تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 305 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 305

305 : تفسير الصفحة رقم 305 من القرآن الكريم

سورة مريم
وهي مكية
وقد روى محمد بن إسحاق في السيرة من حديث أم سلمة, وأحمد بن حنبل عن ابن مسعود في قصة الهجرة إلى أرض الحبشة من مكة أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قرأ صدر هذه السورة على النجاشي وأصحابه.

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ

** كَهيعَصَ * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيّآ * إِذْ نَادَىَ رَبّهُ نِدَآءً خَفِيّاً * قَالَ رَبّ إِنّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّي وَاشْتَعَلَ الرّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبّ شَقِيّاً * وَإِنّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَآئِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لّدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبّ رَضِيّاً
أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة, وقوله {ذكر رحمت ربك} أي هذا ذكر رحمة الله بعبده زكريا, وقرأ يحيى بن يعمر {ذكر رحمت ربك عبده زكري} وزكريا يمد ويقصر, قراءتان مشهورتان وكان نبياً عظيماً من أنبياء بني إسرائيل, وفي صحيح البخاري أنه كان نجاراً يأكل من عمل يده في النجارة. وقوله {إذ نادى ربه نداء خفي} قال بعض المفسرين: إنما أخفى دعاءه لئلا ينسب في طلب الولد إلى الرعونة لكبره, حكاه الماوردي وقال آخرون: إنما أخفاه لأنه أحب إلى الله, كما قال قتادة في هذه الاَية {إذ نادى ربه نداء خفي} إن الله يعلم القلب التقي, ويسمع الصوت الخفي, وقال بعض السلف: قام من الليل عليه السلام وقد نام أصحابه, فجعل يهتف بربه يقول خفية: يا رب, يا رب, يا رب, فقال الله له: لبيك لبيك لبيك {قال رب إني وهن العظم مني} أي ضعفت وخارت القوى {واشتعل الرأس شيب}, أي اضطرم المشيب في السواد, كما قال ابن دريد في مقصورته:
أما ترى رأسي حاكى لونهطرة صبح تحت أذيال الدجى
واشتعل المبيض في مسودةمثل اشتعال النار في جمر الغضا
والمراد من هذا الإخبار عن الضعف والكبر ودلائله الظاهرة والباطنة. وقوله {ولم أكن بدعائك رب شقي} أي ولم أعهد منك إلا الإجابة في الدعاء, ولم تردني قط فيما سألتك وقوله {وإني خفت الموالي من ورائي} قرأ الأكثرون بنصب الياء من الموالي على أنه مفعول, وعن الكسائي أنه سكن الياء, كما قال الشاعر:
كأن أيديهن في القاع القرقأيدي جوار يتعاطين الورق
وقال الاَخر:
فتى لو يباري الشمس ألقت قناعهاأو القمر الساري لألقى المقالدا
ومنه قول أبي تمام حبيب بن أوس الطائي:
تغاير الشعر منه إذ سهرت لهحتى ظننت قوافيه ستقتتل
وقال مجاهد وقتادة والسدي: أراد بالموالي العصبة. وقال أبو صالح: الكلالة. وروي عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه كان يقرؤها {وإني خفت الموالي من ورائي} بتشديد الفاء بمعنى قلت عصباتي من بعدي, وعلى القراءة الأولى وجه خوفه أنه خشي أن يتصرفوا من بعده في الناس تصرفاً سيئاً, فسأل الله ولداً يكون نبياً من بعده ليسوسهم بنبوته ما يوحي إليه, فأجيب في ذلك لا أنه خشي من وراثتهم له ماله, فإن النبي أعظم منزلة وأجل قدراً من أن يشفق على ماله إلى ما هذا حده, وأن يأنف من وراثة عصباته له ويسأل أن يكون له ولد ليحوز ميراثه دونهم هذا وجه.
(الثاني) أنه لم يذكر أنه كان ذا مال بل كان نجاراً يأكل من كسب يديه, ومثل هذا لا يجمع مالاً ولا سيما الأنبياء, فإنهم كانوا أزهد شيء في الدنيا.
(الثالث) أنه قد ثبت في الصحيحين من غير وجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا نورث, ما تركنا فهو صدقة» وفي رواية عند الترمذي بإسناد صحيح «نحن معشر الأنبياء لا نورث», وعلى هذا فتعين حمل قوله {فهب لي من لدنك ولياً يرثني} على ميراث النبوة, ولهذا قال {ويرث من آل يعقوب} كقوله {وورث سليمان داود} أي في النبوة إذ لو كان في المال لما خصه من بين إخوته بذلك, ولما كان في الإخبار بذلك كبير فائدة, إذ من المعلوم المستقر في جميع الشرائع والملل أن الولد يرث أباه, فلولا أنها وراثة خاصة لما أخبر بها, وكل هذا يقرره ويثبته ما صح في الحديث «نحن معاشر الأنبياء لا نورث, ما تركنا فهو صدقة».
قال مجاهد في قوله {يرثني ويرث من آل يعقوب } كان وراثته علماً, وكان زكريا من ذرية يعقوب, وقال هشيم: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح في قوله {يرثني ويرث من آل يعقوب} قال: يكون نبياً كما كانت آباؤه أنبياء, وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة, عن الحسن يرث نبوته وعلمه, وقال السدي: يرث نبوتي ونبوة آل يعقوب. وعن مالك عن زيد بن أسلم {ويرث من آل يعقوب} قال نبوتهم. وقال جابر بن نوح ويزيد بن هارون كلاهما عن إسماعيل بن أبي خالد, عن أبي صالح في قوله {يرثني ويرث من آل يعقوب} قال: يرث مالي ويرث من آل يعقوب النبوة, وهذا اختيار ابن جرير في تفسيره.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «يرحم الله زكريا وما كان عليه من وراثة ماله, ويرحم الله لوطاً إن كان ليأوي إلى ركن شديد». وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا جابر بن نوح عن مبارك هو ابن فضالة, عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رحم الله أخي زكريا ما كان عليه من وراثة ماله حين قال: هب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب» وهذه مرسلات لا تعارض الصحاح, والله أعلم. وقوله {واجعله رب رضي} أي مرضياً عندك وعند خلقك, تحبه وتحببه إلى خلقك في دينه وخلقه.

