تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 367 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 367

367 : تفسير الصفحة رقم 367 من القرآن الكريم

سورة الشعراء

(ووقع في تفسير مالك المروي عنه تسميتها سورة الجامعة)
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ
** طسَمَ * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * لَعَلّكَ بَاخِعٌ نّفْسَكَ أَلاّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * إِن نّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ السّمَآءِ آيَةً فَظَلّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ مّنَ الرّحْمَـَنِ مُحْدَثٍ إِلاّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الأرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مّؤْمِنِينَ * وَإِنّ رَبّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ
أما الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور فقد تكلمنا عليه في أول تفسير سورة البقرة. وقوله تعالى: {تلك آيات الكتاب المبين} أي هذه آيات القرآن المبين, أي البين الواضح الجلي الذي يفصل بين الحق والباطل, والغي والرشاد. وقوله تعالى: {لعلك باخع} أي مهلك {نفسك} أي مما تحرص وتحزن عليهم {ألا يكونوا مؤمنين} وهذه تسلية من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في عدم إيمان من لم يؤمن به من الكفار, كما قال تعالى: {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} كقوله {فعللك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسف} الاَية. قال مجاهد وعكرمة وقتادة وعطية والضحاك والحسن وغيرهم {لعلك باخع نفسك} أي قاتل نفسك. قال الشاعر:
ألا أيهذا الباخع الحزن نفسهلشيء نحته عن يديه المقادر
ثم قال تعالى: {إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين} أي لو نشاء لأنزلنا آية تضطرهم إلى الإيمان قهراً, ولكن لا نفعل ذلك لأنا لا نريد من أحد إلا الإيمان الاختياري. وقال تعالى: {ولو شاء ربك لاَمن من في الأرض كلهم جميعاً * أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}. وقال تعالى: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة} الاَية, فنفذ قدره, ومضت حكمته, وقامت حجته البالغة على خلقه بإرسال الرسل إليهم, وإنزال الكتب عليهم, ثم قال تعالى: {وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين} أي كلما جاءهم كتاب من السماء أعرض عنه أكثر الناس, كما قال تعالى: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} وقال تعالى: {يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون} وقال تعالى: {ثم أرسلنا رسلنا تترى كلما جاء أمة رسولها كذبوه} الاَية, ولهذا قال تعالى ههنا: {فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يسهزئون} أي فقد كذبوا بما جاءهم من الحق, فسيعلمون نبأ هذا التكذيب بعد حين {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} ثم نبه تعالى على عظمة سلطانه وجلالة قدره وشأنه, الذين اجترءوا على مخالفة رسوله وتكذيب كتابه, وهو القاهر العظيم القادر الذي خلق الأرض وأنبت فيها من كل زوج كريم من زروع وثمار وحيوان.
قال سفيان الثوري عن رجل عن الشعبي: الناس من نبات الأرض فمن دخل الجنة فهو كريم, ومن دخل النار فهو لئيم {إن في ذلك لاَية} أي دلالة على قدرة الخالق للأشياء الذي بسط الأرض ورفع بناء السماء, ومع هذا ما آمن أكثر الناس بل كذبوا به وبرسله وكتبه, وخالفوا أمره, وارتكبوا نهيه. وقوله {وإن ربك لهو العزيز} أي الذي عز كل شيء وقهره وغلبه {الرحيم} أي بخلقه فلا يعجل على من عصاه بل يؤجله وينظره, ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر. قال أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس وابن إسحاق: العزيز في نقمته وانتصاره ممن خالف أمره وعبد غيره. وقال سعيد بن جبير: الرحيم بمن تاب إليه وأناب.

** وَإِذْ نَادَىَ رَبّكَ مُوسَىَ أَنِ ائْتَ الْقَوْمَ الظّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتّقُونَ * قَالَ رَبّ إِنّيَ أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَىَ هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ * قَالَ كَلاّ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَآ إِنّا مَعَكُمْ مّسْتَمِعُونَ * فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولآ إِنّا رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِيَ إِسْرَائِيلَ * قَالَ أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضّالّينَ * فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ * وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنّهَا عَلَيّ أَنْ عَبّدتّ بَنِي إِسْرَائِيلَ
يخبر تعالى عما أمر به عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام حين ناداه من جانب الطور الأيمن, وكلمه وناجاه, وأرسله واصطفاه, وأمره بالذهاب إلى فرعون وملئه, ولهذا قال تعالى: {أن ائت القوم الظالمين قوم فرعون ألا يتقون * قال رب إني أخاف أن يكذبون * ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون * ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون} هذه أعذار سأل الله إزاحتها عنه, كما قال في سورة طه {قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري ـ إلى قوله ـ قد أوتيت سؤلك يا موسى}.
وقوله تعالى: {ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون} أي بسبب قتل ذلك القبطي الذي كان سبب خروجه من بلاد مصر {قال كل} أي قال الله له: لا تخف من شيء من ذلك كقوله {سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً ـ أي برهاناً ـ فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون} {فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون} كقوله {إنني معكما سمع وأرى} أي إنني معكما بحفظي وكلاءتي ونصري وتأييدي {فائتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين} كقوله في الاَية الأخرى {إنا رسولا ربك} أي كل منا أرسل إليك {أن أرسل معنا بني إسرائيل} أي أطلقهم من إسارك وقبضتك وقهرك وتعذيبك, فإنهم عباد الله المؤمنون وحزبه المخلصون, وهم معك في العذاب المهين, فلما قال له موسى ذلك أعرض فرعون هنالك بالكلية, ونظر إليه بعين الازدراء والغمص, فقال {ألم نربك فينا وليد} الاية, أي أما أنت الذي ربيناه فينا وفي بيتنا وعلى فراشنا, وأنعمنا عليه مدة من السنين, ثم بعد هذا قابلت ذلك الإحسان بتلك الفعلة أن قتلت منا رجلاً, وجحدت نعمتنا عليك, ولهذا قال {وأنت من الكافرين} أي الجاحدين. قاله ابن عباس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم, واختاره ابن جرير, {قال فعلتها إذ} أي في تلك الحال {وأنا من الضالين} أي قبل أن يوحى إلي وينعم الله علي بالرسالة والنبوة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وقتادة والضحاك وغيرهم {وأنا من الضالين} أي الجاهلين. قال ابن جريج: وهو كذلك في قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه {ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكماً وجعلني من المرسلين} الاَية, أي انفصل الحال الأول وجاء أمر آخر, فقد أرسلني الله إليك فإن أطعته سلمت, وإن خالفته عطبت, ثم قال موسى {وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل} أي وما أحسنت إلي وربيتني مقابل ما أسأت إلى بني إسرائيل فجعلتهم عبيداً وخدماً تصرفهم في أعمالك ومشاق رعيتك, أفيفي إحسانك إلى رجل واحد منهم بما أسأت إلى مجموعهم, أي ليس ما ذكرته شيئاً بالنسبة إلى ما فعلت بهم.