تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 418 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 418

418 : تفسير الصفحة رقم 418 من القرآن الكريم

سورة الأحزاب

قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا خلف بن هشام, حدثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن زر قال: قال لي أبي بن كعب: كأين تقرأ سورة الأحزاب أو كأين تعدها ؟ قال: قلت ثلاثاً وسبعين آية, فقال: قط لقد رأيتها وإنها لتعادل سورة البقرة, ولقد قرأنا فيها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة, نكالاً من الله, والله عليم حكيم, ورواه النسائي من وجه آخر عن عاصم وهو ابن أبي النجود, وهو ابن بهدلة به, وهذا إسناد حسن, وهو يقتضي أنه قد كان فيها قرآن ثم نسخ لفظه وحكمه أيضاً, والله أعلم.

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ

** يَا أَيّهَا النّبِيّ اتّقِ اللّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً * وَاتّبِعْ مَا يُوحَىَ إِلَـيْكَ مِن رَبّكَ إِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً * وَتَوَكّلْ عَلَىَ اللّهِ وَكَفَىَ بِاللّهِ وَكِيلاً
هذا تنبيه بالأعلى على الأدنى, فإنه تعالى إذا كان يأمر عبده ورسوله بهذا, فلأن يأتمر من دونه بذلك بطريق الأولى والأحرى. وقد قال طلق بن حبيب: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله, ترجو ثواب الله, وأن تترك معصية الله على نور من الله مخافة عذاب الله: {ولا تطع الكافرين والمنافقين} أي لا تسمع منهم ولا تستشرهم {إن الله كان عليماً حكيم} أي فهو أحق أن تتبع أوامره وتطيعه, فإنه عليم بعواقب الأمور, حكيم في أقواله وأفعاله, ولهذا قال تعالى: {واتبع ما يوحى إليك من ربك} أي من قرآن وسنة {إن الله كان)بما تعملون خبير} أي فلا تخفى عليه خافية, وتوكل على الله, أي في جميع أمورك وأحوالك {وكفى بالله وكيل} أي وكفى به وكيلا لمن توكل عليه وأناب إِليه.

