تفسير السعدي تفسير الصفحة 583 من المصحف


إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا ( 31 ) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا ( 32 ) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا ( 33 ) وَكَأْسًا دِهَاقًا ( 34 ) لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا ( 35 ) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا ( 36 ) .
لما ذكر حال المجرمين ذكر مآل المتقين فقال: ( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا ) أي: الذين اتقوا سخط ربهم، بالتمسك بطاعته، والانكفاف عما يكرهه فلهم مفاز ومنجى، وبعد عن النار. وفي ذلك المفاز لهم ( حَدَائِقَ ) وهي البساتين الجامعة لأصناف الأشجار الزاهية، في الثمار التي تتفجر بين خلالها الأنهار، وخص الأعناب لشرفها وكثرتها في تلك الحدائق.
ولهم فيها زوجات على مطالب النفوس ( كَوَاعِبَ ) وهي: النواهد اللاتي لم تتكسر ثديهن من شبابهن، وقوتهن ونضارتهن .
( والأتْرَاب ) اللاتي على سن واحد متقارب، ومن عادة الأتراب أن يكن متآلفات متعاشرات، وذلك السن الذي هن فيه ثلاث وثلاثون سنة، في أعدل سن الشباب .
( وَكَأْسًا دِهَاقًا ) أي: مملوءة من رحيق، لذة للشاربين، ( لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا ) أي: كلاما لا فائدة فيه ( وَلا كِذَّابًا ) أي: إثما.
كما قال تعالى: لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا
وإنما أعطاهم الله هذا الثواب الجزيل [ من فضله وإحسانه ] . ( جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ ) لهم ( عَطَاءً حِسَابًا ) أي: بسبب أعمالهم التي وفقهم الله لها، وجعلها ثمنا لجنته ونعيمها .
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا ( 37 ) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ( 38 ) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا ( 39 ) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ( 40 ) .
أي: الذي أعطاهم هذه العطايا هو ربهم ( رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) الذي خلقها ودبرها ( الرَّحْمَنِ ) الذي رحمته وسعت كل شيء، فرباهم ورحمهم، ولطف بهم، حتى أدركوا ما أدركوا.
ثم ذكر عظمته وملكه العظيم يوم القيامة، وأن جميع الخلق كلهم ذلك اليوم ساكتون لا يتكلمون و ( لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا ) إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا، فلا يتكلم أحد إلا بهذين الشرطين: أن يأذن الله له في الكلام، وأن يكون ما تكلم به صوابا، لأن ( ذَلِكَ الْيَوْمُ ) هو ( الْحَقُّ ) الذي لا يروج فيه الباطل، ولا ينفع فيه الكذب، وفي ذلك اليوم ( يَقُومُ الرُّوحُ ) وهو جبريل عليه السلام، الذي هو أشرف الملائكة ( وَالْمَلائِكَةُ ) [ أيضا يقوم الجميع ] ( صَفًّا ) خاضعين لله ( لا يَتَكَلَّمُونَ ) إلا بما أذن لهم الله به .
فلما رغب ورهب، وبشر وأنذر، قال: ( فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا ) أي: عملا وقدم صدق يرجع إليه يوم القيامة.
( إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا ) لأنه قد أزف مقبلا وكل ما هو آت فهو قريب.
( يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ) أي: هذا الذي يهمه ويفزع إليه، فلينظر في هذه الدنيا إليه ، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ الآيات.
فإن وجد خيرا فليحمد الله، وإن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، ولهذا كان الكفار يتمنون الموت من شدة الحسرة والندم.
نسأل الله أن يعافينا من الكفر والشر كله، إنه جواد كريم.
تم تفسير سورة عم، والحمد لله رب العالمين

تفسير سورة النازعات


وهي مكية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ( 1 ) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ( 2 ) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا ( 3 ) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا ( 4 ) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ( 5 ) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ( 6 ) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ( 7 ) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ ( 8 ) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ ( 9 ) يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ ( 10 ) أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً ( 11 ) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ( 12 ) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ ( 13 ) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ( 14 ) .
هذه الإقسامات بالملائكة الكرام، وأفعالهم الدالة على كمال انقيادهم لأمر الله، وإسراعهم في تنفيذ أمره، يحتمل أن المقسم عليه، الجزاء والبعث، بدليل الإتيان بأحوال القيامة بعد ذلك، ويحتمل أن المقسم عليه والمقسم به متحدان، وأنه أقسم على الملائكة، لأن الإيمان بهم أحد أركان الإيمان الستة، ولأن في ذكر أفعالهم هنا ما يتضمن الجزاء الذي تتولاه الملائكة عند الموت وقبله وبعده، فقال: ( وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ) وهم الملائكة التي تنزع الأرواح بقوة، وتغرق في نزعها حتى تخرج الروح، فتجازى بعملها.
( وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ) وهم الملائكة أيضا، تجتذب الأرواح بقوة ونشاط، أو أن النزع يكون لأرواح المؤمنين، والنشط لأرواح الكفار.
( وَالسَّابِحَاتِ ) أي: المترددات في الهواء صعودا ونزولا ( سَبْحًا )
( فَالسَّابِقَاتِ ) لغيرها ( سَبْقًا ) فتبادر لأمر الله، وتسبق الشياطين في إيصال الوحي إلى رسل الله حتى لا تسترقه .
( فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ) الملائكة، الذين وكلهم الله أن يدبروا كثيرا من أمور العالم العلوي والسفلي، من الأمطار، والنبات، والأشجار، والرياح، والبحار، والأجنة، والحيوانات، والجنة، والنار [ وغير ذلك ] .
( يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ) وهي قيام الساعة، ( تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ) أي: الرجفة الأخرى التي تردفها وتأتي تلوها، ( قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ ) أي: موجفة ومنزعجة من شدة ما ترى وتسمع.
( أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ ) أي: ذليلة حقيرة، قد ملك قلوبهم الخوف، وأذهل أفئدتهم الفزع، وغلب عليهم التأسف [ واستولت عليهم ] الحسرة.
يقولون أي: الكفار في الدنيا، على وجه التكذيب: ( أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً ) أي: بالية فتاتا.
( قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ) أي: استبعدوا أن يبعثهم الله ويعيدهم بعدما كانوا عظاما نخرة، جهلا [ منهم ] بقدرة الله، وتجرؤا عليه.
قال الله في بيان سهولة هذا الأمر عليه: ( فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ ) ينفخ فيها في الصور.
فإذا الخلائق كلهم ( بِالسَّاهِرَةِ ) أي: على وجه الأرض، قيام ينظرون، فيجمعهم الله ويقضي بينهم بحكمه العدل ويجازيهم.
هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ( 15 ) .
يقول [ الله ] تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ) وهذا الاستفهام عن أمر عظيم متحقق وقوعه. أي: هل أتاك حديثه .