تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 595 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 595

595- تفسير الصفحة رقم595 من المصحف
سورة الشمس
الآية: 1 {والشمس وضحاها}
قال مجاهد: "وضحاها" أي ضوءها وإشراقها. وهو قسم ثان. وأضاف الضحى إلى الشمس، لأنه إنما يكون بارتفاع الشمس. وقال قتادة: بهاؤها. السدي: حرها. وروى الضحاك عن ابن عباس: "وضحاها" قال: جعل فيها الضوء وجعلها حارة. وقال اليزيدي: هو انبساطها. وقيل: ما ظهر بها من كل مخلوق؛ فيكون القسم بها وبمخلوقات الأرض كلها. حكاه الماوردي والضحا: مؤنثة. يقال: ارتفعت الضحا، وهي فوق الضحو. وقد تذكر. فمن أنث ذهب إلى أنها جمع ضحوة. ومن ذكر ذهب إلى أنه اسم على فعل، نحو صرد ونغر. وهو ظرف غير متمكن مثل سحر. تقول: لقيته ضحا وضحا؛ إذا أردت به ضحا يومك لم تنونه. وقال الفراء: الضحا هو النهار؛ كقول قتادة. والمعروف عند العرب أن الضحا: النهار كله، فذلك لدوام نور الشمس، ومن قال: إنه نور الشمس أو حرها، فنور الشمس لا يكون إلا مع حر الشمس. وقد استدل من قال: إن الضحى حر الشمس بقوله تعالى: "ولا تضحى" [طه: 119] أي لا يؤذيك الحر. وقال المبرد: أصل الضحا من الضح، وهو نور الشمس، والألف مقلوبة من الحاء الثانية. تقول: "ضحوة وضحوات، وضحوات وضحا، فالواو من ضحوة مقلوبة عن الحاء الثانية، والألف في ضحا مقلوبة عن الواو. وقال أبو الهيثم: الضح: نقيض الظل، وهو نور الشمس على وجه الأرض، وأصله الضحا فاستثقلوا الياء مع سكون الحاء، فقلبوها ألفا.
الآية: 2 {والقمر إذا تلاها}
أي تبعها: وذلك إذا سقطت رؤي الهلال. يقال: تلوت فلانا: إذا تبعته. قال قتادة: إنما ذلك ليلة الهلال، إذا سقطت الشمس رؤي الهلال. وقال ابن زيد: إذا غربت الشمس في النصف الأول من الشهر، تلاها القمر بالطلوع، وفي آخر الشهر يتلوها بالغروب. القراء: "تلاها": أخذ منها، يذهب إلى أن القمر يأخذ من ضوء الشمس. وقال قوم: "والقمر إذا تلاها" حين استوى واستدار، فكان مثلها في الضياء والنور؛ وقاله الزجاج.
الآية: 3 {والنهار إذا جلاها}
أي كشفها. فقال قوم: جلى الظلمة؛ وإن لم يجر لها ذكر؛ كما تقول: أضحت باردة، تريد أضحت غداتنا باردة. وهذا قول الفراء والكلبي وغيرهما. وقال قوم: الضمير في "جلاها" للشمس؛ والمعنى: أنه يبين بضوئه جرمها. ومنه قول قيس بن الخطيم:
تجلت لنا كالشمس تحت غمامة بدا حاجب منها وضنت بحاجب
وقيل: جلى ما في الأرض من حيوانها حتى ظهر، لاستتاره ليلا وانتشاره نهارا. وقيل: جلى الدنيا. وقيل: جلى الأرض؛ وإن لم يجر لها ذكر؛ ومثله قوله تعالى: "حتى توارت بالحجاب" [ص: 32] على ما تقدم آنفا.
الآية: 4 {والليل إذا يغشاها}
أي يغشى الشمس، فيذهب بضوئها عند سقوطها؛ قال مجاهد وغيره. وقيل: يغشى الدنيا بالظلم، فتظلم الآفاق. فالكناية ترجع إلى غير مذكور.
الآية: 5 {والسماء وما بناها}
أي وبنيانها. فما مصدرية؛ كما قال: "بما غفر لي ربي" [يس: 27] أي بغفران ربي؛ قاله قتادة، واختاره المبرد. وقيل: المعنى ومن بناها؛ قاله الحسن ومجاهد؛ وهو اختيار الطبري. أي ومن خلقها ورفعها، وهو الله تعالى. وحكي عن أهل الحجاز: سبحان ما سبحت له؛ أي سبحان من سبحت له.
