تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 208 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 208

208 : تفسير الصفحة رقم 208 من القرآن الكريم

( سورة يونس )
مقدمة تفسير سورة يونس
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة يونس مكية وآياتها تسع ومئة
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ {1} أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً
أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ
أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَـذَا
لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ {2}
أما الحروف المقطعة في أوائل السور فقد تقدم الكلام عليها في أوائل سورة البقرة وقال أبو الضحى عن بن عباس في قوله تعالى ( الر ) أي أنا الله أرى وكذلك قال الضحاك وغيره ( تلك آيات الكتاب الحكيم ) أي هذه آيات القرآن المحكم المبين وقال مجاهد ( الر تلك آيات الكتاب الحكيم ) وقال الحسن التوراة والزبور وقال قتاده ( تلك آيات الكتاب ) قال الكتب التي كانت قبل القرآن وهذا القول لا أعرف وجهه ولا معناه وقوله ( أكان للناس عجبا ) الآية يقول تعالى منكرا على من تعجب من الكفار من إرسال المرسلين من البشر كما أخبر تعالى عن القرون الماضين من قولهم ( أبشر يهدوننا ) وقال هود وصالح لقومهما ( أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم ) وقال تعالى مخبرا عن كفار قريش أنهم قالوا ( أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب ) وقال الضحاك عن بن عباس لما بعث الله تعالى محمدا رسولا أنكرت العرب ذلك أو من أنكر منهم فقالوا الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد قال فأنزل الله عز وجل ( أكان للناس عجبا ) الآية وقوله ( أن لهم قدم صدق عند ربهم ) اختلفوا فيه فقال علي بن أبي طلحة عن بن عباس في قوله ( وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق ) يقول سبقت لهم السعادة في الذكر الأول وقال العوفي عن بن عباس ( أن لهم قدم صدق عند ربهم ) يقول أجرا حسنا بما قدموا وكذا قال الضحاك والربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهذا كقوله تعالى ( لينذر بأسا شديدا ) الآية وقال مجاهد ( أن لهم قدم صدق عند ربهم ) قال الأعمال الصالحة صلاتهم وصومهم وصدقتهم وتسبيحهم قال ومحمد يشفع لهم وكذا قال زيد بن أسلم ومقاتل بن حيان وقال قتادة سلف صدق عند ربهم واختار بن جرير قول مجاهد أنها الأعمال الصالحة التي قدموها كما يقال له قدم في الإسلام كقول حسان
لنا القدم العليا إليك وخلفنا لأولنا في طاعة الله تابع
وقول ذي الرمة لكم قدم لا ينكر الناس أنها مع الحسب العادي طمت على البحر
وقوله تعالى ( قال الكافرون إن هذا لساحر مبين ) أي مع أنا بعثنا إليهم رسولا منهم رجلا من جنسهم بشيرا ونذيرا ( قال الكافرون إن هذا لساحر مبين ) أي ظاهر وهم الكاذبون في ذلك
إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ
فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ
إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ
تَذَكَّرُونَ {3}

يخبر تعالى أنه رب العالم جميعه وأنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام قيل كهذه الأيام وقيل كل يوم كألف سنة مما تعدون كما سيأتي بيانه ثم استوى على العرش والعرش أعظم المخلوقات وسقفها قال بن أبي حاتم حدثنا حجاج بن حمزة حدثنا أبو أسامة حدثنا إسماعيل بن أبي خالد قال سمعت سعدا الطائي يقول العرش ياقوتة حمراء وقال وهب بن منبه خلقه الله من نوره وهذا غريب وقوله ( يدبرالأمر ) أي يدبر الخلائق ( لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ) ولا يشغله شأن عن شأن ولا تغلطه المسائل ولا يتبرم بإلحاح الملحين ولا يلهيه تدبير الكبير عن الصغير في الجبال والبحار والعمران والقفار ( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ) الآية ( وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) وقال الدراوردي عن سعد بن إسحاق بن كعب أنه قال حين نزلت هذه الآية ( إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض ) الآية لقيهم ركب عظيم لا يرون إلا أنهم من العرب فقالوا لهم من أنتم قالوا من الجن خرجنا من المدينة أخرجتنا هذه الآية رواه بن أبي حاتم وقوله ( ما من شفيع إلا من بعد إذنه ) كقوله تعالى ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) وكقوله تعالى ( وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ) وقوله ( ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ) وقوله ( ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون ) أي أفردوه بالعبادة وحده لا شريك له ( أفلا تذكرون ) أي أيها المشركون في أمركم تعبدون مع الله إلها غيره وأنتم تعلمون أنه المتفرد بالخلق كقوله تعالى ( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ) وقوله ( قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون ) وكذا الآية التي قبلها والتي بعدها
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً إِنَّهُ
يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ
بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ
أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ {4}
يخبر تعالى أن إليه مرجع الخلائق يوم القيامة لا يترك منهم أحدا حتى يعيده كما بدأه ثم ذكر تعالى أنه كما بدأ الخلق كذلك يعيده ( وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه ) ( ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط ) أي بالعدل والجزاء الأوفى ( والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون ) أي بسبب كفرهم يعذبون يوم القيامة بأنواع العذاب من سموم وحميم وظل من يحموم ( هذا فليذوقوه حميم وغساق وآخر من شكله أزواج ) ( هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن )
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ
ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ
وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ
لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ {5}
إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ
اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ {6}
يخبر تعالى عما خلق من الآيات الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه وأنه جعل الشعاع الصادر عن جرم الشمس ضياء وجعل شعاع القمر نورا هذا فن وهذا فن آخر ففاوت بينهما لئلا يشتبها وجعل سلطان الشمس بالنهار وسلطان القمر بالليل وقدر القمر منازل فأول ما يبدو صغيرا ثم يتزايد نوره وجرمه حتى يستوسق ويكمل إبداره ثم يشرع في النقص 2حتى يرجع إلى حالته الأولى في تمام شهر كقوله تعالى ( والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ) وقوله تعالى ( والشمس والقمر حسبانا ) الآية وقوله في هذه الآية الكريمة ( وقدره ) أي القمر ( منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ) فبالشمس تعرف الأيام وبسير القمر تعرف الشهور والأعوام ( ما خلق الله ذلك إلا بالحق ) أي لم يخلقه عبثا بل له حكمة عظيمة في ذلك وحجة بالغة كقوله تعالى ( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ) وقال تعالى ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم ) وقوله ( نفصل الآيات ) أي نبين الحجج والأدلة ( لقوم يعلمون ) وقوله ( إن في اختلاف الليل والنهار ) أي تعاقبهما إذا جاء هذا ذهب هذا وإذا ذهب هذا جاء هذا لا يتأخر عنه شيئا كقوله تعالى ( يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا ) وقال ( لاالشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ) الآية وقال تعالى ( فالق الإصباح وجعل الليل سكنا ) الآية وقوله ( وما خلق الله في السماوات والأرض ) أي من الآيات الدالة على عظمته تعالى كما قال ( وكأين من آية في السماوات والأرض ) الآية وقوله ( قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وماتغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ) وقال ( أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض ) وقال ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ) أي العقول وقال ها هنا ( لآيات لقوم يتقون ) أي عقاب الله وسخطه وعذابه