تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن تفسير الصفحة 601 من المصحف



تفسير القرطبي - صفحة القرآن رقم 601

601- تفسير الصفحة رقم601 من المصحف
سورة العصر
الآية: 1 {والعصر}
قوله تعالى: "والعصر" أي الدهر؛ قاله ابن عباس وغيره. فالعصر مثل الدهر؛ ومنه قول الشاعر:
سبيل الهوى وعر وبحر الهوى غمر ويوم الهوى شهر وشهر الهوى دهر
أي عصر أقسم الله به عز وجل؛ لما فيه من التنبيه بتصرف الأحوال وتبدلها، وما فيها من الدلالة على الصانع. وقيل: العصر: الليل والنهار. قال حميد بن ثور:
ولن يلبث العصران: يوم وليلة إذا طلبا أن يدركا ما تيمما
والعصران أيضا: الغداة والعشي. قال:
وأمطله العصرين حتى يملني ويرضى بنصف الدين والأنف راغم
يقول: إذا جاءني أول النهار ووعدته آخره. وقيل: إنه العشي، وهو ما بين زوال الشمس وغروبها؛ قاله الحسن وقتادة. ومنه قول الشاعر:
تروح بنا يا عمر قد قصر العصر وفي الروحة الأولى الغنيمة والأجر
وعن قتادة أيضا: هو آخر ساعة من ساعات النهار. وقيل: هو قسم بصلاة العصر، وهي الوسطى؛ لأنها أفضل الصلوات؛ قال مقاتل. يقال: أذن للعصر، أي لصلاة العصر. وصليت العصر؛ أي صلاة العصر. وفي الخبر الصحيح (الصلاة الوسطى صلاة العصر). وقد مضى في سورة "البقرة" بيانه. وقيل: هو قسم بعصر النبي صلى الله عليه وسلم، لفضله بتجديد النبوة فيه. وقيل: معناه ورب العصر.
قال مالك: من حلف ألا يكلم رجلا عصرا: لم يكلمه سنة. قال ابن العربي: إنما حمل مالك يمين الحالف ألا يكلم امرأ عصرا على السنة؛ لأنه أكثر ما قيل فيه، وذلك على أصله في تغليظ المعنى في الأيمان. وقال الشافعي: يبر بساعة؛ إلا أن تكون له نية، وبه أقول؛ إلا أن يكون الحالف عربيا، فيقال له: ما أودت؟ فإذا فسره بما يحتمله قبل منه، إلا أن يكون الأقل، ويجيء على مذهب مالك أن يحمل على ما يفسر. والله أعلم.
الآية: 2 {إن الإنسان لفي خسر}
هذا جواب القسم. والمراد به الكافر؛قاله ابن عباس في رواية أبي صالح. وروى الضحاك عنه قال: يريد جماعة من المشركين: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن عبدالمطلب بن أسد بن عبد العزى، والأسود بن عبد يغوث. وقيل: يعني بالإنسان جنس الناس. "لفي خسر" لفي غبن. وقال الأخفش: هلكة. الفراء: عقوبة؛ ومنه قوله تعالى: "وكان عاقبة أمرها خسرا" [الطلاق: 9]. ابن زيد: لفي شر. وقيل: لفي نقص؛ المعنى متقارب. وروي عن سلام "والعصر" بكسر الصاد. وقرأ الأعرج وطلحة وعيسى الثقفي "خسر" بضم السين. وروى ذلك هارون عن أبي بكر عن عاصم. والوجه فيهما الإتباع. ويقال: خسر وخسر؛ مثل عسر وعسر. وكان علي يقرؤها "والعصر ونوائب الدهر، إن الإنسان لفي خسر. وإنه فيه إلى آخر الدهر". وقال إبراهيم: إن الإنسان إذا عمر في الدنيا وهرم، لفي نقصى وضعف تراجع؛ إلا المؤمنين، فإنهم تكتب لهم أجورهم التي كانوا يعملونها في حال شبابهم؛ نظيره قوله تعالى: "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم. ثم رددناه أسفل سافلين". [التين: 5]. قال: وقراءتنا "والعصر إن الإنسان لفي خسر، وإنه في آخر الدهر". والصحيح ما عليه الأمة والمصاحف. وقد مضى الرد في مقدمة الكتاب على من خالف مصحف عثمان، وأن ذلك ليس بقرآن يتلي؛ فتأمله هناك.
الآية: 3 {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}
قوله تعالى: "إلا الذين آمنوا" استئناء من الإنسان؛ إذ هو بمعنى الناس على الصحيح. "وعملوا الصالحات" أي أدوا الفرائض المفترضة عليهم؛ وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبي بن كعب: قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم "والعصر" ما تفسيرها يا نبي الله؟ قال: "والعصر" قسم من الله، أقسم ربكم بآخر النهار: "إن الإنسان لفي خسر": أبو جهل "إلا الذين آمنوا": أبو بكر، "وعملوا الصالحات" عمر. "وتواصوا بالحق" عثمان "وتواصلوا بالصبر" علي. رضي الله عنهم أجمعين. وهكذا خطب ابن عباس على المنبر موقوفا عليه. "وتواصوا" أي تحابوا؛ أوصى بعضهم بعضا وحث بعضهم بعضا. "بالحق" أي بالتوحيد؛ كذا روى الضحاك عن ابن عباس. قال قتادة: "بالحق" أي القرآن. وقال السدي: الحق هنا هو الله عز وجل. "وتواصوا بالصبر" على طاعة الله عز وجل، والصبر عن معاصيه. وقد تقدم. والله أعلم.