الآية: 6 {والأرض وما طحاها}
أي وطحوها. وقيل: ومن طحاها؛ على ما ذكرناه آنفا. أي بسطها؛ كذا قال عامة المفسرين؛ مثل دحاها. قال الحسن ومجاهد وغيرهما: طحاها ودحاها: واحد؛ أي بسطها من كل جانب. والطحو: البسط؛ طحا يطحو طحوا، وطحى يطحي طحيا، وطحيت: اضطجعت؛ عن أبي عمرو. وعن ابن عباس: طحاها: قسمها. وقيل: خلقها؛ قال الشاعر:
وما تدري جذيمة من طحاها ولا من ساكن العرش الرفيع
الماوردي: ويحتمل أنه ما خرج منها من نبات وعيون وكنوز؛ لأنه حياة لما خلق عليها. ويقال في بعض أيمان العرب: لا، والقمر الطاحي؛ أي المشرف المشرق المرتفع. قال أبو عمرو: طحا الرجل: إذا ذهب في الأرض. يقال: ما أدري أين طحا! ويقال: طحا به قلبه: إذا ذهب به في كل شيء. قال علقمة:
طحا بك قلب في الحسان طروب بعيد الشباب عصر حان مشيب
الآية: 7 {ونفس وما سواها}
قيل: المعنى وتسويتها. "فما": بمعنى المصدر. وقيل: المعنى ومن سواها، وهو الله عز وجل. وفي النفس قولان: أحدهما آدم. الثاني: كل نفس منفوسة. وسوى: بمعنى هيأ. وقال مجاهد: سواها: سوى خلقها وعدل. وهذه الأسماء كلها مجرورة على القسم. أقسم جل ثناؤه بخلقه لما فيه من عجائب الصنعة الدالة عليه.
الآية: 8 {فألهمها فجورها وتقواها}
قوله تعالى: "فألهمها" أي عرفها؛ كذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد. أي عرفها طريق الفجور والتقوى؛ وقال ابن عباس. وعن مجاهد أيضا: عرفها الطاعة والمعصية. وعن محمد بن كعب قال: إذا أراد الله عز وجل بعبده خيرا، ألهمه الخير فعمل به، وإذا أراد به السوء، ألهمه الشر فعمل به. وقال الفراء: "فألهمها" قال: عرفها طريق الخير وطريق الشر؛ كما قال: "وهديناه النجدين" [البلد: 10]. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: ألهم المؤمن المتقي تقواه، وألهم الفاجر فجوره. وعن سعيد عن قتادة قال: بين لها فجورها وتقواها. والمعنى متقارب. وروي عن أبي هريرة قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم "فألهمها فجورها وتقواها" قال: [اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها]. ورواه جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية: "فالهمها فجورها وتقواها" رفع صوته بها، وقال: [اللهم آت نفسي تقواها، أنت وليها ومولاها، وأنت خير من زكاها]. وفي صحيح مسلم، عن أبي الأسود الدؤلي قال: قال لي عمران بن حصين: أرأيت ما يعمل الناس اليوم، ويكدحون فيه، أشيء قضي ومضى عليهم من قدر سبق، أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم، وثبتت الحجة عليهم؟ فقلت: بل شيء قضي عليهم، ومضى عليهم. قال فقال: أفلا يكون ظلما؟ قال: ففزعت من ذلك فزعا شديدا، وقلت: كل شيء خلق الله وملك يده، فلا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون. فقال لي: يرحمك الله إني لم أرد بما سألتك إلا لأحزر عقلك، إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه: أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم. وثبتت الحجة عليهم؟ فقال: (لا بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم. وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: "ونفس وما سواها. فألهمها فجورها وتقواها"). والفجور والتقوى: مصدران في موضع المفعول به.
