تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 415 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 415

415 : تفسير الصفحة رقم 415 من القرآن الكريم

سورة السجدة

روى البخاري في كتاب الجمعة: حدثنا أبو نعيم, حدثنا سفيان عن سعد بن إبراهيم عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج عن أبي هريرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر يوم الجمعة {آلم تنزيل} السجدة و {هل أتى على الإنسان} ورواه مسلم أيضاً من حديث سفيان الثوري به. وقال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر, أخبرنا الحسن بن صالح عن ليث عن أبي الزبير عن جابر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لاينام حتى يقرأ الم تنزيل السجدة, وتبارك الذي بيده الملك, تفرد به أحمد.

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ

** الَـمَ * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رّبّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقّ مِن رّبّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مّآ أَتَاهُم مّن نّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ لَعَلّهُمْ يَهْتَدُونَ
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته ههنا. وقوله {تنزيل الكتاب لا ريب فيه} أي لا شك فيه ولا مرية أنه منزل {من رب العالمين} ثم قال تعالى مخبراً عن المشركين أم {يقولون افتراه} أي اختلقه من تلقاء نفسه {بل هو من ربك لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون} أي يتبعون الحق.

** اللّهُ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْتَوَىَ عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مّن دُونِهِ مِن وَلِيّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكّرُونَ * يُدَبّرُ الأمْرَ مِنَ السّمَآءِ إِلَى الأرْضِ ثُمّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مّمّا تَعُدّونَ * ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ
يخبر تعالى أنه خالق للأشياء فخلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام, ثم استوى على العرش, وقد تقدم الكلام على ذلك {ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع} أي بل هو المالك لأزمة الأمور, الخالق لكل شيء, المدبر لكل شيء, القادر على كل شيء, فلا ولي لخلقه سواه, ولا شفيع إلا من بعد إذنه {أفلا تتذكرون} يعني أيها العابدون غيره المتوكلون على من عداه, تعالى وتقدس وتنزه أن يكون له نظير أو شريك أو وزير أو نديد أو عديل, لا إله إلا هو ولا رب سواه.
وقد أورد النسائي ههنا حديثاً فقال: حدثنا إبراهيم بن يعقوب, حدثني محمد بن الصباح, حدثنا أبو عبيدة الحداد, حدثنا الأخضر بن عجلان عن أبي جريج المكي عن عطاء عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيدي فقال «إن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام, ثم استوى على العرش في اليوم السابع, فخلق التربة يوم السبت, والجبال يوم الأحد, والشجر يوم الاثنين, والمكروه يوم الثلاثاء, والنور يوم الأربعاء, والدواب يوم الخميس, وآدم يوم الجمعة في آخر ساعة من النهار بعد العصر, وخلقه من أديم الأرض: أحمرها وأسودها وطيبها وخبيثها, من أجل ذلك جعل الله من بني آدم الطيب والخبيث» هكذا أورد هذا الحديث إسناداً ومتنا, وقد أخرج مسلم والنسائي أيضاً من حديث حجاج بن محمد الأعور, عن ابن جريج عن إسماعيل بن أمية, عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو من هذا السياق وقد علله البخاري في كتاب التاريخ الكبير فقال: وقال بعضهم: أبو هريرة عن كعب الأحبار وهو أصح, وكذا علله غير واحد من الحفاظ, والله أعلم.
قوله تعالى: {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه} أي يتنزل أمره من أعلى السماوات إلى أقصى تخوم الأرض السابعة, كما قال تعالى: { الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن} الاَية, وترفع الأعمال إلى ديوانها فوق سماء الدنيا ومسافة ما بينها وبين الأرض مسيرة خمسمائة سنة وسمك السماء خمسمائة سنة وقال مجاهد وقتادة والضحاك: النزول من الملك في مسيرة خمسمائة عام وصعوده في مسيرة خمسمائة عام, ولكنه يقطعها في طرفة عين, ولهذا قال تعالى: {في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون * ذلك عالم الغيب والشهادة} أي المدبر لهذه الأمور, الذي هو شهيد على أعمال عباده, يرفع إليه جليلها وحقيرها وصغيرها وكبيرها, هو العزيز الذي قد عز كل شيء فقهره وغلبه, ودانت له العباد والرقاب, الرحيم بعباده المؤمنين, فهو عزيز في رحمته رحيم في عزته.

