تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 396 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 396

396 : تفسير الصفحة رقم 396 من القرآن الكريم

** إِنّ الّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَآدّكَ إِلَىَ مَعَادٍ قُل رّبّيَ أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِالْهُدَىَ وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ * وَمَا كُنتَ تَرْجُوَ أَن يُلْقَىَ إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاّ رَحْمَةً مّن رّبّكَ فَلاَ تَكُونَنّ ظَهيراً لّلْكَافِرِينَ * وَلاَ يَصُدّنّكَ عَنْ آيَاتِ اللّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَىَ رَبّكَ وَلاَ تَكُونَنّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللّهِ إِلَـَهاً آخَرَ لاَ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ كُلّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
يقول تعالى آمراً رسوله صلوات الله وسلامه عليه ببلاغ الرسالة وتلاوة القرآن على الناس, ومخبراً له بأنه سيرده إلى معاد وهو يوم القيامة, فيسأله عما استرعاه من أعباء النبوة, ولهذا قال تعالى: {إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد} أي افترض عليك أداءه إلى الناس {لرادك إلى معاد} أي إلى يوم القيامة فيسألك عن ذلك, كما قال تعالى: {فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين} وقال تعالى: {يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم} وقال: {وجيء بالنبيين والشهداء}.
وقال السدي عن أبي صالح عن ابن عباس {إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد} يقول لرادك إلى الجنة ثم سائلك عن القرآن. قاله السدي, وقال أبو سيعد مثلها, وقال الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما {لرادك إلى معاد} قال: إلى يوم القيامة, ورواه مالك عن الزهري, وقال الثوري عن الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس {لرادك إلى معاد} إلى الموت, ولهذا طرق عن ابن عباس رضي الله عنهما, وفي بعضها لرادك إلى معدنك من الجنة. وقال مجاهد: يحييك يوم القيامة, وكذا روي عن عكرمة وعطاء وسعيد بن جبير وأبي قزعة وأبي مالك وأبي صالح. وقال الحسن البصري: إي والله إن له لمعاداً فيبعثه الله يوم القيامة ثم يدخله الجنة. وقد روي عن ابن عباس غير ذلك.
كما قال البخاري في التفسير من صحيحه: حدثنا محمد بن مقاتل, أنبأنا يعلى, حدثنا سفيان العصفري عن عكرمة عن ابن عباس {لرادك إلى معاد} قال: إلى مكة, وهكذا رواه النسائي في تفسير سننه, وابن جرير من حديث يعلى وهو ابن عبيد الطنافسي به, وهكذا رواه العوفي عن ابن عباس {لرادك إلى معاد} أي لرادك إلى مكة كما أخرجك منها. وقال محمد بن إسحاق عن مجاهد في قوله: {لرادك إلى معاد} إلى مولدك بمكة. وقال ابن أبي حاتم: وقد روي عن ابن عباس ويحيى بن الجراز وسعيد بن جبير وعطية والضحاك نحو ذلك.
وحدثنا أبي, حدثنا ابن أبي عمر قال: قال سفيان فسمعناه من مقاتل منذ سبعين سنة عن الضحاك قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة, فبلغ الجحفة, اشتاق إلى مكة, فأنزل الله عليه {إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد} إلى مكة, وهذا من كلام الضحاك يقتضي أن هذه الاَية مدنية وإن كان مجموع السورة مكياً, والله أعلم. وقد قال عبد الرزاق: حدثنا معمر عن قتادة في قوله تعالى: {لرادك إلى معاد} قال: هذه مما كان ابن عباس يكتمها.