الآية: 9 - 10 {قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها}
قوله تعالى: "قد أفلح من زكاها" هذا جواب القسم، بمعنى: لقد أفلح. قال الزجاج: اللام حذفت، لأن الكلام طال، فصار طول عوضا منها. وقيل: الجواب محذوف؛ أي والشمس وكذا وكذا لتبعثن. الزمخشري: تقديره ليدمدمن الله عليهم؛ أي على أهل مكة، لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما دمدم على ثمود؛ لأنهم كذبوا صالحا. وأما "قد أفلح من زكاها" فكلام تابع لأوله؛ لقوله: "فألهمها فجورها وتقواها" على سبيل الاستطراد، وليس من جواب القسم في شيء. وقيل: هو على التقديم والتأخير بغير حذف؛ والمعنى: قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها، والشمس وضحاها. "أفلح" فاز. "من زكاها" أي من زكى الله نفسه بالطاعة. "وقد خاب من دساها" أي خسرت نفس دسها الله عز وجل بالمعصية. وقال ابن عباس: خابت نفس أضلها وأغواها. وقيل: أفلح من زكى نفسه بطاعة الله، وصالح الأعمال، وخاب من دس نفسه في المعاصي؛ قال قتادة وغيره. وأصل الزكاة: النمو والزيادة، ومنه زكا الزرع: إذا كثر ريعه، ومنه تزكية القاضي للشاهد؛ لأنه يرفعه بالتعديل، وذكر الجميل. وقد تقدم هذا المعنى في أول سورة "البقرة" مستوفى. فمصطنع المعروف والمبادر إلى أعمال البر، شهر نفسه ورفعها. وكانت أجواد العرب تنزل الربا وارتفاع الأرض، ليشتهر مكانها للمعتفين، وتوقد النار في الليل للطارقين. وكانت اللئام تنزل الأولاج والأطراف والأهضام، ليخفى مكانها عن الطالبين. فأولئك علوا أنفسهم وزكوها، وهؤلاء أخفوا أنفسهم ودسوها. وكذا الفاجر أبدا خفي المكان، زمر المروءة غامض الشخص، ناكس الرأس بركوب المعاصي. وقيل: دساها: أغواها. قال:
وأنت الذي دسيت عمرا فأصبحت حلائله منه أرامل ضيعا
قال أهل اللغة: والأصل: دسسها، من التدسيس، وهو إخفاء الشيء، فأبدلت سينه ياء؛ كما يقال: قصيت أظفاري؛ وأصله قصصت أظفاري. ومثله قولهم في تقضض: تقضي. وقال ابن الأعرابي: "وقد خاب من دساها" أي دس نفسه في جملة الصالحين وليس منهم.
الآية: 11 - 14 {كذبت ثمود بطغواها، إذ انبعث أشقاها، فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها، فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها}
قوله تعالى: "كذبت ثمود بطغواها" أي بطغيانها، وهو خروجها عن الحد في العصيان؛ قاله مجاهد وقتادة وغيرهما. وعن ابن عباس "بطغواها" أي بعذابها الذي وعدت به. قال: وكان اسم العذاب الذي جاءها الطغوي؛ لأنه طغى عليهم. وقال محمد بن كعب: "بطغواها" بأجمعها. وقيل: هو مصدر، وخرج على هذا المخرج، لأنه أشكل برؤوس الآي. وقيل: الأصل بطغياها، إلا أن "فعلى" إذا كانت من ذوات الياء أبدلت في الاسم واوا، ليفصل بين الاسم والوصف. وقراءة العامة بفتح الطاء. وقرأ الحسن والجحدري وحماد بن سلمة (بضم الطاء) على أنه مصدر؛ كالرجعي والحسني وشبههما في المصادر. وقيل: هما لغتان. "إذ انبعث" أي نهض. "أشقاها" لعقر الناقة. واسمه قدار بن سالف. وقد مضى في "الأعراف" بيان هذا، وهل كان واحدا أو جماعة. وفي البخاري عن عبدالله بن زمعة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، وذكر الناقة والذي عقرها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أتدري من أشقى الأولين] قلت: الله ورسوله أعلم. قال: [قاتلك].