** الّذِيَ أَحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ * ثُمّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مّن مّآءٍ مّهِينٍ * ثُمّ سَوّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلاً مّا تَشْكُرُونَ
يقول تعالى مخبراً أنه الذي أحسن خلق الأشياء وأتقنها وأحكمها. وقال مالك عن زيد بن أسلم {الذي أحسن كل شيء خلقه} قال: أحسن خلق كل شيء كأنه جعله من المقدم والمؤخر, ثم لما ذكر تعالى خلق السموات والأرض, شرع في ذكر خلق الإنسان, فقال تعالى: {وبدأ خلق الإنسان من طين} يعني خلق أبا البشر آدم من طين {ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين} أي يتناسلون كذلك من نطفة من بين صلب الرجل وترائب المرأة {ثم سواه} يعني آدم لما خلقه من تراب, خلقاً سوياً مستقيماً {ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة} يعني العقول {قليلاً ما تشكرون} أي بهذه القوى التي رزقكموها الله عز وجل, فالسعيد من استعملها في طاعة ربه عز وجل.

** وَقَالُوَاْ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرْضِ أَإِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبّهِمْ كَافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفّاكُم مّلَكُ الْمَوْتِ الّذِي وُكّلَ بِكُمْ ثُمّ إِلَىَ رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ
يقول تعالى مخبراً عن المشركين في استبعادهم المعاد حيث قالوا {أئذا ضللنا في الأرض} أي تمزقت أجسامنا وتفرقت في أجزاء الأرض وذهبت {أئنا لفي خلق جديد} أي أئنا لنعود بعد تلك الحال ؟ يستعبدون ذلك , وهذا إنما هو بعيد بالنسبة إلى قدرتهم العاجزة لا بالنسبة إلى قدرة الذي بدأهم وخلقهم من العدم, الذي إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون, ولهذا قال تعالى: {بل هم بلقاء ربهم كافرون} ثم قال تعالى: {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم} الظاهر من هذه الاَية أن ملك الموت شخص معين من الملائكة, كما هو المتبادر من حديث البراء المتقدم ذكره في سورة إبراهيم, وقد سمي في بعض الاَثار بعزرائيل وهو المشهور, قاله قتادة وغير واحد وله أعوان, وهكذا ورد في الحديث أن أعوانه ينتزعون الأرواح من سائر الجسد حتى إذا بلغت الحلقوم وتناولها ملك الموت, قال مجاهد: حويت له الأرض فجعلت مثل الطست يتناول منها متى يشاء, ورواه زهير بن محمد عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه مرسلاً, وقاله ابن عباس رضي الله عنهما.
وروى ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا يحيى بن أبي يحيى المقري, حدثنا عمر بن سمرة عن جعفر بن محمد قال: سمعت أبي يقول: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملك الموت عند رأس رجل من الأنصار فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «يا ملك الموت ارفق بصاحبي فإنه مؤمن» فقال ملك الموت: يا محمد طب نفساً وقر عيناً, فإني بكل مؤمن رفيق, واعلم أن ما في الأرض بيت مدر ولا شعر في بر ولا بحر إلا وأنا أتصفحهم في كل يوم خمس مرات, حتى إني أعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم,والله يا محمد لو أني أردت أن أقبض روح بعوضة ما قدرت على ذلك حتى يكون الله هو الاَمر بقبضها. قال جعفر: بلغني أنه إنما يتصفحهم عند مواقيت الصلاة, فإذا حضرهم عند الموت فإن كان ممن يحافظ على الصلاة دنا منه الملك ودفع عنه الشيطان, ولقنه الملك لا إله إلا الله محمد رسول الله في تلك الحال العظيمة. وقال عبد الرزاق: حدثنا محمد بن مسلم عن إبراهيم بن ميسرة قال سمعت مجاهداً يقول: ما على ظهر الأرض من)بيت شعر أو مدر إلا وملك الموت يطوف به كل يوم مرتين. وقال كعب الأحبار: والله ما من بيت فيه أحد من أهل الدنياإلا وملك الموت يقوم على بابه كل يوم سبع مرات ينظر هل فيه أحد أمر أن يتوفاه, رواه ابن أبي حاتم. وقوله تعالى: {ثم إلى ربكم ترجعون} أي يوم معادكم وقيامكم من قبوركم لجزائكم.