سورة الهمزة
الآية: 1 {ويل لكل همزة لمزة}
قد تقدم القول في "الويل" في غير موضع، ومعناه الخزي والعذاب والهلكة. وقيل: واد في جهنم. "لكل همزة لمزة" قال ابن عباس: هم المشاؤون بالنميمة، المفسدون بين الأحبة، الباغون للبرآء العيب؛ فعلى هذا هما بمعنى. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (شرار عباد الله تعالى المشاؤون بالنميمة، المفسدون بين الأحبة، الباغون للبرآء العيب). وعن ابن عباس أن الهمزة: الذي يغتاب اللمزة: العياب. وقال أبو العالية والحسن ومجاهد وعطاء بن أبي رباج: الهمزة: الذي يغتاب ويطعن في وجه الرجل، واللمزة: الذي يغتابه من خلفه إذا غاب؛ ومنه قول حسان:
همزتك فاختضعت بذل نفس بقافية تأجج كالشواظ
واختار هذا القول النحاس، قال: ومنه قوله تعالى "ومنهم من يلمزك في الصدقات" [التوبة: 58]. وقال مقاتل ضد هذا الكلام: إن الهمزة: الذي يغتاب بالغيبة، واللمزة: الذي يغتاب في الوجه. وقال قتادة ومجاهد: الهمزة: الطعان في الناس، والهمزة: الطعان في أنسابهم. وقال ابن زيد الهامز: الذي يهمز الناس بيده ويضربهم، واللمزة: الذي يلمزهم بلسانه ويعيبهم. وقال سفيان الثوري يهمز بلسانه، ويلمز بعينيه. وقال ابن كيسان: الهمزة الذي يؤذي جلساءه بسوء اللفظ، واللمزة: الذي يكسر عينه على جليسه، ويشير بعينه ورأسه وبحاجبيه. وقال مرة: هما سواء؛ وهو القتات الطعان للمرء إذا غاب. وقال زياد الأعجم:
تدلي بودي إذا لاقيتني كذبا وإن أغيب فأنت الهامز اللمزة
وقال آخر:
إذا لقيتك عن سخط تكاشرني وإن تغيبت كنت الهامز اللمزة
الشحط: العبد. والهمزة: اسم وضع للمبالغة في هذا المعنى؛ كما يقال: سخرة وضحكة: للذي يسخر ويضحك بالناس. وقرأ أبو جعفر محمد بن علي والأعرج "همزة لمزة" بسكون الميم فيهما. فإن صح ذلك عنهما، فهي معنى المفعول، وهو الذي يتعرض للناس حتى يهمزوه ويضحكوا منه، ويحملهم على الاغتياب. وقرأ عبدالله بن مسعود وأبو وائل والنخعي والأعمش: "ويل للهمزة اللمزة". وأصل الهمز: الكسر، والعض على الشيء بعنف؛ ومنه همز الحرف. ويقال: همزت رأسه. وهمزت الجوز يكفي كسرته. وقيل لأعرابي: أتهمزون (الفارة)؟ فقال: إنما تهمزها الهرة. الذي في الصحاح: وقيل لأعرابي أتهمز الفارة؟ فقال السنور يهمزها. والأول قاله الثعلبي، وهو يدل على أن الهر يسمى الهمزة. قال العجاج:
ومن همزنا رأسه تهشما
وقيل: أصل الهمز واللمز: الدفع والضرب. لمزه يلمزا: إذا ضربه ودفعه. وكذلك همزه: أي دفعه وضربه. قال الراجز:
ومن همزنا عزه تبركعا على أسته زوبعة أو زوبعا
البركعة: القيام على أربع. وبركعه فتبركع؛ أي صرعه فوقع على أسته؛ قاله في الصحاح. والآية نزلت في الأخنس بن شريق، فيما روى الضحاك عن ابن عباس. وكان يلمز الناس ويعيبهم: مقبلين ومدبرين. وقال ابن جريج: في الوليد بن المغيرة، وكان يغتاب النبي صلى الله عليه وسلم من ورائه، ويقدح فيه في وجهه. وقيل: نزلت في أبي بن خلف. وقيل: في جميل بن عامر الثقفي. وقيل: إنها مرسلة على العموم من غير تخصيص؛ وهو قول الأكثرين. قال مجاهد: ليست بخاصة لأحد، بل لكل من كانت هذه صفته. وقال الفراء: بجوز أن يذكر الشيء العام ويقصد به الخاص، قصد الواحد إذا قال: لا أزورك أبدا. فتقول: من لم يزرني فلست بزائره؛ يعني ذلك القائل.
الآية: 2 {الذي جمع مالا وعدده}
أي أعده - زعم - لنوائب الدهر؛ مثل كرم وأكرم. وقيل: أحصى عدده؛ قال السدي. وقال الضحاك: أي أعد مال لمن يرثه من أولاده. وقيل: أي فاخر بعدده وكثرته. والمقصود الذم على إمساك المال عن سبيل الطاعة. كما قال: "مناع للخير" [ق: 25]، وقال: "وجمع فأوعى" [المعارج: 18]. وقراءة الجماعة "جمع" مخفف الميم. وشددها ابن عامر وحمزة والكسائي على التكثير. واختاره أبو عبيد؛ لقوله: "وعدده". وقرأ الحسن ونصر بن عاصم وأبو العالية "جمع" مخففا، "وعدده" مخففا أيضا؛ فأظهروا التضعيف، لأن أصله عده وهو بعيد؛ لأنه وقع في المصحف بدالين. وقد جاء مثله في الشعر؛ لما أبرزوا التضعيف خففوه. قال:
مهلا أمامة قد جريت من خلقي إني أجود لأقوام وإن ضَنِنوا
أراد: ضنوا وبخلوا، فأظهر التضعيف؛ لكن الشعر موضع ضرورة. قال المهدوي: من خفف "وعدده" فهو معطوف على المال؛ أي وجمع عدده فلا يكون فعلا على إظهار التضعيف؛ لأن ذلك لا يستعمل إلا في الشعر.