** مّا جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنّ أُمّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللّهُ يَقُولُ الْحَقّ وَهُوَ يَهْدِي السّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لاَبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ فَإِن لّمْ تَعْلَمُوَاْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَـَكِن مّا تَعَمّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً
يقول تعالى موطئاً قبل المقصود المعنوي أمراً معروفاً حسياً, وهو أنه كما لا يكون للشخص الواحد قلبان في جوفه ولاتصير زوجته التي يظاهر منها بقوله أنت علي كظهر أمي أماً له, كذلك لا يصير الدعي ولداً للرجل إِذا تبناه فدعاه ابناً له, فقال {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم} كقوله عز وجل {ماهن أمهاتهم إِن أمهاتهم اللائي ولدنهم} الاَية. وقوله تعالى: {وما جعل أدعيائكم أبنائكم} هذا هو المقصود بالنفي, فإِنها نزلت في شأن زيد بن حارثة رضي الله عنه مولى النبي صلى الله عليه وسلم, كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبناه قبل النبوة, فكان يقال له زيد بن محمد, فأراد الله تعالى أن يقطع هذا الإلحاق وهذه النسبة بقوله تعالى: {وماجعل أدعياءكم أبناءكم} كما قال تعالى في أثناء السورة {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليم} وقال ههنا {ذلكم قولكم بأفواههم} يعني تبنيكم لهم قول لا يقتضي أن يكون ابناً حقيقياً, فإِنه مخلوق من صلب رجل آخر, فما يمكن أن يكون أبوان كما لا يمكن أن يكون للبشر الواحد قلبان {والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} قال سعيد بن جبير {يقول الحق} أي العدل, وقال قتادة {وهو يهدي السبيل} أي الصراط المستقيم.
وقد ذكر غير واحد أن هذه الاَية نزلت في رجل من قريش كان يقال له ذو القلبين, وأنه كان يزعم أن له قلبين كل منهما بعقل وافر, فأنزل الله تعالى هذه الاَية رداً عليه. هكذا روى العوفي عن ابن عباس, وقاله مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة واختاره ابن جرير: وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن, حدثنا زهير عن قابوس يعني ابن أبي ظبيان, قال: إِن أباه حدثه قال: قلت لابن عباس: أرأيت قول الله تعالى: {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه} ما عنى بذلك ؟ قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً يصلي فخطر خطرة, فقال المنافقون الذين يصلون معه: ألا ترون له قلبين: قلباً معكم وقلباً معهم, فأنزل الله تعالى: {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه} وهكذا رواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي عن صاعد الحراني, عن عبد بن حميد وعن أحمد بن يونس, كلاهما عن زهير وهو ابن معاوية به. ثم قال: وهذا حديث حسن, وكذا رواه ابن جرير وابن حاتم من حديث زهير به.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري في قوله تعالى: {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه} قال بلغنا أن ذلك كان في زيد بن حارثة ضرب له مثل: يقول ليس ابن رجل آخر ابنك, وكذا قال مجاهد وقتادة وابن زيد أنها نزلت في زيد بن حارثة رضي الله عنه, وهذا يوافق ما قدمناه من التفسير والله سبحانه وتعالى أعلم. وقوله عز وجل {ادعوهم لاَبائهم هو أقسط عند الله} هذا أمر ناسخ لما كان في ابتداء الإسلام من جواز ادعاء الأبناء الأجانب وهم الأدعياء, فأمر تبارك وتعالى برد نسبهم إِلى آبائهم في الحقيقة, وأن هذا هو العدل والقسط والبر. قال البخاري رحمه الله: حدثنا مُعلى بن أسد, حدثنا عبد العزيز بن المختار عن موسى بن عقبة قال: حدثني سالم عن عبد الله بن عمر قال: إِن زيد بن حارثة رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنا ندعوه إِلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن {ادعوهم لاَبائهم هو أقسط عند الله} وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي من طرق عن موسى بن عقبة به. وقد كانوا يعاملونهم معاملة الأبناء من كل وجه في الخلوة بالمحارم وغير ذلك, ولهذا قالت سهلة بنت سهيل امرأة أبي حذيفة رضي الله عنهما: يارسول الله إِنا كنا ندعو سالماً ابناً, وإِن الله قد أنزل ما أنزل, وإِنه كان يدخل علي وإِني أجد في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئاً, فقال صلى الله عليه وسلم «أرضعيه تحرمي عليه» الحديث, ولهذا لما نسخ هذا الحكم أباح تبارك وتعالى زوجة الدعي, وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش مطلقة زيد بن حارثة رضي الله عنه, وقال عز وجل {لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إِذا قضوا منهن وطر} وقال تبارك وتعالى في آية التحريم {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم} احترازاً عن زوجة الدعي فإِنه ليس من الصلب, فأما الابن من الرضاعة فمنزل منزلة ابن الصلب شرعاً بقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين «حرّموا من الرضاعة ما يحرم من النسب», فأما دعوة الغير ابناً على سبيل التكريم والتحبيب, فليس مما نهى عنه في هذه الاَية بدليل مارواه الإمام أحمد وأهل السنن إِلا الترمذي, من حديث سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن الحسن العُرني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدّمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أغيلمة بني عبد المطلب على حمرات لنا من جمع, فجعل يلطخ أفخاذنا ويقول «أُبَيْنِيّ لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس» قال أبو عبيدة وغيره: أُبَيْنِيّ تصغير بَني وهذا ظاهر الدلالة, فإِن هذا كان في حجة الوداع سنة عشر.
وقوله {ادعوهم لاَبائهم} في شأن زيد بن حارثة رضي الله عنه, وقد قتل في يوم مؤتة سنة ثمان, وأيضاً ففي صحيح مسلم من حديث أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري عن الجعد أبي عثمان البصري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يابني» ورواه أبو داود والترمذي. وقوله عز وجل {فإِن لم تعلموا آباءهم فإِخوانكم في الدين ومواليكم} أمر تعالى برد أنساب الأدعياء إِلى آبائهم إِن عرفوا, فإِن لم يعرفوا فهم إِخوانهم في الدين ومواليهم, أي عوضاً عما فاتهم من النسب, ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خرج من مكة عام عمرة القضاء وتبعتهم ابنة حمزة رضي الله عنها تنادي, ياعم ياعم, فأخذها علي رضي الله عنه وقال لفاطمة رضي الله عنها: دونك ابنة عمك, فاحتملتها فاختصم فيها علي وزيد وجعفر رضي الله عنهم في أيهم يكفلها, فكل أدلى بحجة, فقال علي رضي الله عنه: أنا أحق بها وهي ابنة عمي: وقال زيد: ابنة أخي, وقال جعفر بن أبي طالب: ابنة عمي وخالتها تحتي, يعني أسماء بنت عميس, فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال «الخالة بمنزلة الأم» وقال لعلي رضي الله عنه «أنت مني وأنا منك». وقال لجعفر رضي الله عنه «أشبهت خلقي وخلقي». وقال لزيد رضي الله عنه «أنت أخونا ومولانا» ففي الحديث أحكام كثيرة من أحسنها أنه صلى الله عليه وسلم حكم بالحق, وأرضى كلا من المتنازعين. وقال لزيد رضي الله عنه «أنت أخونا ومولانا». كما قال تعالى: {فإِخوانكم في الدين ومواليكم}.
وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إِبراهيم, حدثنا ابن علية, عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه قال: قال أبو بكرة رضي الله عنه: قال الله عز وجل {ادعوهم لاَبائهم هو أقسط عند الله فإِن لم تعلموا آبائهم فإِخوانكم في الدين ومواليكم} فأنا ممن لا يعرف أبوه فأنا من إِخوانكم في الدين, قال أبي: والله إِني لأظنه لو علم أن أباه كان حماراً لانتمى إِليه, وقد جاء في الحديث «من ادعى إِلى غير أبيه وهو يعلمه كفر» وهذا تشديد وتهديد ووعيد أكيد في التبري من النسب المعلوم, ولهذا قال تعالى: {ادعوهم لاَبائهم هو أقسط عند الله فإِن لم تعلموا آبائهم فإِخوانكم في الدين ومواليكم}.
ثم قال تعالى: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به} إِي إِذا نسبتم بعضهم إِلى غير أبيه في الحقيقة خطأ بعد الاجتهاد واستفراغ الوسع, فإِن الله تعالى قد وضع الحرج في الخطأ ورفع إِثمه, كما أرشد إِليه في قوله تبارك وتعالى آمراً عباده أن يقولوا {ربنا لا تؤاخذنا إِن نسينا أو أخطأن} وثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله عز وجل: قد فعلت». وفي صحيح البخاري عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إِذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران, وإِن اجتهد فأخطأ فله أجر». وفي حديث آخر «إِن الله تبارك وتعالى رفع عن أمتي الخطا. والنسيان وما يكرهون عليه» وقال تبارك وتعالى ههنا {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفوراً رحيم} أي وإِنما الإثم على من تعمد الباطل, كما قال عز وجل {لا يؤاخذكم الله في اللغو في أيمانكم} الاَية. وفي الحديث المتقدم «ليس من رجل ادعى إِلى غير أبيه وهو يعلمه إِلا كفر». وفي القرآن المنسوخ: فإِنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم.
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عتبة بن مسعود, عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنهم أنه قال: إِن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق, وأنزل معه الكتاب, فكان فيما أنزل عليه آية الرجم, فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده, ثم قال قد كنا نقرأ ولا ترغبوا عن آبائكم فإِنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال«لا تطروني كما أطري عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام فإِنما أنا عبد الله, فقولوا عبده ورسوله» وربما قال معمر «كما أطرت النصارى ابن مريم» ورواه في الحديث الاَخر «ثلاث في الناس كفر: الطعن في النسب, والنياحة على الميت, والاستسقاء بالنجوم».