** يَزَكَرِيّآ إِنّا نُبَشّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَىَ لَمْ نَجْعَل لّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً
هذا الكلام يتضمن محذوفاً وهو أنه أجيب إلى ما سأل في دعائه, فقيل له: {يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى} كما قال تعالى: {هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء * فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقاً بكلمة من الله وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين} وقوله {لم نجعل له من قبل سمي} قال قتادة وابن جريج وابن زيد: أي لم يسم أحد قبله بهذا الاسم, واختاره ابن جرير رحمه الله.
قال مجاهد {لم نجعل له من قبل سمي} أي شبيهاً, وأخذه من معنى قوله {فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سمي} أي شبيهاً, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أي لم تلد العواقر قبله مثله, وهذا دليل على أن زكريا عليه السلام كان لا يولد له, وكذلك امرأته كانت عاقراً من أول عمرها, بخلاف إبراهيم, وسارة عليهما السلام, فإنهما إنما تعجبا من البشارة بإسحاق لكبرهما لا لعقرهما, ولهذا قال {أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون} مع أنه كان قد ولد له قبله إسماعيل بثلاث عشرة سنة, وقالت امرأته {يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا يعلي شيخاً إن هذا لشيء عجيب * قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد}.

** قَالَ رَبّ أَنّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً * قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبّكَ هُوَ عَلَيّ هَيّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً
هذا تعجب من زكريا عليه السلام حين أجيب إلى ما سأل وبشر بالولد, ففرح فرحاً شديداً, وسأل عن كيفية ما يولد له والوجه الذي يأتيه منه الولد, مع أن امرأته كانت عاقراً لم تلد من أول عمرها مع كبرها, ومع أنه قد كبر وعتا, أي: عسا عظمه ونحل, ولم يبق فيه لقاح ولا جماع, والعرب تقول للعود إذا يبس: عتا يعتو عتياً وعتواً, وعسا يعسو عسواً وعسياً, وقال مجاهد: عتيا يعني نحول العظم, وقال ابن عباس وغيره: عتيا, يعني الكبر, والظاهر أنه أخص من الكبر.
وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب, حدثنا هشيم, أخبرنا حصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: لقد علمت السنة كلها غير أني لا أدري أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر أم لا, ولا أدري كيف كان يقرأ هذا الحرف {وقد بلغت من الكبر عتي} أو عسيا, ورواه الإمام أحمد عن سُريج بن النعمان وأبو داود عن زياد بن أيوب كلاهما عن هشيم به, {قال} أي الملك مجيباً لزكريا عما استعجب منه {كذلك قال ربك هو علي هين} أي إيجاد الولد منك ومن زوجتك هذه لا من غيرها, {هين} أي يسير سهل على الله, ثم ذكر له ما هو أعجب مما سأل عنه, فقال {وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئ} كما قال تعالى: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكور}.

** قَالَ رَبّ اجْعَل لِيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاّ تُكَلّمَ النّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً * فَخَرَجَ عَلَىَ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَىَ إِلَيْهِمْ أَن سَبّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً
يقول تعالى مخبراً عن زكريا عليه السلام أنه {قال رب اجعل لي آية} أي علامة ودليلاً على وجود ما وعدتني, لتستقر نفسي ويطمئن قلبي بما وعدتني, كما قال إبراهيم عليه السلام {رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} الاَية {قال آيتك} أي علامتك {أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سوي} أي أن تحبس لسانك عن الكلام ثلاث ليال, وأنت صحيح سوي من غير مرض ولا علة, قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة ووهب والسدي وقتادة وغير واحد: اعتقل لسانه من غير مرض ولا علة. قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كان يقرأ ويسبح ولا يستطيع أن يكلم قومه إلا إشارة.
وقال العوفي عن ابن عباس {ثلاث ليالٍ سوي} أي متتابعات, والقول الأول عنه وعن الجمهور أصح, كما قال تعالى في آل عمران {قال رب اجعل لي آية قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً واذكر ربك كثيراً وسبح بالعشي والإبكار} وقال مالك عن زيد بن أسلم {ثلاث ليال سوي} من غير خرس, وهذا دليل على أنه لم يكن يكلم الناس في هذه الليالي الثلاث وأيامها {إلا رمز} أي إشارة, ولهذا قال في هذه الاَية الكريمة {فخرج على قومه من المحراب} أي الذي بشر فيه بالولد {فأوحى إليهم} أي أشار إشارة خفية سريعة {أن سبحوا بكرة وعشي} أي موافقة له فيما أمر به في هذه الأيام الثلاثة زيادة على أعماله شكراً لله على ما أولاه. قال مجاهد: «فأوحى إليهم» أي أشار وبه قال وهب وقتادة. وقال مجاهد في رواية عنه: {فأوحى إليهم} أي كتب لهم في الأرض, وكذا قال السدي.