الآية: 3 - 7 {يحسب أن ماله أخلده، كلا لينبذن في الحطمة، وما أدراك ما الحطمة، نار الله الموقدة، التي تطلع على الأفئدة}
قوله تعالى: "يحسب" أي يظن "أن ماله أخلده" أي يبقيه حيا لا يموت؛ قاله السدي. وقال عكرمة: أي يزيد في عمره. وقيل: أحياه فيما مضى، وهو ماض بمعنى المستقبل. يقال: هلك والله فلان ودخل النار؛ أي يدخل. "كلا" رد لما توهمه الكافر؛ أي لا يخلد ولا يبقى له مال. وقد مضى القول في "كلا" مستوفى. وقال عمر بن عبدالله مولى غفرة: إذا سمعت الله عز وجل يقول "كلا" فإنه يقول كذبت. "لينبذن" أي ليطرحن وليلقين. وقرأ الحسن ومحمد بن كعب ونصر بن عاصم ومجاهد وحميد وابن محيصن: لينبذان بالتثنية، أي هو وماله. وعن الحسن أيضا "لينبذنه" على معنى لينبذن ما له. وعنه أيضا بالنون "لينبذنه" على إخبار الله تعالى عن نفسه، وأنه ينبذ صاحب المال. وعنه أيضا "لينبذن" بضم الذال؛ على أن المراد الهمزة واللمزة والمال وجامعه.
قوله تعالى: "في الحطمة" وهي نار الله؛ سميت بذلك لأنها تكسر كل ما يلقي فيها وتحطمه وتهشمه. قال الراجز:
إنا حطمنا بالقضيب مصعبا يوم كسرنا أنفه ليغضبنا
وهي الطبقة السادسة من طبقات جهنم. حكاه الماوردي عن الكلبي. وحكى القشيري عنه: "الحطمة" الدركة الثانية من درك النار. وقال الضحاك: وهي الدرك الرابع. ابن زيد: اسم من أسماء جهنم.
"وما أدراك ما الحطمة" على التعظيم لشأنها، والتفخيم لأمرها. ثم فسرها ما هي فقال: "نار الله الموقدة" أي التي أوقد عليها ألف عام، وألف عام، وألف عام؛ فهي غير خامدة؛ أعدها الله للعصاة. "التي تطلع على الأفئدة" قال محمد بن كعب: تأكل النار جميع ما في أجسادهم، حتى إذا بلغت إلى الفؤاد، خلقوا خلقا جديدا، فرجعت تأكلهم. وكذا روى خالد بن أبي عمران عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن النار تأكل أهلها، حتى إذا اطلعت على أفئدتهم انتهت، ثم إذا صدروا تعود، فذلك قوله تعالى: "نار الله الموقدة. التي تطلع على الأفئدة". وخص الأفئدة لأن الألم إذا صار إلى الفؤاد مات صاحبه. أي إنه في حال من يموت وهم لا يموتون؛ كما قال الله تعالى: "لا يموت فيها ولا يحيى" [طه: 74] فهم إذاً أحياء في معنى الأموات. وقيل: معنى "تطلع على الأفئدة" أي تعلم مقدار ما يستحقه كل واحد منهم من العذاب؛ وذلك بما استبقاه الله تعالى من الأمارة الدالة عليه. ويقال: أطلع فلان على كذا: أي علمه. وقد قال الله تعالى: "تدعوا من أدبر وتولى" [المعارج: 17]. وقال تعالى: "إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا" [الفرقان: 12]. فوصفها بهذا، فلا يبعد أن توصف بالعلم.
الآية: 8 - 9 {إنها عليهم مؤصدة، في عمد ممددة}
أي مطبقة؛ قال الحسن والضحاك. وقد تقدم في سورة "البلد" القول فيه. وقيل: مغلقة؛ بلغة قريش. يقولون: آصدت الباب إذا أغلقته؛ قال مجاهد. ومنه قول عبيدالله بن قيس الرقيات:
إن في القصر لو دخلنا غزالا مصفقا موصدا عليه الحجاب
"في عمد ممددة" الفاء بمعنى الباء؛ أي موصدة بعمد بعمد ممددة؛ قاله ابن مسعود. وهي في قراءته "بعمد ممددة" في حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (ثم إن الله يبعث إليهم ملائكة بأطباق من نار، ومسامير من نار وعمد من نار، فتطبق عليهم بتلك الأطباق، وتشد عليهم بتلك المسامير، وتمد بتلك العبد، فلا يبقى فيها خلل يدخل فيه روح، ولا يخرج منه غم، وينساهم الرحمن على عرشه، ويتشاغل أهل الجنة بنعيمهم، ولا يستغيثون بعدها أبدا، وينقطع الكلام، فيكون كلامهم زفيرا وشهيقا؛ فذلك قوله تعالى: "إنها عليهم مؤصدة. في عمد ممددة". وقال قتادة: "عمد" يعذبون بها. واختاره الطبري. وقال ابن عباس: إن العمد الممددة أغلال في أعناقهم. وقيل: قيود في أرجلهم؛ قاله أبو صالح. وقال القشيري: والمعظم على أن العمد أوتاد الأطباق التي تطبق على أهل النار. وتشد تلك الأطباق بالأوتاد، حتى يرجع عليهم غمها وحرها، فلا يدخل عليهم روح. وقيل: أبواب النار مطبقة عليهم وهم في عمد؛ أي في سلاسل وأغلال مطولة، وهي أحكم وأرسخ من القصيرة. وقيل: هم في عمد ممددة؛ أي في عذابها وآلامها يضربون بها. وقيل: المعنى في دهر ممدود؛ أي لا انقطاع له. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم "في عمد" بضم العين والميم: جمع عمود. وكذلك "عمد" أيضا. قال الفراء: والعمد: جمعان صحيحان لعمود؛ مثل أديم أدم وأدم، وأفيق وأفق وأفق. أبو عبيدة: عمد: جمع عماد؛ مثل إهاب. واختار أبو عبيد "عمد" بفتحتين. وكذلك أبو حاتم؛ أعتبارا بقوله تعالى: "رفع السموات بغير عمد ترونها" [الرعد: 2]. وأجمعوا على فتحها. قال الجوهري: العمود: عمود البيت، وجمع القلة: أعمدة، وجمع الكثرة عمد، وعمد؛ وقرئ بهما قوله تعالى: "في عمود ممددة". وقال أبو عبيدة: العمود، كل مستطيل من خشب أو حديد، وهو أصل للبناء مثل العماد. عمدت الشيء فانعمد؛ أي أقمته بعماد يعتمد عليه. وأعمدته جعلت تحته عمدا. والله أعلم.