** النّبِيّ أَوْلَىَ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىَ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاّ أَن تَفْعَلُوَاْ إِلَىَ أَوْلِيَآئِكُمْ مّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً
قد علم الله تعالى شفقة رسوله على أمته ونصحة لهم, فجعله أولى بهم من أنفسهم, وحكمه فيهم كان مقدماً على اختيارهم لأنفسهم, كما قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليم} وفي الصحيح «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إِليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين». وفي الصحيح أيضاً أن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله, والله لأنت أحب إِلي من كل شيء إلا من نفسي, فقال صلى الله عليه وسلم «لا يا عمر حتى أكون أحب إِليك من نفسك» فقال: يا رسول الله, والله لأنت أحب إِلي من كل شيء حتى من نفسي, فقال صلى الله عليه وسلم «الاَن ياعمر» ولهذا قال تعالى في هذه الاَية {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم}.
وقال البخاري عند هذه الاَية الكريمة: حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا محمد بن فليح, حدثنا أبي عن هلال بن علي عن عبد الرحمن بن أبي عمرة, عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ما من مؤمن إِلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والاَخرة, اقرؤوا إِن شئتم {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} فأيما مؤمن ترك مالاً فليرثه عصبته من كانوا, وإِن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه» تفرد به البخاري ورواه أيضاً في الاستقراض, وابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عن فليح به مثله, ورواه أحمد من حديث أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في قوله {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول «أنا أولى بكل مؤمن من نفسه, فأيما رجل مات وترك ديناً فإِليّ, ومن ترك مالاً فهو لورثته» ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل به نحوه.
وقال تعالى: {وأزواجه أمهاتهم} أي في الحرمة والاحترام, والتوقير والإكرام والإعظام, ولكن لا تجوز الخلوة بهن ولا ينتشر التحريم إِلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع, وإِن سمى بعض العلماء بناتهن أخوات المؤمنين كما هو منصوص الشافعي رضي الله عنه في المختصر, وهو من باب إِطلاق العبارة لا إِثبات الحكم, وهل يقال لمعاوية وأمثاله خال المؤمنين ؟ فيه قولان للعلماء رضي الله عنهم, ونص الشافعي رضي الله عنه على أنه يقال ذلك, وهل يقال لهن أمهات المؤمنين فيدخل النساء في جمع المذكر السالم تغييباً ؟ وفيه قولان, صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لا يقال ذلك, وهذا أصح الوجهين في مذهب الشافعي رضي الله عنه. وقد روي عن أبي كعب وابن عباس رضي الله عنهما أنهما قرآ {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم}. وروي نحو هذا عن معاوية ومجاهد وعكرمة والحسن, وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي رضي الله عنه, حكاه البغوي وغيره, واستأنسوا عليه بالحديث الذي رواه أبو داود رحمه الله: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي, حدثنا ابن المبارك عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم, عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إِنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم, فإِذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها, ولا يستطب بيمينه». وكان يأمر بثلاثة أحجار وينهى عن الروث والرمة. وأخرجه النسائي وابن ماجه من حديث ابن عجلان, والوجه الثاني أنه لا يقال ذلك, واحتجوا بقوله تعالى: {ماكان محمد أبا أحد من رجالكم}.
وقوله تعالى: {وألو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} أي في حكم الله {من المؤمنين والمهاجرين} أي القرابات أولى بالتوارث من المهاجرين والأنصار, وهذه ناسخة لما كان قبلها من التوارث بالحلف والمؤاخاة التي كانت بينهم, كما قال ابن عباس وغيره: كان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته وذوي رحمه للأخوة التي آخى بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكذا قال سعيد بن جبير وغيره من السلف والخلف. وقد أورد فيه ابن أبي حاتم حديثاً عن الزبير بن العوام فقال: حدثنا أبي, حدثنا أحمد بن أبي بكر المصعبي من ساكني بغداد عن عبد الرحمن بن أبي الزناد, عن هشام بن عروة عن أبيه عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: أنزل الله عز وجل فينا خاصة معشر قريش والأنصار {وألو الأرحام بعضهم أولى ببعض} وذلك أنا معشر قريش لما قدمنا ولا أموال لنا, فوجدنا الأنصار نعم الإخوان فواخيناهم وأورثناهم, فآخى أبو بكر رضي الله عنه خارجة بن زيد, وآخى عمر رضي الله عنه فلاناً, وآخى عثمان رضي الله عنه رجلاً من بني زريق بن سعد الزرقي, ويقول بعض الناس غيره, قال الزبير رضي الله عنه: وواخبت أنا كعب بن مالك فجئته فابتعلته, فوجدت السلاح قد ثقله فيما يرى, والله يابني لو مات يومئذ عن الدنيا ما ورثه غيري حتى أنزل الله تعالى هذه الاَية فينا معشر قريش والأنصار خاصة, فرجعنا إِلى مواريثنا.
وقوله تعالى: {إِلا أن تفعلوا إِلى أوليائكم معروف} أي ذهب الميراث وبقي النصر والبر والصلة والإحسان والوصية. وقوله تعالى: {كان ذلك في الكتاب مسطور} أي هذا الحكم, وهو أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض, حكم من الله مقدر مكتوب في الكتاب الأول الذي لا يبدل ولا يغير, قاله مجاهد وغير واحد, وإِن كان تعالى قد شرع خلافه في وقت لما له في ذلك من الحكمة البالغة وهو يعلم أنه سينسخه إِلى ماهو جار في قدره الأزلي وقضائه القدري الشرعي, والله أعلم.