وقد روى ابن أبي حاتم بسنده عن نعيم القارىء أنه قال في قوله: {لرادك إلى معاد} قال إلى بيت المقدس, وهذا ـ والله أعلم ـ يرجع إلى قول من فسر ذلك بيوم القيامة, لأن بيت المقدس هو أرض المحشر والمنشر والله الموفق للصواب. ووجه الجمع بين هذه الأقوال أن ابن عباس فسر ذلك تارة برجوعه إلى مكة, وهو الفتح الذي هو عند ابن عباس أمارة على اقتراب أجل النبي صلى الله عليه وسلم, كما فسر ابن عباس سورة {إذا جاء نصر الله والفتح} إلى آخر السورة, أنه أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم نعي إليه, وكان ذلك بحضرة عمر بن الخطاب, ووافقه عمر على ذلك وقال: لا أعلم منها غير الذي تعلم, ولهذا فسر ابن عباس تارة أخرى قوله: {لرادك إلى معاد} بالموت, وتارة بيوم القيامة الذي هو بعد الموت, وتارة بالجنة التي هي جزاؤه ومصيره على أداء رسالة الله وإبلاغها إلى الثقلين: الإنس والجن, ولأنه أكمل خلق الله وأفصح خلق الله وأشرف خلق الله على الإطلاق.
وقوله تعالى: {قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين} أي قل لمن خالفك وكذبك يا محمد من قومك من المشركين ومن تبعهم على كفرهم قل: ربي أعلم بالمهتدي منكم ومني, وستعلمون لمن تكون له عاقبة الدار, ولمن تكون العاقبة والنصرة في الدنيا والاَخرة. ثم قال تعالى مذكراً لنبيه نعمته العظيمة عليه وعلى العباد إذ أرسله إليهم {وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب} أي ما كنت تظن قبل إنزال الوحي إليك أن الوحي ينزل عليك {ولكن رحمة من ربك} أي إنما أنزل الوحي عليك من الله من رحمته بك وبالعباد بسببك, فإذا منحك بهذه النعمة العظيمة {فلا تكونن ظهير} أي معيناً {للكافرين} ولكن فارقهم ونابذهم وخالفهم {ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك} أي لا تتأثر لمخالفتهم لك وصدهم الناس عن طريقك لا تلوي على ذلك ولا تباله, فإن الله معلٍ كلمتك ومؤيد دينك ومظهر ما أرسلك به على سائر الأديان, ولهذا قال: {وادع إلى ربك} أي إلى عبادة ربك وحده لا شريك له {ولا تكونن من المشركين}.
وقوله: {ولا تدع مع الله إلهاً آخر لا إله إلا هو} أي لا تليق العبادة إلا له, ولا تنبغي الإلهية إلا لعظمته, وقوله: {كل شيء هالك إلا وجهه} إخبار بأنه الدائم الباقي الحي القيوم, الذي تموت الخلائق ولا يموت, كما قال تعالى: {كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} فعبر بالوجه عن الذات, وهكذا قوله ههنا: {كل شيء هالك إلا وجهه} أي إلا إياه. وقد ثبت في الصحيح من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أصدق كلمة قالها الشاعر لبيد ـ ألا كل شيء ما خلا الله باطل ـ». وقال مجاهد والثوري في قوله {كل شيء هالك إلا وجهه} أي إلا ما أريد به وجهه, وحكاه البخاري في صحيحه كالمقرر له, قال ابن جرير: ويستشهد من قال ذلك بقول الشاعر:
أستغفر الله ذنباً لست محصيهرب العباد إليه الوجه والعمل
وهذا القول لا ينافي القول الأول, فإن هذا إخبار عن كل الأعمال بأنها باطلة إلا ما أريد به وجه الله تعالى من الأعمال الصالحة المطابقة للشريعة, والقول الأول مقتضاه أن كل الذوات فانية وزائلة إلا ذاته تعالى وتقدس, فإنه الأول الاَخر الذي هو قبل كل شيء وبعد كل شيء. قال أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا في كتاب التفكر والاعتبار: حدثنا أحمد بن محمد بن أبي بكر, حدثنا مسلم بن إبراهيم, حدثنا عمر بن سليم الباهلي, حدثنا أبو الوليد قال: كان ابن عمر إذا أراد أن يتعاهد قلبه يأتي الخربة, فيقف على بابها فينادي بصوت حزين, فيقول أين أهلك ؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول: {كل شيء هالك إلا وجهه} وقوله: {له الحكم} أي الملك والتصرف ولا معقب لحكمه {وإليه ترجعون} أي يوم معادكم, فيجزيكم بأعمالكم إن خيراً فخير, وإن شراً فشر. آخر تفسير سورة القصص ولله الحمد والمنة.