سورة الفيل
الآية: 1 {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل}
قوله تعالى: "ألم تر" أي ألم تخبر. وقيل: ألم تخبر. وقيل ألم تعلم. وقال ابن عباس: ألم تسمع؟ واللفظ استفهام، والمعنى تقرير. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه عام؛ أي ألم تروا ما فعلت بأصحاب الفيل؛ أي قد رأيتم ذلك، وعرفتم موضع مِنَتِي عليكم، فما لكم لا تؤمنون؟ و"كيف" في موضع نصب بـ "فعل ربك" لا "بألم تر كيف" في معنى الاستفهام. "بأصحاب الفيل" الفيل معروف، والجمع أفيال: وفيول، وفيلة. قال ابن السكيت: ولا تقل أفيلة. والأنثى فيلة وصاحبه فيال. قال سيبوبه: يجوز أن يكون أصل فيل فُعلاً، فكسر من أجل الياء؛ كما قالوا: أبيض وبيض. وقال الأخفش: هذا لا يكون في الواحد، إنما يكون في الجمع. ورجل فيل الرأي، أي ضعيف الرأي. والجمع أفيال. ورجل فال؛ أي ضعيف الرأي، مخطئ الفراسة. وقد فال الرأي يفيل فيولة، وفيل رأيه تفييلا: أي ضعفه، فهو فيل الرأي.
في قصة أصحاب الفيل؛ وذلك أن (أبرهة) بنى القليس بصنعاء، وهي كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض، وكان نصرانيا، ثم كتب إلى النجاشي: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك، ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب فلما تحدث العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشي، غضب رجل من النسأة، فخرج حتى أتى الكنيسة، فقعد فيها - أي أحدث - ثم خرج فلحق بأرضه؛ فأخبر بذلك أبرهة، فقال: من صنع هذا؟ فقيل: صنعه رجل من أهل هذا البيت، الذي تحج إليه العرب بمكة، لما سمع قولك: (أصرف إليها حج العرب) غضب، فجاء فقعد فيها. أي أنها ليست لذلك بأهل. فغضب عند ذلك أبرهة، وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه، وبعث رجلا كان عنده إلى بني كنانة يدعوهم إلى حج تلك الكنيسة؛ فقتلت بنو كنانة ذلك الرجل؛ فزاد أبرهة ذلك غضبا وحنقا، ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت، ثم سار وخرج معه بالفيل؛ وسمعت بذلك العرب، فأعظموه وفظعوا به، ورأوا جهاده حقا عليهم، حين سمعوا أنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام. فخرج إليه رجل من أشراف أهل اليمن وملوكهم، يقال له ذو نفر، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة، وجهاده عن بيت الله الحرام، وما يريد من هدمه وإخرابه؛ فأجابه من أجابه إلى ذلك، ثم عرض له فقاتله، فهزم ذو نفر وأصحابه، وأخذ له ذو نفر فأتي به أسيرا؛ فلما أراد قتله قال له ذو نفر: أيها الملك لا تقتلني، فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من قتلي؛ فتركه من القتل، وحبسه عنده في وثاق، وكان أبرهة رجلا حليما. ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك، يريد ما خرج له، حتى إذا كان بأرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخثعمي في قبيلتي خثعم: شهران وناهس، ومن تبعه من قبائل العرب؛ فقاتله فهزمه أبرهة، وأخذ له نفيل أسيرا؛ فأتي به، فلما هم بقتله قال له نفيل: أيها الملك لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب، وهاتان يداي لك على قبيلتي خثعم: شهران وناهس، بالسمع والطاعة؛ فخلى سبيله. وخرج به معه يدله، حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب في رجال من ثقيف، فقالوا له: أيها الملك، إنما نحن عبيدك؛ سامعون لك مطيعون، ليس عندنا لك خلاف، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد - يعنون اللات - إنما تريد البيت الذي بمكة، نحن نبعث معك من يدلك عليه؛ فتجاوز عنهم. وبعثوا معه أبا رغال، حتى أنزله المغمس فلما أنزله به مات أبو رغال هناك، فرجمت قبره العرب؛ فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمس، وفيه يقول الشاعر:
وارجم قبره في كل عام كرجم الناس قبر أبي رغال
فلما نزل أبرهة بالمغمس، بعث رجلا من الحبشة يقال له الأسود بن مقصود على خيل له، حتى انتهى إلى مكة فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم، وأصاب فيها ماتتي بعير لعبدالمطلب بن هاشم، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها؛ فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله؛ ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به، فتركوا ذلك. وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة، وقال له: سل عن سيد هذا البلد وشريفهم، ثم قل له: إن الملك يقول: إني لم آت لحربكم، إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تعرضوا لي بحرب، فلا حاجة لي بدمائكم؛ فإن هو لم يرد حربي فأتني به. فلما دخل حناطة مكة، سأل عن سيد قريش وشريفها؛ فقيل له: عبدالمطلب بن هاشم؛ فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة؛ فقال له عبدالمطلب: والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك منه طاقة، هذا بيت الله الحرام، وبيت خليله إبراهيم عليه السلام، أو كما قال، فإن يمنعه منه فهو حرمه وبيته، وإن يحل بينه وبينه، فوالله ما عندنا دفع عنه. فقال له حناطة: فانطلق إليه، فإنه قد أمرني أن آتيه بك؛ فانطلق معه عبدالمطلب، ومعه بعض بنيه، حتى أتى العسكر؛ فسأل عن ذي نفر، وكان صديقا له، حتى دخل عليه وهو في محبسه، فقال له: يا ذا نفر، هل عندك من غناء فيما نزل بنا؟ فقال له ذو نفر؛ وما غناء رجل أسير بيدي ملك، ينتظر أن يقتله غدوا وعشيا ما عندي غناء في شيء مما نزل بك، إلا أن أنيسا سائس الفيل صديق لي، فسأرسل إليه، وأوصيه بك، وأعظم عليه حقك، وأسأله أن يستأذن لك على الملك، فتكلمه بما بدا لك، ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك؛ فقال حسبي. فبعث ذو نفر إلى أنيس، فقال له: إن عبدالمطلب سيد قريش، وصاحب عين مكة، ويطعم الناس بالسهل، والوحوش في رؤوس الجبال، وقد أصاب له الملك مائتي بعير، فاستأذن له عليه، وانفعه عنده بما استطعت؛ فقال: أفعل. فكلم أنيس أبرهة، فقال له: أيها الملك، هذا سيد قريش ببابك، يستأذن عليك، وهو صاحب عين مكة، يطعم الناس بالسهل، والوحوش في رؤوس الجبال؛ فأذن له عليك، فيكلمك في حاجته. قال: فأذن له أبرهة.
وكان عبدالمطلب أوسم الناس، وأعظمهم وأجملهم، فلما رآه أبرهة أجله، وأعظمه عن أن يجلسه تحته؛ فنزل أبرهة عن سريره، فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه. ثم قال لترجمانه: قل له: حاجتك؟ فقال له ذلك الترجمان، فقال: حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي. فلما قال له ذلك، قال أبرهة لترجمانه: قل له لقد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني، أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتا هو دينك ودبن آبائك، قد جئت لهدمه؟ لا تكلمني فيه. قال له عبدالمطلب: إني أنا رب الإبل، وإن للبيت ربا سيمنعه. قال: ما كان ليمتنع مني قال أنت وذاك. فرد عليه إبله. وانصرف عبدالمطلب إلى قريش، فأخبرهم الخبر، وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في شعف الجبال والشعاب، تخوفا عليهم معرة الجيش. ثم قام عبدالمطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش، يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده، فقال عبدالمطلب وهو أخذ بحلقة باب الكعبة:
لا هم إن العبد يمـ ـنع رحله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم ومحالهم عدوا محالك
إن يدخلوا البلد الحرا م فأمر ما بدا لك
يقول: أي: شيء ما بدا لك، لم تكن تفعله بنا. والحلال: جمع حل. والمحال: القوة وقيل: إن عبدالمطلب لما أخذ بحلقة باب الكعبة قال:
يا رب لا أرجو لهم سواكا يا رب فامنع منهم حماكا
إن عدو البيت من عاداكا إنهم لن يقهروا قواكا
وقال عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي:
لا هم أخز الأسودين مقصود الأخذ الهجمة فيها التقليد
بين حراء وثبير فالبيد يحبسها وهي أولات التطريد
فضمها إلى طماطم سود قد أجمعوا ألا يكون معبود
ويهدموا البيت الحرام المعمود والمروتين والمشاعر السود
أخفره يا رب وأنت محمود
قال ابن إسحاق: ثم أرسل عبدالمطلب حلقة باب الكعبة، ثم انطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال، فتحرزوا فيها، ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها. فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة، وهيأ فيله، وعبأ جيشه، وكان اسم الفيل محمودا، وأبرهة مجمع لهدم البيت، ثم الانصراف إلى اليمن، فلما وجهوا الفيل إلى مكة، أقبل نفيل بن حبيب، حتى قام إلى جنب الفيل، ثم أخذ بأذنه فقال له: ابرك محمود، وارجع راشدا من حيث جئت، فإنك في بلد الله الحرام. ثم أرسل أذنه، فبرك الفيل. وخرج نفيل بن حبيب يشتد، حتى أصعد في الجبل. وضربوا الفيل ليقوم فأبى، فضربوا في رأسه بالطبرزين ليقوم فأبى؛ فأدخلوا محاجن لهم في مراقه، فبزغوه بها ليقوم، فأبى، فوجهوه راجعا إلى اليمن، فقام يهرول ووجهوه إلى الشام، ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق، ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة فبرك. وأرسل الله عليهم طيرا من البحر، أمثال الخطاطيف والبلسان، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار: حجر في منقاره، وحجران في رجليه، أمثال الحمص والعدس، لا تصيب منهم أحدا إلا هلك؛ وليس كلهم أصابت. وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق التي جاؤوا منها، ويسألون عن نفيل بن حبيب، ليدلهم على الطريق إلى اليمن. فقال نفيل بن حبيب حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمه:
أين المفر والإله الطالب والأشرم المغلوب ليس الغالب
وقال أيضا:
حمدت الله إذ أبصرت طيرا وخفت حجارة تلقى علينا
فكل القوم يسأل عن نفيل كأن علي للحبشان دينا
فخرجوا يتساقطون بكل طريق، ويهلكون بكل مهلك على كل سهل، وأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة، كلما سقطت منه أنملة أتبعتها منه مدة تمث قيحا ودما؛ حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر، فما مات حتى أنصدع صدره عن قلبه؛ فيما يزعمون.
