تفسير السعدي تفسير الصفحة 578 من المصحف


كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ( 20 ) وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ ( 21 ) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ( 22 ) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ( 23 ) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ( 24 ) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ( 25 ) .
أي: هذا الذي أوجب لكم الغفلة والإعراض عن وعظ الله وتذكيره أنكم ( تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ) وتسعون فيما يحصلها، وفي لذاتها وشهواتها، وتؤثرونها على الآخرة، فتذرون العمل لها، لأن الدنيا نعيمها ولذاتها عاجلة، والإنسان مولع بحب العاجل، والآخرة متأخر ما فيها من النعيم المقيم، فلذلك غفلتم عنها وتركتموها، كأنكم لم تخلقوا لها، وكأن هذه الدار هي دار القرار، التي تبذل فيها نفائس الأعمار، ويسعى لها آناء الليل والنهار، وبهذا انقلبت عليكم الحقيقة، وحصل من الخسار ما حصل. فلو آثرتم الآخرة على الدنيا، ونظرتم للعواقب نظر البصير العاقل لأنجحتم، وربحتم ربحا لا خسار معه، وفزتم فوزا لا شقاء يصحبه.
ثم ذكر ما يدعو إلى إيثار الآخرة، ببيان حال أهلها وتفاوتهم فيها، فقال في جزاء المؤثرين للآخرة على الدنيا: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ) أي: حسنة بهية، لها رونق ونور، مما هم فيه من نعيم القلوب، وبهجة النفوس، ولذة الأرواح، ( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) أي: تنظر إلى ربها على حسب مراتبهم: منهم من ينظره كل يوم بكرة وعشيا، ومنهم من ينظره كل جمعة مرة واحدة، فيتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم، وجماله الباهر، الذي ليس كمثله شيء، فإذا رأوه نسوا ما هم فيه من النعيم وحصل لهم من اللذة والسرور ما لا يمكن التعبير عنه، ونضرت وجوههم فازدادوا جمالا إلى جمالهم، فنسأل الله الكريم أن يجعلنا معهم.
وقال في المؤثرين العاجلة على الآجلة: ( وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ) أي: معبسة ومكدرة ، خاشعة ذليلة. ( تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ) أي: عقوبة شديدة، وعذاب أليم، فلذلك تغيرت وجوههم وعبست.
كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ( 26 ) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ( 27 ) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ( 28 ) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ( 29 ) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ( 30 ) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى ( 31 ) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ( 32 ) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ( 33 ) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ( 34 ) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ( 35 ) أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ( 36 ) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ( 37 ) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ( 38 ) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى ( 39 ) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ( 40 ) .
يعظ تعالى عباده بذكر حال المحتضر عند السياق ، وأنه إذا بلغت روحه التراقي، وهي العظام المكتنفة لثغرة النحر، فحينئذ يشتد الكرب، ويطلب كل وسيلة وسبب، يظن أن يحصل به الشفاء والراحة، ولهذا قال: ( وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ) أي: من يرقيه من الرقية لأنهم انقطعت آمالهم من الأسباب العادية، فلم يبق إلا الأسباب الإلهية . ولكن القضاء والقدر، إذا حتم وجاء فلا مرد له، ( وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ) للدنيا. ( وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ) أي: اجتمعت الشدائد والتفت، وعظم الأمر وصعب الكرب، وأريد أن تخرج الروح التي ألفت البدن ولم تزل معه، فتساق إلى الله تعالى، حتى يجازيها بأعمالها، ويقررها بفعالها.
فهذا الزجر، [ الذي ذكره الله ] يسوق القلوب إلى ما فيه نجاتها، ويزجرها عما فيه هلاكها. ولكن المعاند الذي لا تنفع فيه الآيات، لا يزال مستمرا على بغيه وكفره وعناده.
( فَلا صَدَّقَ ) أي: لا آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ( وَلا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ ) بالحق في مقابلة التصديق، ( وَتَوَلَّى ) عن الأمر والنهي، هذا وهو مطمئن قلبه، غير خائف من ربه، بل يذهب ( إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ) أي: ليس على باله شيء، توعده بقوله: ( أولى لك فأولى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ) وهذه كلمات وعيد، كررها لتكرير وعيده، ثم ذكر الإنسان بخلقه الأول، فقال: ( أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ) أي: معطلا ، لا يؤمر ولا ينهى، ولا يثاب ولا يعاقب؟ هذا حسبان باطل وظن بالله بغير ما يليق بحكمته.
( أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ ) بعد المني ( عَلَقَةً ) أي: دما، ( فَخَلَقَ ) الله منها الحيوان وسواه أي: أتقنه وأحكمه، ( فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ ) الذي خلق الإنسان [ وطوره إلى ] هذه الأطوار المختلفة ( بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ) بلى إنه على كل شيء قدير. تم تفسير سورة القيامة، ولله الحمد والمنة، وذلك في 16 صفر سنة 1344 .
المجلد التاسع من تيسير الكريم الرحمن في تفسير القرآن لجامعه الفقير إلى الله: عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي غفر الله له ولوالديه وللمسلمين آمين.