سورة العنكبوت
وهي مكية بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ
** الَـمَ * أَحَسِبَ النّاسُ أَن يُتْرَكُوَاْ أَن يَقُولُوَاْ آمَنّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنّا الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنّ اللّهُ الّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنّ الْكَاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الّذِينَ يَعْمَلُونَ السّيّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ
أما الكلام على الحروف المقطعة, فقد تقدم في أول سورة البقرة. وقوله تعالى: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمناوهم لا يفتنون} استفهام إنكار, ومعناه أن الله سبحانه وتعالى لابد أن يبتلي عباده المؤمنين بحسب ما عندهم من الإيمان, كما جاء في الحديث الصحيح «أشد الناس بلاء الأنبياء, ثم الصالحون, ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه, فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء» وهذه الاَية كقوله: {أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} ومثلها في سورة براءة. وقال في البقرة: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب} ولهذا قال ههنا {ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} أي الذين صدقوا في دعوى الإيمان ممن هو كاذب في قوله ودعواه, والله سبحانه وتعالى يعلم ما كان وما يكون, وما لم يكن لو كان كيف يكون. وهذا مجمع عليه عند أئمة السنة والجماعة, وبهذا يقول ابن عباس وغيره في مثل قوله: {إلا لنعلم} إلا لنرى وذلك لأن الرؤية إنما تتعلق بالموجود, والعلم أعم من الرؤية, فإنه يتعلق بالمعدوم والموجود.
وقوله تعالى: {أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون} أي لا يحسبن الذين لم يدخلوا في الإيمان أنهم يتخلصون من هذه الفتنة والامتحان, فإن من ورائهم من العقوبة والنكال ما هو أغلظ من هذا وأطم, ولهذا قال: {أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقون} أي يفوتونا {ساء ما يحكمون} أي بئس ما يظنون.

** مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ اللّهِ فَإِنّ أَجَلَ اللّهِ لاَتٍ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمَن جَاهَدَ فَإِنّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنّ اللّهَ لَغَنِيّ عَنِ الْعَالَمِينَ * وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَنُكَفّرَنّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أَحْسَنَ الّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ
يقول تعالى: {من كان يرجو لقاء الله} أي في الدار الاَخرة, وعمل الصالحات ورجا ما عند الله من الثواب الجزيل, فإن الله سيحقق له رجاءه ويوفيه عمله كلاماً موفراً, فإن ذلك كائن لا محالة لأنه سميع الدعاء بصير بكل الكائنات, ولهذا قال تعالى: {من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لاَت وهو السميع العليم} وقوله تعالى: {ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه} كقوله تعالى: {من عمل صالحاً فلنفسه} أي من عمل صالحاً فإنما يعود نفع عمله على نفسه, فإن الله تعالى غني عن أفعال العباد, ولو كانوا كلهم على أتقى قلب رجل منهم ما زاد ذلك في ملكه شيئاً, ولهذا قال تعالى: {ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين} قال الحسن البصري: إن الرجل ليجاهد وما ضرب يوماً من الدهر بسيف. ثم أخبر تعالى أنه مع غناه عن الخلائق جميعهم, ومع بره وإحسانه بهم, يجازي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أحسن الجزاء, وهو أن يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا, ويجزيهم أجرهم بأحسن الذين كانوا يعملون, فيقبل القليل من الحسنات, ويثيب عليها الواحدة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف, ويجزي على السيئة بمثلها أو يعفو ويصفح, كما قال تعالى: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيم} وقال ههنا: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون}.