قوله تعالى: "فقال لهم رسول الله" يعني صالحا. "ناقة الله" "ناقة" منصوب على التحذير؛ كقولك: الأسد الأسد، والصبي الصبي، والحذار الحذار. أي احذروا ناقة الله؛ أي عقرها. وقيل: ذروا ناقة الله، كما قال: "هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم". [الأعراف: 73]. "وسقياها" أي ذروها وشربها. وقد مضى في سورة "الشعراء" بيانه والحمد لله. وأيضا في سورة "اقتربت الساعة" [القمر: 1]. فإنهم لما اقترحوا الناقة، وأخرجها لهم من الصخرة، جعل لهم شرب يوم من بئرهم، ولها شرب يوم مكان ذلك، فشق ذلك عليهم. "فكذبوه" أي كذبوا صالحا عليه السلام في قوله لهم: [إنكم تعذبون إن عقرتموها]. "فعقروها" أي عقرها الأشقى. وأضيف إلى الكل، لأنهم رضوا بفعله. وقال قتادة: ذكر لنا أنه لم يعقرها حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وأنثاهم. وقال الفراء: عقرها اثنان: والعرب تقول: هذان أفضل الناس، وهذان خير الناس، وهذه المرأة أشقى القوم؛ فلهذا لم يقل: أشقياها.
قوله تعالى: "فدمدم عليهم ربهم بذنبهم" أي أهلكهم وأطبق عليهم العذاب بذنبهم الذي هو الكفر والتكذيب والعقر. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: دمدم عليهم قال: دمر عليهم ربهم بذنبهم؛ أي بجرمهم. وقال الفراء: دمدم أي أرجف. وحقيقة الدمدمة تضعيف العذاب وترديده. ويقال: دممت على الشيء أي أطبقت عليه، ودمم عليه القبر: أطبقه. وناقة مدومة: ألبسها الشحم. فإذا كررت الإطباق قلت: دمدمت. والدمدمة: إهلاك باستئصال؛ قاله المؤرج. وفي الصحاح: ودمدمت الشيء: إذا ألزقته بالأرض وطحطحته. ودمدم الله عليهم: أي أهلكهم. القشيري: وقيل دمدمت على الميت التراب: أي سويت عليه. فقوله: "فدمدم عليهم" أي أهلكهم، فجعلهم تحت التراب. وقال ابن الأنباري: دمدم أي غضب. والدمدمة: الكلام الذي يزعج الرجل. وقال بعض اللغويين: الدمدمة: الإدامة؛ تقول العرب: ناقة مدمدمة أي سمينة. "فسواها" أي سوى عليهم الأرض. وعلى الأول "فسواها" أي فسوى الدمدمة والإهلاك عليهم. وذلك أن الصيحة أهلكتهم، فأتت على صغيرهم وكبيرهم. وقيل: "فسواها" أي فسوى الأمة في إنزال العذاب بهم، صغيرهم وكبيرهم، وضيعهم وشريفهم، وذكرهم وأنثاهم. وقرأ ابن الزبير "فدمدم" وهما، لغتان؛ كما يقال: امتقع لونه وانتقع.
الآية: 15 {ولا يخاف عقباها}
أي فعل الله ذلك بهم غير خائف أن تلحقه تبعة الدمدمة من أحد؛ قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد. والهاء في "عقباها" ترجع إلى الفعلة؛ كقوله: (من اغتسل يوم الجمعة فبها ونعمت) أي بالفعلة والخصلة. قال السدي والضحاك والكلبي: ترجع إلى العاقر؛ أي لم يخف الذي عقرها عقبى ما صنع. وقال ابن عباس أيضا. وفي الكلام تقديم وتأخير، مجازه: إذ انبعث أشقاها ولا يخاف عقباها. وقيل: لا يخاف رسول الله صالح عاقبة إهلاك قومه، ولا يخشى ضررا يعود عليه من عذابهم؛ لأنه قد أنذرهم، ونجاه الله تعالى حين أهلكهم. وقرأ نافع وابن عامر "فلا" بالفاء، وهو الأجود؛ لأنه يرجع إلى المعنى الأول؛ أي فلا يخاف الله عاقبة إهلاكهم. والباقون بالواو، وهي أشبه بالمعنى الثاني؛ أي ولا يخاف الكافر عاقبة ما صنع. وروى ابن وهب وابن القاسم عن مالك قالا: أخرج إلينا مالك مصحفا لجده، وزعم أنه كتبه في أيام عثمان بن عفان حين كتب المصاحف، وفيه: "ولا يخاف" بالواو. وكذا هي في في مصاحف أهل مكة والعراقيين بالواو، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، اتباعا لمصحفهم.
سورة الليل
الآية: 1 - 4 {والليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى، وما خلق الذكر والأنثى، إن سعيكم لشتى}
قوله تعالى: "والليل إذا يغشى" أي يُغطي. ولم يذكر معه مفعولا للعلم به. وقيل: يغشى النهار. وقيل: الأرض. وقيل: الخلائق. وقيل: يغشى كل شيء بظلمته. وروى سعيد عن قتادة قال: أول ما خلق اللّه النور والظلمة، ثم ميز بينهما، فجعل الظلمة ليلا أسود مظلما، والنور نهارا مضيئا مبصرا. "والنهار إذا تجلى" أي إذا انكشف ووضح وظهر، وبان بضوئه عن ظلمة الليل. "وما خلق الذكر والأنثى" قال الحسن: معناه والذي خلق الذكر والأنثى؛ فيكون قد أقسم بنفسه عز وجل. وقيل: معناه وخلق الذكر والأنثى؛ (فما): مصدرية على ما تقدم. وأهل مكة يقولون للرعد: سبحان ما سبحت له (فما) على هذا بمعنى (من)، وهو قول أبي عبيدة وغيره. وقد تقدم. وقيل: المعنى وما خلق من الذكر والأنثى؛ فتكون "من" مضمرة، ويكون القسم منه بأهل طاعته، من أنبيائه وأوليائه، ويكون قسمه بهم تكرمة لهم وتشريفا. وقال أبو عبيدة: "وما خلق" أي من خلق. وكذا قوله: "والسماء وما بناها" [الشمس: 5]، "ونفس وما سواها" [الشمس: 7]، "ما" في هذه المواضع بمعنى من. وروي. ابن مسعود أنه كان يقرأ "والنهار إذا تجلى. والذكر والأنثى" ويسقط "وما خلق". وفي صحيح مسلم عن علقمة قال: قدمنا الشام، فأتانا أبو الدرداء، فقال: فيكم أحد يقرأ عليّ قراءة عبدالله؟ فقلت: نعم، أنا. قال: فكيف سمعت عبدالله يقرأ هذه الآية "والليل إذا يغشى"؟ قال: سمعته يقرأ "والليل إذا يغشى. والذكر والأنثى" قال: وأنا واللّه هكذا سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقرؤها، ولكن هؤلاء يريدون أن أقرأ "وما خلق" فلا أتابعهم.
قال أبو بكر الأنباري: وحدثنا محمد بن يحيى المروزي قال حدثنا محمد قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري قال: حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبدالرحمن بن يزيد عن عبدالله قال: أقرأني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم "إني أنا الرازق ذو القوة المتين"؛ قال أبو بكر: كل من هذين الحديثين مردود؛ بخلاف الإجماع له، وأن حمزة وعاصما يرويان عن عبدالله بن مسعود ما عليه جماعة المسلمين، والبناء على سندين يوافقان الإجماع أولى من الأخذ بواحد يخالفه الإجماع والأمة، وما يبني على رواية واحد إذا حاذاه رواية جماعة تخالفه، أخذ برواية الجماعة، وأبطل نقل الواحد؛ لما يجوز عليه من النسيان والإغفال. ولو صح الحديث عن أبي الدرداء وكان إسناده مقبولا معروفا، ثم كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة رضي اللّه عنهم يخالفونه، لكان الحكم العمل بما روته الجماعة، ورفض ما يحكيه الواحد المنفرد، الذي يسرع إليه من النسيان ما لا يسرع إلى الجماعة، وجميع أهل الملة.
وفي المراد بالذكر والأنثى قولان: أحدهما: آدم وحواء؛ قاله ابن عباس والحسن والكلبي. الثاني: يعني جميع الذكور والإناث من بني آدم والبهائم؛ لأن اللّه تعالى خلق جميعهم من ذكر وأنثى من نوعهم. وقيل: كل ذكر وأنثى من الآدميين دون البهائم لاختصاصهم بولاية اللّه وطاعته. "إن سعيكم لشتى" هذا جواب القسم. والمعنى: إن عملكم لمختلف. وقال عكرمة وسائر المفسرين: السعي: العمل؛ فساع في فكاك نفسه، وساع في عطبها؛ يدل عليه قوله عليه السلام: (الناس غاديان: فمبتاع نفسه فمعتقها، وبائع نفسه فموبقها). وشتى: واحده شتيت؛ مثل مريض ومرضى. وإنما قيل للمختلف شتى لتباعد ما بين بعضه وبعضه. أي إن عملكم لمتباعد بعضه من بعض؛ لأن بعضه ضلالة وبعضه هدى. أي فمنكم مؤمن وبر، وكافر وفاجر، ومطيع وعاص. وقيل: "لشتى" أي لمختلف الجزاء؛ فمنكم مثاب بالجنة، ومعاقب بالنار. وقيل: أي لمختلف الأخلاق؛ فمنكم راحم وقاس، وحليم وطائش، وجواد وبخيل؛ وشبه ذلك.
