تفسير السعدي تفسير الصفحة 187 من المصحف



تفسير سورة براءة


ويقال: سورة التوبة،
وهي مدنية
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 1 ) فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ( 2 ) .
أي: هذه براءة من اللّه ومن رسوله إلى جميع المشركين المعاهدين، أن لهم أربعة أشهر يسيحون في الأرض على اختيارهم، آمنين من المؤمنين، وبعد الأربعة الأشهر فلا عهد لهم، ولا ميثاق.
وهذا لمن كان له عهد مطلق غير مقدر، أو مقدر بأربعة أشهر فأقل، أما من كان له عهد مقدر بزيادة على أربعة أشهر، فإن الله يتعين أن يتمم له عهده إذا لم يخف منه خيانة، ولم يبدأ بنقض العهد.
ثم أنذر المعاهدين في مدة عهدهم، أنهم وإن كانوا آمنين، فإنهم لن يعجزوا اللّه ولن يفوتوه، وأنه من استمر منهم على شركه فإنه لا بد أن يخزيه، فكان هذا مما يجلبهم إلى الدخول في الإسلام، إلا من عاند وأصر ولم يبال بوعيد اللّه له.
وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( 3 ) .
هذا ما وعد اللّه به المؤمنين، من نصر دينه وإعلاء كلمته، وخذلان أعدائهم من المشركين الذين أخرجوا الرسول ومن معه من مكة، من بيت اللّه الحرام، وأجلوهم، مما لهم التسلط عليه من أرض الحجاز.
نصر اللّه رسوله والمؤمنين حتى افتتح مكة، وأذل المشركين، وصار للمؤمنين الحكم والغلبة على تلك الديار.
فأمر النبي مؤذنه أن يؤذن يوم الحج الأكبر، وهو يوم النحر، وقت اجتماع الناس مسلمهم وكافرهم، من جميع جزيرة العرب، أن يؤذن بأن اللّه بريء ورسوله من المشركين، فليس لهم عنده عهد وميثاق، فأينما وجدوا قتلوا، وقيل لهم: لا تقربوا المسجد الحرام بعد عامكم هذا، وكان ذلك سنة تسع من الهجرة.
وحج بالناس أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه، وأذن ببراءة - يوم النحر- ابن عم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه.
ثم رغب تعالى المشركين بالتوبة، ورهبهم من الاستمرار على الشرك فقال: ( فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ )
أي: فائتيه، بل أنتم في قبضته، قادر أن يسلط عليكم عباده المؤمنين. ( وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) أي: مؤلم مفظع في الدنيا بالقتل والأسر، والجلاء، وفي الآخرة، بالنار، وبئس القرار.
إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ( 4 ) .
أي هذه البراءة التامة المطلقة من جميع المشركين. ( إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) واستمروا على عهدهم، ولم يجر منهم ما يوجب النقض، فلا نقصوكم شيئا، ولا عاونوا عليكم أحدا، فهؤلاء أتموا لهم عهدهم إلى مدتهم، قَلَّتْ، أو كثرت، لأن الإسلام لا يأمر بالخيانة وإنما يأمر بالوفاء.
( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) الذين أدوا ما أمروا به، واتقوا الشرك والخيانة، وغير ذلك من المعاصي.
فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 5 ) .
يقول تعالى ( فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ ) أي: التي حرم فيها قتال المشركين المعاهدين، وهي أشهر التسيير الأربعة، وتمام المدة لمن له مدة أكثر منها، فقد برئت منهم الذمة.
( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) في أي مكان وزمان، ( وَخُذُوهُمْ ) أسرى ( وَاحْصُرُوهُمْ ) أي: ضيقوا عليهم، فلا تدعوهم يتوسعون في بلاد اللّه وأرضه، التي جعلها [ الله ] معبدا لعباده.
فهؤلاء ليسوا أهلا لسكناها، ولا يستحقون منها شبرا، لأن الأرض أرض اللّه، وهم أعداؤه المنابذون له ولرسله، المحاربون الذين يريدون أن يخلو الأرض من دينه، ويأبى اللّه إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
( وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ) أي: كل ثنية وموضع يمرون عليه، ورابطوا في جهادهم وابذلوا غاية مجهودكم في ذلك، ولا تزالوا على هذا الأمر حتى يتوبوا من شركهم.
ولهذا قال: ( فَإِنْ تَابُوا ) من شركهم ( وَأَقَامُوا الصَّلاةَ ) أي: أدوها بحقوقها ( وَآتُوا الزَّكَاةَ ) لمستحقيها ( فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ) أي: اتركوهم، وليكونوا مثلكم، لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم.
( إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) يغفر الشرك فما دونه، للتائبين، ويرحمهم بتوفيقهم للتوبة، ثم قبولها منهم.
وفي هذه الآية، دليل على أن من امتنع من أداء الصلاة أو الزكاة، فإنه يقاتل حتى يؤديهما، كما استدل بذلك أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه.
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ ( 6 ) .
لما كان ما تقدم من قوله فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ أمرا عاما في جميع الأحوال، وفي كل الأشخاص منهم، ذكر تعالى، أن المصلحة إذا اقتضت تقريب بعضهم جاز، بل وجب ذلك فقال: ( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ ) أي: طلب منك أن تجيره، وتمنعه من الضرر، لأجل أن يسمع كلام اللّه، وينظر حالة الإسلام.
( فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ) ثم إن أسلم، فذاك، وإلا فأبلغه مأمنه، أي: المحل الذي يأمن فيه، والسبب في ذلك أن الكفار قوم لا يعلمون، فربما كان استمرارهم على كفرهم لجهل منهم، إذا زال اختاروا عليه الإسلام، فلذلك أمر اللّه رسوله، وأمته أسوته في الأحكام، أن يجيروا من طلب أن يسمع كلام اللّه.
وفي هذا حجة صريحة لمذهب أهل السنة والجماعة، القائلين بأن القرآن كلام اللّه غير مخلوق، لأنه تعالى هو المتكلم به، وأضافه إلى نفسه إضافة الصفة إلى موصوفها، وبطلان مذهب المعتزلة ومن أخذ بقولهم: أن القرآن مخلوق.
وكم من الأدلة الدالة على بطلان هذا القول، ليس هذا محل ذكرها.