تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 411 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 411

411 : تفسير الصفحة رقم 411 من القرآن الكريم

سورة لقمان
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ
** الَـمَ * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لّلْمُحْسِنِينَ * الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ بِالاَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَـَئِكَ عَلَىَ هُدًى مّن رّبّهِمْ وَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
تقدم في سورة البقرة عامة الكلام على ما يتعلق بصدر هذه السورة, وهو أنه سبحانه وتعالى جعل هذا القرآن هدى وشفاء ورحمة للمحسنين, وهم الذين أحسنوا العمل في اتباع الشريعة, فأقاموا الصلاة المفروضة بحدودها وأوقاتها وما يتبعها من نوافل راتبة وغير راتبة, وآتوا الزكاة المفروضة عليهم إلى مستحقيها, ووصلوا أرحامهم وقراباتهم, وأيقنوا بالجزاء في الدار الاَخرة, فرغبوا إلى الله في ثواب ذلك لم يراؤوا به, ولا أرادوا جزاءاً من الناس ولا شكوراً, فمن فعل ذلك كذلك, فهو من الذين قال الله تعالى: {أولئك على هدى من ربهم} أي على بصيرة وبينة ومنهج واضح جلي {وأولئك هم المفلحون} أي في الدنيا والاَخرة.

** وَمِنَ النّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلّ عَن سَبِيلِ اللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَـَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مّهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلّىَ مُسْتَكْبِراً كَأَن لّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنّ فِيَ أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
لما ذكر تعالى حال السعداء, وهم الذين يهتدون بكتاب الله وينتفعون بسماعه, كما قال تعالى: {الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} الاَية, عطف بذكر حال الأشقياء الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله وأقبلوا على استماع المزامير والغناء بالألحان وآلات الطرب, كما قال ابن مسعود في قوله تعالى: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله} قال: هو والله الغناء.
روى ابن جرير: حدثني يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا ابن وهب, أخبرني يزيد بن يونس عن أبي صخر عن أبي معاوية البجلي عن سعيد بن جبير عن أبي الصهباء البكري أنه سمع عبد الله بن مسعود وهو يسأل عن هذه الاَية {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل على سبيل الله} فقال عبد الله بن مسعود: الغناء والله الذي لا إله إلا هو, يرددها ثلاث مرات, حدثنا عمرو بن علي, حدثنا صفوان بن عيسى, أخبرنا حميد الخراط عن عمار عن سعيد بن جبير, عن أبي الصهباء أنه سأل ابن مسعود عن قول الله {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} قال: الغناء, وكذا قال ابن عباس وجابر وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومكحول وعمرو بن شعيب وعلي بن نديمة.
وقال الحسن البصري: نزلت هذه الأية {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم} في الغناء والمزامير. وقال قتادة: قوله {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم} والله لعله لا ينفق فيه مالاً, ولكن شراؤه استحبابه بحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق, وما يضر على ما ينفع, وقيل: أراد بقوله {يشتري لهو الحديث} اشتراء المغنيات من الجواري. قال ابن أبي حاتم, حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي, حدثنا وكيع عن خلاد الصفار عن عبيد الله بن زحر, عن علي بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمن, عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن وأكل أثمانهن حرام, وفيهن أنزل الله عز وجل علي {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله}» وهكذا رواه الترمذي وابن جرير من حديث عبيد الله بن زحر بنحوه, ثم قال الترمذي: هذا حديث غريب, وضعف علي بن يزيد المذكور. (قلت) علي وشيخه والراوي عنه كلهم ضعفاء, والله أعلم.
وقال الضحاك في قوله تعالى: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} قال: يعني الشرك, وبه قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, واختار ابن جرير أنه كل كلام يصد عن آيات الله واتباع سبيله. وقوله {ليضل عن سبيل الله} أي إنما يصنع هذا للتخالف للإسلام وأهله, وعلى قراءة فتح الياء تكون اللام لام العاقبة أو تعليلاً للأمر القدري, أي قيضوا لذلك ليكونوا كذلك. وقوله تعالى: {ويتخذها هزو} قال مجاهد: ويتخذ سبيل الله هزواً يستهزىء بها. وقال قتادة: يعني ويتخذ آيات الله هزواً, وقول مجاهد أولى.
وقوله {أولئك لهم عذاب مهين} أي كما استهانوا بآيات الله وسبيله أهينوا يوم القيامة في العذاب الدائم المستمر. ثم قال تعالى: {وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقر} أي هذا المقبل على اللهو واللعب والطرب إذا تليت عليه الاَيات القرآنية ولى عنها وأعرض وأدبر وتصامم وما به من صمم, كأنه ما سمعها لأنه يتأذى بسماعها إذ لا انتفاع له بها ولا أرب له فيها, {فبشره بعذاب أليم} أي يوم القيامة, يؤلمه كما تألم بسماع كتاب الله وآياته.

** إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَهُمْ جَنّاتُ النّعِيمِ * خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللّهِ حَقّاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
هذا ذكر مآل الأبرار من السعداء في الدار الاَخرة, الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين, وعملوا الأعمال الصالحة التابعة لشريعة الله {لهم جنات النعيم} أي يتنعمون فيها بأنواع الملاذ والمسار من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمراكب والنساء والنضرة والسماع, الذي لم يخطر ببال أحد وهم في ذلك مقيمون دائماًلا يظعنون دائماً ولا يبغون عنها حولاً. وقوله تعالى: {وعد الله حق} أي هذا كائن لا محالة لأنه من وعد الله, والله لا يخلف الميعاد, لأنه الكريم المنان الفعال لما يشاء القادر على كل شيء {وهو العزيز} الذي قهر كل شيء ودان له كل شيء {الحكيم} في أقواله وأفعاله, الذي جعل القرآن هدى للمؤمنين {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى} الاَية. وقوله {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسار}.

** خَلَقَ السّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَىَ فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثّ فِيهَا مِن كُلّ دَآبّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * هَـَذَا خَلْقُ اللّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ
يبين سبحانه بهذا قدرته العظيمة على خلق السموات والأرض, وما فيها وما بينهما, فقال تعالى: {خلق السموات بغير عمد} قال الحسن وقتادة: ليس لها عمد مرئية ولا غير مرئية. وقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد, لها عمد لا ترونها, وقد تقدم تقرير هذه المسألة في أول سورة الرعد بما أغنى عن إعادته, {وألقى في الأرض رواسي} يعني الجبال أرست الأرض وثقلتها لئلا تضطرب بأهلها على وجه الماء, ولهذا قال {أن تميد بكم} أي لئلا تميد بكم.
وقوله تعالى: {وبث فيها من كل دابة} أي وذرأ فيها من أصناف الحيوانات مما لا يعلم عدد أشكالهاوألوانها إلا الذي خلقها, ولما قرر سبحانه أنه الخالق نبه على أنه الرازق بقوله {وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم} أي من كل زوج من النبات كريم, أي حسن المنظر. وقال الشعبي: والناس أيضاً من نبات الأرض, فمن دخل الجنة فهو كريم, ومن دخل النار فهو لئيم. وقوله تعالى: {هذا خلق الله} أي هذا الذي ذكره الله تعالى من خلق السموات والأرض وما بينهما صادر عن فعل الله وخلقه وتقديره, وحده لا شريك له في ذلك, ولهذا قال تعالى: {فأروني ماذا خلق الذين من دونه} أي مما تعبدون وتدعون من الأصنام والأنداد {بل الظالمون} يعني المشركين بالله العابدين معه غيره {في ضلال} أي جهل وعمى {مبين} أي واضح ظاهر لا خفاء به.