الآية: 5 - 10 {فأما من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى، فسنيسره لليسرى، وأما من بخل واستغنى، وكذب بالحسنى، فسنيسره للعسرى}
قوله تعالى: "فأما من أعطى واتقى" قال ابن مسعود: يعني أبا بكر رضي اللّه عنه؛ وقال عامة المفسرين. فروى عن عامر بن عبدالله بن الزبير قال: كان أبو بكر يعتق على الإسلام عجائز ونساء، قال: فقال له أبوه قحافة: أي بني لو أنك أعتقت رجالا جلدا يمنعونك ويقومون معك؟ فقال: يا أبت إنما أريد ما أريد. وعن ابن عباس في قوله تعالى: "فأما من أعطى" أي بذل. "واتقى" أي محارم اللّه التي نهى عنها. "وصدق بالحسنى" أي بالخلف من اللّه تعالى على عطائه. "فسنيسره لليسرى" وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا). وروى من حديث أبي الدرداء: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (ما من يوم غربت شمسه إلا بعث بجنبتها ملكان يناديان يسمعهما خلق اللّه كلهم إلا الثقلين: اللهم أعط منفقا خلفا، وأعط ممسكا تلفا) فأنزل اللّه تعالى في ذلك في القرآن "فأما من أعطى"... الآيات. وقال أهل التفسير: "فأما من أعطى" المعسرين. وقال قتاده: أعطى حق اللّه تعالى الذي عليه. وقال الحسن: أعطى الصدق من قلبه. "وصدق بالحسنى" أي بلا إله إلا اللّه؛ قاله الضحاك والسلمي وابن عباس أيضا. وقال مجاهد: بالجنة؛ دليله قوله تعالى: "للذين أحسنوا الحسنى وزيادة"... [يونس: 26] الآية. وقال قتادة: بموعود اللّه الذي وعده أن يثيبه. زيد بن أسلم: بالصلاة والزكاة والصوم. الحسن: بالخلف من عطائه؛ وهو اختيار الطبري. وتقدم عن ابن عباس، وكله متقارب المعنى؛ إذ كله يرجع إلى الثواب الذي هو الجنة.
قوله تعالى: "فسنيسره لليسرى" أي نرشده لأسباب الخير والصلاح، حتى يسهل عليه فعلها. وقال زيد بن أسلم: "لليسرى" للجنة. وفي الصحيحين والترمذي عن علي رضي اللّه عنه قال: كنا في جنازة بالبقيع، فأتى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فجلس وجلسنا معه، ومعه عود ينكت به في الأرض، فرفع رأسه إلى السماء فقال: [ما من نفس منفوسة إلا قد كتب مدخلها] فقال القوم: يا رسول اللّه، أفلا نتكل على كتابنا؟ فمن كان من أهل السعادة فانه يعمل للسعادة، ومن كان من أهل الشقاء فإنه يعمل للشقاء. قال: [بل اعملوا فكل ميسر؛ أما من كان من أهل السعادة فإنه ييسر لعمل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فإنه ييسر لعمل الشقاء - ثم قرأ - "فأما من أعطى وأتقى وصدق بالحسنى، فسنيسره لليسرى، وأما من بخل واستغنى، وكذب بالحسنى، فسنيسره للعسرى"] لفظ الترمذي. وقال فيه: حديث حسن صحيح. وسأل غلامان شابان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالا: العمل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير؟ أم في شيء يستأنف؟ فقال عليه السلام: [بل فيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير] قالا: ففيم العمل؟ قال: [اعملوا، فكل ميسر لعمل الذي خلق له] قالا: فالآن نجد ونعمل.