وقال الكلبي ومقاتل بن سليمان - يزيد أحدهما وينقص - : سبب الفيل ما روي أن فتية من قريش خرجوا تجارا إلى أرض النجاشي، فنزلوا على ساحل البحر إلى بيعة للنصارى، تسميها النصاري الهيكل، فأوقدوا نارا لطعامهم وتركوها وارتحلوا؛ فهبت ريح عاصف على النار فأضرمت البيعة نارا، فاحترقت، فأتى الصريخ إلى النجاشي فأخبره، فاستشاط غضبا. فأتاه أبرهة بن الصباح وحجر بن شرحبيل وأبو يكسوم الكنديون؛ وضمنوا له إحراق الكعبة وسبي مكة. وكان النجاشي هو الملك، وأبرهة صاحب الجيش، وأبو يكسوم نديم الملك، وقيل وزير، وحجر بن شرحبيل من قواده، وقال مجاهد: أبو يكسوم هو أبرهة بن الصباح. فساروا ومعهم الفيل. قال الأكثرون: هو فيل واحد. وقال الضحاك: هي ثمانية فيلة. ونزلوا بذي المجاز، واستاقوا سرح مكة، وفيها إبل عبدالمطلب. وأتى الراعي نذيرا، فصعد الصفا، فصاح: واصباحاه ثم أخبر الناس بمجيء الجيش والفيل. فخرج عبدالمطلب، وتوجه إلى أبرهة، وسأله في إبله. واختلف في النجاشي، هل كان معهم؛ فقال قوم كان معهم. وقال الأكثرون: لم يكن معهم. ونظر أهل مكة بالطير قد أقبلت من ناحية البحر؛ فقال عبدالمطلب: (إن هذه الطير غريبة بأرضنا، وما هي بنجدية ولا تهامية ولا حجازية) وإنها أشباه اليعاسيب. وكان في مناقيرها وأرجلها حجارة؛ فلما أطلت على القوم ألقتها عليهم، حتى هلكوا. قال عطاء بن أبي رباج: جاءت الطير عشية؛ فباتت ثم صبحتهم بالغداة فرمتهم. وقال الكلبي: في مناقيرها حصى كحصى الخذف، أمام كل فرقة طائر يقودها، أحمر المنقار، أسود الرأس، طويل العنق. فلما جاءت عسكر القوم وتوافت، أهالت ما في مناقيرها على من تحتها، مكتوب على كل حجر اسم صاحبه المقتول به. وقيل: كان كل حجر مكتوب: من أطاع الله نجا، ومن عصاه غوى. ثم انصاعت راجعة من حيث جاءت. وقال العوفي: سألت عنها أبا سعيد الخدري، فقال: حمام مكة منها. وقيل: كان يقع الحجر على بيضة أحدهم فيخرقها، ويقع في دماغه، ويخرق الفيل والدابة. ويغيب الحجر في الأرض من شدة وقعه. وكان أصحاب الفيل ستين ألفا، لم يرجع منهم ألا أميرهم، رجع ومعه شرذمة لطيفة. فلما أخبروا بما رأوا هلكوا. وقال الواقدي: أبرهة جد النجاشي الذي كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبرهة هو الأشرم، سمي بذلك لأنه تفاتن مع أرياط، حتى تزاحفا، ثم اتفقا على أن يلتقيا بشخصيهما، فمن غلب فله الأمر. فتبارزا - وكان أرياط جسيما عظيما، في يده حربة، وأبرهة قصيرا حادرا ذا دين في النصرانية، ومع أبرهة وزير له يقال له عتودة - فلما دنوا ضرب أرياط بحربته رأس أبرهة، فوقعت على جبينه، فشرمت عينه وأنفه وجبينه وشفته؛ فلذلك سمي الأشرم. وحمل عتودة على أرياط فقتله. فاجتمعت الحبشة لأبرهة؛ فغضب النجاشي، وحلف ليحزن ناصية أبرهة، ويطأن بلاده. فجز أبرهة ناصيته وملأ مزودا من تراب أرضه، وبعث بهما إلى النجاشي، وقال: إنما كان عبدك، وأنا عبدك، وأنا أقوم بأمر الحبشة، وقد جززت ناصيتي، وبعثت إليك بتراب أرضي، لتطأه وتبر في يمينك؛ فرضي عنه النجاشي. ثم بنى أبرهة كنيسة بصنعاء، ليصرف إليها حج العرب؛ على ما تقدم.