تفسير سورة هل أتى على


الإنسان وهي مكية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ( 1 ) إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ( 2 ) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ( 3 ) .
ذكر الله في هذه السورة الكريمة أول حالة الإنسان ومبتدأها ومتوسطها ومنتهاها.
فذكر أنه مر عليه دهر طويل وهو الذي قبل وجوده، وهو معدوم بل ليس مذكورا.
ثم لما أراد الله تعالى خلقه، خلق [ أباه ] آدم من طين، ثم جعل نسله متسلسلا ( مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ ) أي: ماء مهين مستقذر ( نَبْتَلِيهِ ) بذلك لنعلم هل يرى حاله الأولى ويتفطن لها أم ينساها وتغره نفسه؟
فأنشأه الله، وخلق له القوى الباطنة والظاهرة، كالسمع والبصر، وسائر الأعضاء، فأتمها له وجعلها سالمة يتمكن بها من تحصيل مقاصده.
ثم أرسل إليه الرسل، وأنزل عليه الكتب، وهداه الطريق الموصلة إلى الله ، ورغبه فيها، وأخبره بما له عند الوصول إلى الله.
ثم أخبره بالطريق الموصلة إلى الهلاك، ورهبه منها، وأخبره بما له إذا سلكها، وابتلاه بذلك، فانقسم الناس إلى شاكر لنعمة الله عليه، قائم بما حمله الله من حقوقه، وإلى كفور لنعمة الله عليه، أنعم الله عليه بالنعم الدينية والدنيوية، فردها، وكفر بربه، وسلك الطريق الموصلة إلى الهلاك.
ثم ذكر تعالى حال الفريقين عند الجزاء فقال:
إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالا وَسَعِيرًا ( 4 ) إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ( 5 - 22 ) .
إلى آخر الثواب أي: إنا هيأنا وأرصدنا لمن كفر بالله، وكذب رسله، وتجرأ على المعاصي ( سَلاسِلَ ) في نار جهنم، كما قال تعالى: ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ .
( وَأَغْلالا ) تغل بها أيديهم إلى أعناقهم ويوثقون بها.
( وَسَعِيرًا ) أي: نارا تستعر بها أجسامهم وتحرق بها أبدانهم، كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ وهذا العذاب دائم لهم أبدا، مخلدون فيه سرمدا.
وأما ( الأبْرَارِ ) وهم الذين برت قلوبهم بما فيها من محبة الله ومعرفته، والأخلاق الجميلة، فبرت جوارحهم ، واستعملوها بأعمال البر أخبر أنهم ( يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ ) أي: شراب لذيذ من خمر قد مزج بكافور أي: خلط به ليبرده ويكسر حدته، وهذا الكافور [ في غاية اللذة ] قد سلم من كل مكدر ومنغص، موجود في كافور الدنيا، فإن الآفة الموجودة في الأسماء التي ذكر الله أنها في الجنة وهي في الدنيا تعدم في الآخرة .
كما قال تعالى: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ .