اللّه عز وجل. وهذه مسألة خلافية بين الفقهاء. وقد مضى القول في هذا في أول سورة "البقرة". وقيل: هي تكبيرات العيد. قال الضحاك: "وذكر اسم ربه" في طريق المصلى "فصلى"؛ أي صلاة العيد. وقيل: "وذكر اسم ربه" وهو أن يذكره بقلبه عند صلاته، فيخاف عقابه، ويرجو ثوابه؛ ليكون استيفاؤه لها، وخشوعه فيها، بحسب خوفه ورجائه. وقيل: هو أن يفتتح أول كل سورة ببسم اللّه الرحمن الرحيم. "فصلى" أي فصلى وذكر. ولا فرق بين أن تقول: أكرمتني فزرتني، وبين أن تقول: زرتني فأكرمتني. قال ابن عباس: هذا في الصلاة المفروضة، وهي الصلوات الخمس. وقيل: الدعاء؛ أي دعاء اللّه بحوائج الدنيا والآخرة. وقيل: صلاة العيد؛ قال أبو سعيد الخدري وابن عمر وغيرهما. وقد تقدم. وقيل: هو أن يتطوع بصلاة بعد زكاته؛ قال أبو الأحوص، وهو مقتضى قول عطاء. وروي عن عبدالله قال: من أقام الصلاة ولم يؤت الزكاة فلا صلاة له.