قال مقاتل: كان عام الفيل قبل مولد النبي صلى الله عليه بأربعين سنة. وقال الكلبي وعبيد بن عمير: كان قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث وعشرين سنة. والصحيح ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ولدت عام الفيل). وروي عنه أنه قال: (يوم الفيل). حكاه الماوردي في التفسير له. وقال في كتاب أعلام النبوة: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول، وكان بعد الفيل بخمسين يوما. ووافق من شهور الروم العشرين من أسباط، في السنة الثانية عشرة من ملك هرمز بن أنوشروان. قال: وحكى أبو جعفر الطبري أن مولد النبي صلى الله عليه وسلم كان لاثنتين وأربعين سنة من ملك أنوشروان. وقد قيل: إنه عليه السلام حملت به أمه آمنة في يوم عاشوراء من المحرم، وولد يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان؛ فكانت مدة حمله ثمانية أشهر كملا ويومين من التاسع. وقيل: إنه ولد يوم عاشوراء من شهر المحرم؛ حكاه ابن شاهين أبو حفص، في فضائل يوم عاشوراء له. ابن العربي: قال ابن وهب عن مالك: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وقال قيس بن مخرمة: ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل. وقد روى الناس عن مالك أنه قال: من مروءة الرجل ألا يخبر بسنه؛ لأنه إن كان صغيرا استحقروه وإن كان كبيرا استهرموه. وهذا قول ضعيف؛ لأن مالكا لا يخبر بسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكتم سنه؛ وهو من أعظم العلماء قدوة به. فلا بأس بأن يخبر الرجل بسنه كان كبيرا أو صغيرا. وقال عبدالملك بن مروان لعتاب بن أسيد: أنت أكبر أم النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: النبي صلى الله عليه وسلم أكبر منه، وأنا أسن منه؛ ولد النبي صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وأنا أدركت سائسه وقائده أعميين مقعدين يستطعمان الناس، وقيل لبعض القضاة: كم سنك؟ قال: سن عتاب بن أسيد حين ولاه النبي صلى الله عليه وسلم مكة، وكان سنه يومئذ دون العشرين.
قال علماؤنا: كانت قصة الفيل فيما بعد من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت قبله وقبل التحدي؛ لأنها كانت توكيدا لأمره، وتمهيدا لشأنه. ولما تلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه السورة، كان بمكة عدد كثير ممن شهد تلك الوقعة؛ ولهذا قال: "ألم تر" ولم يكن بمكة أحد إلا وقد رأى قائد الفيل وسائقه أعميين يتكففان الناس. وقالت عائشة رضي الله عنها مع حداثة سنها: لقد رأيت قائد الفيل وسائقه أعميين يستطعمان الناس. وقال أبو صالح: رأيت في بيت أم هانئ بنت أبي طالب نحوا من قفيزين من تلك الحجارة، سودا مخططة بحمرة.
الآية: 2 {ألم يجعل كيدهم في تضليل}
قوله تعالى: "ألم يجعل كيدهم في تضليل" أي في إبطال وتضييع؛ لأنهم أرادوا أن يكيدوا قريشا بالقتل والسبي، والبيت بالتخريب والهدم. فحكي عن عبدالمطلب أنه بعث ابنه عبدالله على فرس له، ينظر ما لقوا من تلك الطير، فإذا القوم مشدخين جميعا، فرجع يركض فرسه، كاشفا عن فخذه، فلما رأى ذلك أبوه قال: إن ابني هذا أفرس العرب. وما كشف عن فخذه إلا بشيرا أو نذيرا. فلما دنا من ناديهم بحيث يسمعهم الصوت، قالوا: ما وراءك؟ قال: هلكوا جميعا. فخرج عبدالمطلب وأصحابه، فأخذوا أموالهم. وكانت أموال بني عبدالمطلب منها، وبها تكاملت رياسة عبدالمطلب؛ لأنه احتمل ما شاء من صفراء وبيضاء، ثم خرج أهل مكة بعده ونهبوا. وقيل: إن عبدالمطلب حفر حفرتين فملأهما من الذهب والجوهر، ثم قال لأبي مسعود الثقفي وكان خليلا لعبدالمطلب - : اختر أيهما شئت. ثم أصاب الناس من أموالهم حتى ضاقوا ذرعا، فقال عبدالمطلب عند ذلك:
أنت منعت الحبش والأفيالا وقد رعوا بمكة الأجبالا
وقد خشينا منهم القتالا وكل أمر لهم معضالا
شكرا وحمدا لك ذا الجلالا
قال ابن إسحاق: ولما رد الله الحبشة عن مكة عظمت العرب قريشا، وقالوا: هم: أهل الله، قاتل الله عنهم وكفاهم مؤونة عدوهم. وقال عبدالله بن عمرو بن مخزوم، في قصة أصحاب الفيل:
أنت الجليل ربنا لم تدنس أنت حبست الفيل بالمغمس
من بعد ما هم بشر مبلس حبسته في هيئة المكركس
وما لهم من فرج ومنفس
والمكركس: المنكوس المطروح.
