تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 151 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 151

151 : تفسير الصفحة رقم 151 من القرآن الكريم

سورة الأعراف
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ
** الَمَصَ * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىَ لِلْمُؤْمِنِينَ * اتّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مّن رّبّكُمْ وَلاَ تَتّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مّا تَذَكّرُونَ
قد تقدم الكلام في أول سورة البقرة على ما يتعلق بالحروف وبسطه واختلاف الناس فيه, قال ابن جرير: حدثنا سفيان بن وكيع, حدثنا أبي عن شريك عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى عن ابن عباس {آلمص} أنا الله أفصل, وكذا قال سعيد بن جبير {كتاب أنزل إليك} أي هذا كتاب أنزل إليك أي من ربك {فلا يكن في صدرك حرج منه} قال مجاهد وقتادة والسدي: شك منه, وقيل: لا تتحرج به في إبلاغه والإنذار به {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل} ولهذا قال {لتنذر به} أي أنزلناه إليك لتنذر به الكافرين {وذكرى للمؤمنين} ثم قال تعالى مخاطباً للعالم {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم} أي اقتفوا آثار النبي الأمي الذي جاءكم بكتاب أنزل إليكم من رب كل شيء)ومليكه {ولا تتبعوا من دونه أولياء} أي لا تخرجوا عما جاءكم به الرسول إلى غيره, فتكونوا قد عدلتم عن حكم الله إلى حكم غيره {قليلاً ما تذكرون} كقوله {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} وقوله {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} الاَية وقوله {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون}.

** وَكَم مّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ * فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ إِلاّ أَن قَالُوَاْ إِنّا كُنّا ظَالِمِينَ * فَلَنَسْأَلَنّ الّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصّنّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنّا غَآئِبِينَ
يقول تعالى: {وكم من قرية أهلكناه} أي بمخالفة رسلنا وتكذيبهم, فأعقبهم ذلك خزي الدنيا موصولاً بذل الاَخرة, كما قال تعالى: {ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون} وكقوله {فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد} وقال تعالى: {وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً وكنا نحن الوارثين} وقوله {فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون} أي فكان منهم من جاءه أمر الله وبأسه ونقمته بياتاً أي ليلاً, أو هم قائلون من القيلولة وهي الاستراحة وسط النهار, وكلا الوقتين وقت غفلة ولهو, كما قال {أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون * أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحىً وهم يلعبون} وقال {أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين * أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤوف رحيم}.
وقوله {فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين} أي فما كان قولهم عند مجيء العذاب, إلا أن اعترفوا بذنوبهم وأنهم حقيقون بهذا, كقوله تعالى: {وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة ـ إلى قوله ـ خامدين} قال ابن جرير: في هذه الاَية الدلالة الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله «ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم», حدثنا بذلك ابن حميد, حدثنا جرير عن أبي سنان عن عبدالملك بن ميسرة الزراد, قال: قال عبد الله بن مسعود, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم», قال: قلت لعبد الملك: كيف يكون ذاك ؟ قال: فقرأ هذه الاَية {فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين}. وقوله {فلنسألن الذين أرسل إليهم} الاَية. كقوله {ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين} وقوله {يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب} فيسأل الله الأمم يوم القيامة عما أجابوا رسله فيما أرسلهم به, ويسأل الرسل أيضاً عن إبلاغ رسالاته, ولهذا قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير هذه الاَية {فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين} قال عما بلغوا.
وقال ابن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم بن محمد بن الحسن, حدثنا أبو سعيد الكندي, حدثنا المحاربي عن ليث عن نافع عن ابن عمر, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته, فالإمام يسأل عن رعيته والرجل يسأل عن أهله والمرأة تسأل عن بيت زوجها والعبد يسأل عن مال سيده» قال الليث: وحدثني ابن طاوس مثله, ثم قرأ {فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين} وهذا الحديث مخرج في الصحيحين بدون هذه الزيادة, وقال ابن عباس في قوله {فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين} يوضع الكتاب يوم القيامة فيتكلم بما كانوا يعملون {وما كنا غائبين} يعني أنه تعالى يخبر عباده يوم القيامة بما قالوا وبما عملوا من قليل وكثير وجليل وحقير, لأنه تعالى الشهيد على كل شيء لا يغيب عنه شيء ولا يغفل عن شيء بل هو العالم بخائنة الأعين وما تخفي الصدور {وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين}.

** وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـَئِكَ الّذِينَ خَسِرُوَاْ أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ
يقول تعالى: {والوزن} أي للأعمال يوم القيامة {الحق} أي لا يظلم تعالى أحداً كقوله {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} وقال تعالى: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيم} وقال تعالى: {فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية * وما أدراك ماهيه * نار حامية} وقال تعالى: {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} {فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون}.
(فصل) والذي يوضع في الميزان يوم القيامة قيل الأعمال وإن كانت أعراضاً إلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجساماً, قال البغوي: يروى نحو هذا عن ابن عباس, كما جاء في الصحيح من أن البقرة وآل عمران يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيابتان أو فرقان من طير صواف. ومن ذلك في الصحيح قصة القرآن وأنه يأتي صاحبه في صورة شاب شاحب اللون فيقول: من أنت ؟ فيقول أنا القرآن الذي أسهرت ليلك وأظمأت نهارك. وفي حديث البراء في قصة سؤال القبر «فيأتي المؤمن شاب حسن اللون طيب الريح فيقول: من أنت ؟ فيقول: أنا عملك الصالح», وذكر عكسه في شأن الكافر والمنافق, وقيل يوزن كتاب الأعمال كما جاء في حديث البطاقة في الرجل الذي يؤتى به ويوضع له في كفة تسعة وتسعون سجلاً كل سجل مد البصر, ثم يؤتى بتلك البطاقة فيها لا إله إلا الله فيقول يا رب وما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقول الله تعالى إنك لا تظلم. فتوضع تلك البطاقة في كفة الميزان, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فطاشت السجلات وثقلت البطاقة» رواه الترمذي بنحو من هذا وصححه, وقيل يوزن صاحب العمل كما في الحديث «يؤتى يوم القيامة بالرجل السمين فلا يزن عند الله جناح بعوضة» ثم قرأ {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزن}, وفي مناقب عبد الله بن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أتعجبون من دقة ساقيه والذي نفسي بيده لهم في الميزان أثقل من أحد» وقد يمكن الجمع بين هذه الاَثار بأن يكون ذلك كله صحيحاً, فتارة توزن الأعمال وتارة توزن محالها وتارة يوزن فاعلها, والله أعلم.

** وَلَقَدْ مَكّنّاكُمْ فِي الأرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مّا تَشْكُرُونَ
يقول تعالى: ممتناً على عبيده فيما مكن لهم, من أنه جعل الأرض قراراً وجعل فيها رواسي وأنهاراً, وجعل لهم فيها منازل وبيوتاً وأباح لهم منافعها, وسخر لهم السحاب لإخراج أرزاقهم منها, وجعل لهم فيها معايش أي مكاسب وأسباباً يكسبون بها ويتجرون فيها ويتسببون أنواع الأسباب وأكثرهم مع هذا قليل الشكر على ذلك كقوله {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار} وقد قرأ الجميع معايش بلا همز إلا عبد الرحمن بن هرمز الأعرج فإنه همزها والصواب الذي عليه الأكثرون بلا همز, لأن معايش جمع معيشة من عاش يعيش عيشاً ومعيشة أصلها معيشة, فاستثقلت الكسرة على الياء فنقلت إلى العين فصارت معيشة, فلما جمعت رجعت الحركة إلى الياء لزوال الاستثقال فقيل معايش ووزنه مفاعل, لأن الياء أصلية في الكلمة بخلاف مدائن وصحائف وبصائر, جمع مدينة وصحيفة وبصيرة من مدن وصحف وأبصر, فإن الياء فيها زائدة, ولهذا تجمع على فعائل وتهمز لذلك, والله أعلم.

** وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمّ صَوّرْنَاكُمْ ثُمّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لاَدَمَ فَسَجَدُوَاْ إِلاّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مّنَ السّاجِدِينَ
ينبه تعالى بني آدم في هذا المقام على شرف أبيهم آدم, ويبين لهم عداوة عدوهم إبليس, وما هو منطو عليه من الحسد لهم ولأبيهم آدم ليحذروه ولا يتبعوا طرائقه, فقال تعالى: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لاَدم فسجدو} وهذ كقوله تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من صلصال من حمأ مسنون * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} وذلك أنه تعالى لما خلق آدم عليه السلام بيده من طين لازب وصوره بشراً سوياً ونفخ فيه من روحه, أمر الملائكة بالسجود له تعظيماً لشأن الله تعالى وجلاله, فسمعوا كلهم وأطاعوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين, وقد تقدم الكلام على إبليس في أول تفسير سورة البقرة, وهذا الذي قررناه هو اختيار ابن جرير, أن المراد بذلك كله آدم عليه السلام.
وقال سفيان الثوري عن الأعمش عن منهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس {ولقد خلقناكم ثم صورناكم} قال خلقوا في أصلاب الرجال وصوروا في أرحام النساء, رواه الحاكم وقال: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه, ونقل ابن جرير: عن بعض السلف أيضاً أن المراد بخلقناكم ثم صورناكم الذرية.
وقال الربيع بن أنس والسدي وقتادة والضحاك في هذه الاَية {ولقد خلقناكم ثم صورناكم} أي خلقنا آدم ثم صورنا الذرية, وهذا فيه نظر, لأنه قال بعد ذلك {ثم قلنا للملائكة اسجدوا لاَدم} فدل على أن المراد بذلك آدم وإنما قيل ذلك بالجمع, لأنه أبو البشر, كما يقول الله تعالى لبني إسرائيل الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم {وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المنّ والسلوى} والمراد آباؤهم الذين كانوا في زمن موسى, ولكن لما كان ذلك منة على الاَباء الذين هم أصل, صار كأنه واقع على الأبناء, وهذا بخلاف قوله {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} الاَية, فإن المراد من آدم المخلوق من السلالة, وذريته مخلوقون من نطفة, وصح هذا لأن المراد من خلقنا الإنسان الجنس لا معيناً, والله أعلم.