قوله تعالى: "وأما من بخل واستغنى" أي ضن بما عنده، فلم يبذل خيرا. وقد تقدم بيانه وثمرته في الدنيا في سورة "آل عمران". وفي الآخرة مآله النار، كما في هذه الآية. روى الضحاك عن ابن عباس "فسنيسره للعسرى" قال: سوف أحول بينه وبين الإيمان باللّه وبرسوله. وعنه عن ابن عباس قال: نزلت في أمية بن خلف وروى عكرمة عن ابن عباس: "وأما من بخل واستغنى" يقول: بخل بماله، واستغنى ربه. "وكذب بالحسنى" أي بالخلف. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد: "وكذب بالحسن" قال: بالجنة. وبإسناد عنه آخر قال "بالحسنى" أي بلا إله إلا اللّه. "فسنيسره" أي نسهل طريقه... "للعسرى" أي للشر. وعن ابن مسعود: للنار. وقيل: أي فسنعسر عليه أسباب الخير والصلاح حتى يصعب عليه فعلها. وقد تقدم أن الملك ينادي صباحا ومساء: [اللهم أعط منفقا خلفا، وأعط ممسكا تلفا]. رواه أبو الدرداء.
مسألة: قال العلماء: ثبت بهذه الآية وبقوله: "ومما رزقناهم ينفقون" [البقرة: 3]، وقوله: "الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية" [البقرة: 274] إلى غير ذلك من الآيات - أن الجود من مكارم الأخلاق، والبخل من أرذلها. وليس الجواد الذي يعطي في غير موضع العطاء، ولا البخيل الذي يمنع في موضع المنع، لكن الجواد الذي يعطي في موضع العطاء، والبخيل الذي يمنع في موضع العطاء، فكل من استفاد بما يعطي أجرا وحمدا فهو الجواد. وكل من استحق بالمنع ذما أو عقابا فهو البخيل. ومن لم يستفد بالعطاء أجرا ولا حمدا، وإنما استوجب به ذما فليس بجواد، وإنما هو مسوف مذموم، وهو من المبذرين الذين جعلهم اللّه إخوان الشياطين، وأوجب الحجر عليهم. ومن لم يستوجب بالمنع عقابا ولا ذما، واستوجب به حمدا، فهو من أهل الرشد، الذين يستحقون القيام على أموال غيرهم، بحسن تدبيرهم وسداد رأيهم.
قال الفراء: يقول القائل: كيف قال: "فسنيسره للعسرى"؟ وهل في العسرى تيسير؟ فيقال في الجواب: هذا في إجازته بمنزلة قوله عز وجل: "فبشرهم بعذاب أليم" [آل عمران: 21]، والبشارة في الأصل على المفرح والسار، فإذا جمع في كلامين هذا خير وهذا شر، جاءت البشارة فيهما. وكذلك التيسير في الأصل على المفرح، فإذا جمع في كلامين هذا خير وهذا شر، جاء التيسير فيهما جميعا. قال الفراء: وقوله تعالى: "فسنيسره" : سنهيئه. والعرب تقول: قد يسرت الغنم: إذا ولدت أو تهيأت للولادة. قال:
هما سيدانا يزعمان وإنما يسوداننا أن يسرت غنماهما
الآية: 11 - 13 {وما يغني عنه ماله إذا تردى، إن علينا للهدى، وإن لنا للآخرة والأولى}
قوله تعالى: "وما يغني عنه ماله إذا تردى" أي مات. يقال: ردي الرجل يردي ردي : إذا هلك. قال:
صرفت الهوى عنهن من خشية الردى
وقال أبو صالح وزيد بن أسلم: "إذا تردى": سقط في جهنم؛ ومنه المتردية. ويقال: ردي في البئر وتردى: إذا سقط في بئر، أو تهور من جبل. يقال: ما أدري أين ردي؟ أي أين ذهب. و"ما": يحتمل أن تكون جحدا؛ أي ولا يغني عنه ماله شيئا؛ ويحتمل أن تكون استفهاما معناه التوبيخ؛ أيْ أيّ شيء يغني عنه إذا هلك ووقع في جهنم! "إن علينا للهدى" أي إن علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضلالة. فالهدى: بمعنى بيان الأحكام، قاله الزجاج. أي على اللّه البيان، بيان حلال وحرامه، وطاعته ومعصيته؛ قال قتادة. وقال الفراء: من سلك الهدى فعلى اللّه سبيله؛ لقوله: "وعلى الله قصد السبيل" [النحل: 9] يقول: من أراد اللّه فهو على السبيل القاصد. وقيل: معناه إن علينا للهدى والإضلال، فترك الإضلال؛ كقوله: "بيدك الخير" [آل عمران: 26]، و"بيده ملكوت كل شيء" [يس: 83]. وكما قال: "سرابيل تقيكم الحر" [النحل: 81] وهي تقي البرد؛ عن الفراء أيضا. وقيل: أي إن علينا ثواب هداه الذي هديناه. "وإن لنا للآخرة والأولى" "للآخرة" الجنة. "والأولى" الدنيا. وكذا روى عطاء عن ابن عباس. أي الدنيا والآخرة لله تعالى. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: ثواب الدنيا والآخرة، وهو كقوله تعالى: "من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة" [النساء: 134] فمن طلبهما من غير مالكهما فقد أخطأ الطريق.
الآية: 14 - 16 {فأنذرتكم نارا تلظى، لا يصلاها إلا الأشقى، الذي كذب وتولى}
قوله تعالى: "فأنذرتكم" أي حذرتكم وخوفتكم. "نارا تلظى" أي تلهب وتتوقد وأصله تتلظى. وهي قراءة عبيد بن عمير، ويحيى بن يعمر، وطلحة بن مصرف. "لا يصلاها" أي لا يجد صلاها وهو حرها. "إلا الأشقى" أي الشقي. "الذي كذب" نبي اللّه محمدا صلى اللّه عليه وسلم."وتولى" أي أعرض عن الإيمان. وروى مكحول عن أبي هريرة قال: كل يدخل الجنة إلا من أباها. قال: يا أبا هريرة، ومن يأبىّ أن يدخل الجنة؟ قال: الذي كذب وتولى. وقال مالك: صلى بنا عمر بن عبدالعزيز المغرب، فقرأ "والليل إذا يغشى" فلما بلغ "فأنذرتكم نارا تلظى" وقع عليه البكاء، فلم يقدر يتعداها من البكاء، فتركها وقرأ سورة أخرى. وقال: الفراء: "إلا الأشقى" إلا من كان شقيا في علم اللّه جل ثناؤه. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: "لا يصلاها إلا الأشقى" أمية بن خلف ونظراؤه الذين كذبوا محمدا صلى اللّه عليه وسلم. وقال قتادة: كذب بكتاب اللّه، وتولى عن طاعة اللّه. وقال الفراء: لم يكن كذب برد ظاهر، ولكنه قصر عما أمر به من الطاعة؛ فجعل تكذيبا، كما تقول: لقي فلان العدو فكذب: إذا نكل ورجع عن اتباعه. قال: وسمعت أبا ثروان يقول: إن بني نمير ليس لجدهم مكذوبة. يقول: إذا لقوا صدقوا القتال، ولم يرجعوا. وكذلك قوله جل ثناؤه: "ليس لوقعتها كاذبة" [الواقعة: 2] يقول: هي حق. وسمعت سلم بن الحسن يقول: سمعت أبا إسحاق الزجاج يقول: هذه الآية التي من أجلها قال أهل الإرجاء بالإرجاء، فزعموا أنه لا يدخل النار إلا كافر؛ لقوله جل ثناؤه: "لا يصلاها إلا الأشقى. الذي كذب وتولى" وليس الأمر كما ظنوا. هذه نار موصوفة بعينها، لا يصلى هذه النار إلا الذي كذب وتولى. ولأهل النار منازل؛ فمنها أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار؛ واللّه سبحانه كل ما وعد عليه بجنس من العذاب فجائز أن يعذب به. وقال جل ثناؤه: "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" [النساء: 48]، فلو كان كل من لم يشرك لم يعذب، لم يكن في قوله: "ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" فائدة، وكان "ويغفر ما دون ذلك" كلاما لا معنى له.
الزمخشري: الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين فقيل: الأشقى، وجعل مختصا بالصلى، كأن النار لم تخلق إلا له وقيل: الأتقى، وجعل مختصا بالجنة، كأن الجنة لم تخلق إلا له وقيل: هما أبو جهل أو أمية بن خلف. وأبو بكر رضي اللّه عنه.