الآية: 3 {وأرسل عليهم طيرا أبابيل}
قال سعيد بن جبير: كانت طيرا من السماء لم ير قبلها، ولا بعدها مثلها. وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنها طير بين السماء والأرض تعشش وتفرخ). وعن ابن عباس: كانت لها خراطيم كخراطيم الطير، وأكف كأكف الكلاب وقال عكرمة: كانت طيرا خضرا، خرجت من البحر، لها رؤوس كرؤوس السباع. ولم تر قبل ذلك ولا بعده. وقالت عائشة رضي الله عنها: هي أشبه شيء بالخطاطيف. وقيل: بل كانت أشباه الوطاويط، حمراء وسوداء. وعن سعيد بن جبير أيضا: هي طير خضر لها مناقير صفر. وقيل: كانت بيضا. وقال محمد بن كعب: هي طير سود بحرية، في مناقيرها وأظفارها الحجارة. وقيل: إنها العنقاء المُغرِب التي تضرب بها الأمثال؛؛ قال عكرمة: "أبابيل" أي مجتمعة. وقيل: متتابعة، بعضها في إثر بعض؛ قال ابن عباس ومجاهد. وقيل مختلفة متفرقة، تجيء من كل ناحية من ها هنا وها هنا؛ قال ابن مسعود وابن زيد والأخفش. قال النحاس: وهذه الأقوال متفقة، وحقيقة المعنى: أنها جماعات عظام. يقال: فلان يؤبل على فلان؛ أي يعظم عليه ويكثر؛ وهو مشتق من الإبل. واختلف في واحد (أبابيل)؛ فقال الجوهري: قال الأخفش يقال: جاءت إبلك أبابيل؛ أي فرقا، وطيرا أبابيل. قال: وهذا يجيء في معنى التكثير، وهو من الجمع الذي لا واحد له. وقال بعضهم: واحده أبول. مثل عجول. وقال بعضهم - وهو المبرد - : إبيل مثل سكين. فال: ولم أجد العرب تعرف له واحدا في غير الصحاح. وقيل في واحده إبال. وقال رؤبة بن العجاج في الجمع:
ولعبتْ طيرٌ بهم أبابيلْ فصيروا مثل كعصف مأكول
وقال الأعشى:
طريق وجبار رواء أصوله عليه أبابيل من الطير تنعب
وقال آخر:
كادت تهد من الأصوات راحلتي إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
وقال آخر:
تراهم إلى الداعي سراعا كأنهم أبابيل طير تحت دجن مسخن
قال الفراء: لا واحد له من لفظه. وزعم الرؤاسي - وكان ثقة - أنه سمع في واحدها "إبالة" مشددة. وحكى الفراء "إبالة" مخففا. قال: سمعت بعض العرب يقول: ضغث على إبالة. يريد: خصبا على خصب. قال: ولو قال قائل إيبال كان صوابا؛ مثل دينار ودنانير. وقال إسحاق بن عبدالله بن الحارث بن نوفل: الأبابيل: مأخوذ من الإبل المؤبلة؛ وهي الأقاطيع.
الآية: 4 {ترميهم بحجارة من سجيل}
في الصحاح: "حجارة من سجيل" قالوا: حجارة من طين، طبخت بنار جهنم، مكتوب فيها أسماء القوم؛ لقوله تعالى: "لنرسل عليهم حجارة من طين. مسومة" [الذاريات: 33]. وقال عبدالرحمن بن أبزى: "من سجيل": من السماء، وهي الحجارة التي نزلت على قوم لوط. وقيل من الجحيم. وهي "سجين" ثم أبدلت اللام نونا؛ كما قالوا في أصيلان أصيلال. قال ابن مقبل:
ضربا تواصت به الأبطال سجينا
وإنما هو سجيلا. وقال الزجاج: "من سجيل" أي مما كتب عليهم أن يعذبوا به؛ مشتق من السجل. وقد مضى القول في سجيل في "هود" مستوفى. قال عكرمة: كانت ترميهم بحجارة معها، فإذا أصاب أحدهم حجر منها خرج به الجدري لم ير قبل ذلك اليوم. وكان الحجر كالحمصة وفوق العدسة. وقال ابن عباس: كان الحجر إذا وقع على أحدهم نفط جلده، فكان ذلك أول الجدري. وقراءة العامة "ترميهم" بالتاء، لتأنيث جماعة الطير. وقرأ الأعرج وطلحة "يرميهم" بالياء؛ أي يرميهم الله؛ دليله قوله تعالى: "ولكن الله رمى" [الأنفال: 17] ويجوز أن يكون راجعا إلى الطير، لخلوها من علامات التأنيث، ولأن تأنيثها غير حقيقي.
الآية: 5 {فجعلهم كعصف مأكول}
أي جعل الله أصحاب الفيل كورق الزرع إذا أكلته الدواب، فرمت به من أسفل. شبه تقطع أوصالهم بتفرق أجزائه. روى معناه عن ابن زيد وغيره. وقد مضى القول في العصف في سورة "الرحمن". ومما يدل على أنه ورق الزرع قول علقمة:
تسقي مذانب قد مالت عصيفتها حدورها من أتى الماء مطموم
وقال رؤبة بن العجاج:
ومسهم ما مس أصحاب الفيل ترميهم حجارة من سجيل
ولعبت طير بهم أبابيل فصيروا مثل كعصف مأكول
العصف: جمع، واحدته عصفة وعصافة، وعصيفة. وأدخل الكاف في "كعصف" للتشبيه مع مثل، نحو قوله تعالى: "ليس كمثله شيء" [الشورى: 11]. ومعنى "مأكول" حبه. كما يقال: فلان حسن؛ أي حسن وجهه. وقال ابن عباس: "فجعلهم كعصف مأكول" أن المراد به قشر البر؛ يعني الغلاف الذي تكون فيه حبة القمح. ويروى أن الحجر كان يقع على أحدهم فيخرج كل ما في جوفه، فيبقى كقشر الحنطة إذا خرجت منه الحبة. وقال ابن مسعود: لما رمت الطير بالحجارة، بعث الله ريحا فضربت الحجارة فزادتها شدة، فكانت لا تقع على أحد إلا هلك، ولم يسلم منهم إلا رجل من كندة؛ فقال:
فإنك لو رأيت ولم تريه لدى جنب المغمس ما لقينا
خشيت الله إذ قد بث طيرا وظل سحابة مرت علينا
وباتت كلها تدعو بحق كأن لها على الحبشان دينا
ويروى أنها لم تصبهم كلهم، لكنها أصابت من شاء الله منهم. وقد تقدم أن أميرهم رجع وشرذمة لطيفة معه، فلما أخبروا بما رأوا هلكوا. فالله أعلم. وقال ابن إسحاق: لما رد الله الحبشة عن مكة، عظمت العرب قريشا وقالوا: أهل الله، قاتل عنهم، وكفاهم مؤونة عدوهم، فكان ذلك نعمة من الله عليهم.