تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 221 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 221

221 : تفسير الصفحة رقم 221 من القرآن الكريم

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ
الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن
ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ {108} وَاتَّبِعْ
مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ {109}

يقول تعالى آمر لرسوله أن يخبر الناس أن الذي جاءهم به من عند الله هو الحق الذي لا مرية
فيه ولا شك فمن اهتدى به واتبعه فإنما يعود نفع ذلك الإتباع على نفسه ومن ضل عنه فإنما يرجع وبال ذلك عليه ( وما أنا عليكم بوكيل ) أي وما أنا موكل بكم حتى تكونوا مؤمنين وإنما أنا نذير لكم والهداية على الله تعالى وقوله ( واتبع ما يوحى إليك واصبر ) أي تمسك بما أنزل الله عليك وأوحاه إليك واصبر على مخالفة من خالفك من الناس ( حتى يحكم الله ) أي يفتح بينك وبينهم ( وهو خير الحاكمين ) أي خير الفاتحين بعدله وحكمته

سورة هود
قال الحافظ أبو يعلى حدثنا خلف بن هشام البزار حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن عكرمة قال: قال أبو بكر: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شيبك ؟ قال «شيبتني هود والواقعة وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت» وقال أبو عيسى الترمذي: حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء حدثنا معاوية بن هشام عن شيبان عن أبي إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال أبو بكر: يا رسول الله قد شبت قال «شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت» وفي رواية «هود وأخواتها» وقال الطبراني حدثنا عبدان بن أحمد حدثنا حجاج بن الحسن حدثنا سعيد بن سلام حدثنا عمر بن محمد عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شيبتني هود وأخواتها: الواقعة والحاقة وإذا الشمس كورت» وفي رواية «هود وأخواتها» وقد روي من حديث ابن مسعود نحوه فقال الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني في معجمه الكبير: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة حدثنا أحمد بن طارق الرائشي حدثنا عمرو بن ثابت عن أبي إسحاق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن أبا بكر قال: يا رسول الله ما شيبك ؟ قال: «هود والواقعة». عمرو بن ثابت متروك وأبو إسحاق لم يدرك ابن مسعود والله أعلم.
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ

** الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمّ فُصّلَتْ مِن لّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلاّ تَعْبُدُوَاْ إِلاّ اللّهَ إِنّنِي لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبّكُمْ ثُمّ تُوبُوَاْ إِلَيْهِ يُمَتّعْكُمْ مّتَاعاً حَسَناً إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى وَيُؤْتِ كُلّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلّوْاْ فَإِنّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ * إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
قد تقدم الكلام على حروف الهجاء في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هنا وبالله التوفيق, وأما قوله: {أحكمت آياته ثم فصلت} أي هي محكمة في لفظها مفصلة في معناها فهو كامل صورة ومعنى, هذا معنى ما روي عن مجاهد وقتادة واختاره ابن جرير ومعنى قوله {من لدن حكيم خبير} أي من عند الله الحكيم في أقواله وأحكامه خبير بعواقب الأمور {ألا تعبدوا إلا الله} أي نزل هذا القرآن المحكم المفصل لعبادة الله وحده لا شريك له كقوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} وقال {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} وقوله {إنني لكم منه نذير وبشير} أي إني لكم نذير من العذاب إن خالفتموه, وبشير بالثواب إن أطعتموه كما جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد الصفا فدعا بطون قريش الأقرب ثم الأقرب فاجتمعوا فقال: «يا معشر قريش أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً تصبحكم ألستم مصدقي ؟» فقالوا: ما جربنا عليك كذباً قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» وقوله: {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله} أي وآمركم بالاستغفار من الذنوب السالفة والتوبة منها إلى الله عز وجل فيما تستقبلونه, وأن تستمروا على ذلك {يمتعكم متاعاً حسن} أي في الدنيا {إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله} أي في الدار الاَخرة قاله قتادة كقوله: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة} الاَية.
وقد جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسعد «وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى ما تجعل في في امرأتك» وقال ابن جرير: حدثني المسيب بن شريك عن أبي بكر عن سعيد بن جبير عن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله: {ويؤت كل ذي فضل فضله} قال من عمل سيئة كتبت عليه سيئة ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات فإن عوقب بالسيئة التي كان عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر واحدة وبقيت له تسع حسنات, ثم يقول هلك من غلب آحاده على أعشاره, وقوله: {وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير} هذا تهديد شديد لمن تولى عن أوامر الله تعالى وكذب رسله فإن العذاب يناله يوم القيامة لا محالة {إلى الله مرجعكم} أي معادكم يوم القيامة {وهو على كل شيء قدير} أي هو القادر على ما يشاء من إحسانه إلى أوليائه وانتقامه من أعدائه, وإعادة الخلائق يوم القيامة, وهذا مقام الترهيب كما أن الأول مقام ترغيب.

** أَلا إِنّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ
قال ابن عباس كانوا يكرهون أن يستقبلوا السماء بفروجهم وحال وقاعهم فأنزل الله هذه الاَية, رواه البخاري من طريق ابن جريج عن محمد بن عباد بن جعفر أن ابن عباس قرأ ألا إنهم تثنوني صدورهم, الاَية فقلت: يا أبا العباس ما تثنوني صدورهم ؟ قال: الرجل كان يجامع امرأته فيستحي أو يتخلى فيستحي فنزلت: {ألا إنهم تثنوني صدورهم}. وفي لفظ آخر له قال ابن عباس: أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء فنزل ذلك فيهم ثم قال: حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو قال قرأ ابن عباس: {ألا إنهم تثنوني صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم}.
قال البخاري وقال غيره عن ابن عباس {يستغشون} يغطون رؤوسهم, وقال ابن عباس في رواية أخرى في تفسير هذه الاَية: يعني به الشك في الله وعمل السيئات وكذا روي عن مجاهد والحسن وغيرهم أي أنهم كانوا يثنون صدورهم إذا قالوا شيئاً أو عملوه فيظنون أنهم يستخفون من الله بذلك فأخبرهم الله تعالى أنهم حين يستغشون ثيابهم عند منامهم في ظلمة الليل {يعلم ما يسرون} من القول {وما يعلنون * إنه عليم بذات الصدور} أي يعلم ما تكن صدورهم من النيات والضمائر والسرائر, وما أحسن ما قال زهير بن أبي سلمى في معلقته المشهورة:
فلا تكتمن الله ما في قلوبكمليخفى ومهما يكتم الله يعلم
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخرليوم حساب أو يعجل فينقم
فقد اعترف هذا الشاعر الجاهلي بوجود الصانع وعلمه بالجزئيات وبالمعاد وبالجزاء وبكتابة الأعمال في الصحف ليوم القيامة, وقال عبد الله بن شداد: كان أحدهم إذا مر برسول الله ثنى عنه صدره وغطى رأسه فأنزل الله ذلك, وعود الضمير إلى الله أولى لقوله: {ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون} وقرأ ابن عباس ألا إنهم تثنوني صدورهم برفع الصدور على الفاعلية وهو قريب المعنى.