تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 477 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 477

477 : تفسير الصفحة رقم 477 من القرآن الكريم

سورة فصلت
وهي مكية بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ

** حـمَ * تَنزِيلٌ مّنَ الرّحْمَـَنِ الرّحِيمِ * كِتَابٌ فُصّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِيَ أَكِنّةٍ مِمّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنّنَا عَامِلُونَ
يقول تعالى: {حم تنزيل من الرحمن الرحيم} يعني القرآن منزل من الرحمن الرحيم كقوله: {قل نزله روح القدس من ربك بالحق} وقوله: {وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين} وقوله تبارك وتعالى: {كتاب فصلت آياته} أي بينت معانيه وأحكمت أحكامه {قرآناً عربي} أي في حال كونه قرآناً عربياً بيناً واضحاً فمعانيه مفصلة وألفاظه واضحة غير مشكلة كقوله تعالى: {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} أي هو معجز من حيث لفظه ومعناه {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} وقوله تعالى: {لقوم يعلمون} أي إنما يعرف هذا البيان والوضوح العلماء الراسخون {بشيراً ونذير} أي تارة يبشر المؤمنين وتارة ينذر الكافرين {فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون} أي أكثر قريش فهم لا يفهمون منه شيئاً مع بيانه ووضوحه {وقالوا قلوبنا في أكنة} أي في غلف مغطاة {مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر} أي صمم عما جئتنا به {ومن بيننا وبينك حجاب} فلا يصل إلينا شيء مما تقوله {فاعمل إننا عاملون} أي اعمل أنت على طريقتك ونحن على طريقتنا لا نتابعك, قال الإمام العالم عبد بن حميد في مسنده: حدثني ابن أبي شيبة حدثنا علي بن مسهر عن الأجلح عن الزيال بن حرملة الأسدي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: اجتمعت قريش يوماً فقالوا انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب ديننا فليكلمه ولننظر ماذا يرد عليه فقالوا ما نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة, فقالوا أنت يا أبا الوليد فأتاه عتبة فقال: يا محمد أنت خير أم عبد الله ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أنت خير أم عبد المطلب, فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الاَلهة التي عِبْتَ وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك, إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك, فرقت جماعتنا وشتت أمرنا, وعبت ديننا وفضحتنا في العرب, حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحراً وأن في قريش كاهناً والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى, أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلاً واحداً, وإن كان بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشراً, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فرغت» قال نعم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {بسم الله الرحمن الرحيم, حم تنزيل من الرحمن الرحيم ـ حتى بلغ ـ فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} فقال عتبة حسبك حسبك ما عندك غير هذا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا» فرجع إلى قريش فقالوا ما وراءك ؟ قال ما تركت شيئاً أرى أنكم تكلمون به إلا كلمته, قالوا فهل أجابك ؟ قال لا والذي نصبها بنية ما فهمت شيئاً مما قاله غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود, قالوا ويلك يكلمك الرجل بالعربية لا تدري ما قال ؟ قال لا والله ما فهمت شيئاً مما قال غير ذكر الصاعقة. وهكذا رواه الحافظ أيو يعلى الموصلي في مسنده عن أبي بكر بن أبي شيبة بإسناده مثله سواه, وقد ساقه البغوي في تفسيره بسنده عن محمد بن فضيل عن الأجلح وهو ابن عبد الله الكندي الكوفي وقد ضعف بعض الشيء عن الزيال بن حرملة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه فذكر الحديث إلى قوله: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش واحتبس عنهم, فقال أبو جهل يا معشر قريش والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه وما ذاك إلا من حاجة أصابته فانطلقوا بنا إليه فانطلقوا إليه فقال أبو جهل: يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك صبأت إلى محمد وأعجبك طعامه فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد, فغضب عتبة وأقسم أن لا يكلم محمداً أبداً وقال والله لقد علمتم أني من أكثر قريش مالاً ولكني أتيته وقصصت عليه القصة فأجابني بشيء والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر وقرأ السورة إلى قوله تعالى: {فإن أعرضوا فقل أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} فأمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب فخشيت أن ينزل بكم العذاب, وهذا السياق أشبه من سياق البزار وأبي يعلى والله تعالى أعلم, وقد أورد هذه القصة الإمام محمد بن إسحاق بن يسار في كتاب السيرة على خلاف هذا النمط فقال حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة وكان سيداً قال يوماً وهو جالس في نادي قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله أن يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا ؟ وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون, فقالوا بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه, فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخي إنك منا حيث علمت من السلطَة في العشيرة والمكان في النسب, وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضا. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قل يا أبا الوليد أسمع» قال يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً, وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا, وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الأطباء وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه أو كما قال له, حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال: «أفرغت يا أبا الوليد ؟» قال نعم. قال «فاستمع مني» قال أفعل. قال: {بسم الله الرحمن الرحيم, حم تنزيل من الرحمن الرحيم, كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون} ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وهو يقرؤها عليه. فلما سمع عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما يستمع منه حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد ثم قال «قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك» فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به فلما جلس إليهم قالوا ما وراءك يا أبا الوليد قال ورائي أني سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط والله ما هو بالسحر ولا بالشعر ولا بالكهانة, يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي خلّوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ, فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به. قالوا سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه, قال هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم. وهذا السياق أشبه من الذي قبله, والله أعلم.

** قُلْ إِنّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَىَ إِلَيّ أَنّمَآ إِلَـَهُكُمْ إِلَـَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوَاْ إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ * الّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ بِالاَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ يقول تعالى: {قل} يا محمد لهؤلاء المكذبين المشركين {إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد} لا كما تعبدونه من الأصنام والأنداد والأرباب المتفرقين إنما الله إله واحد {فاستقيموا إليه} أي أخلصوا له العبادة على منوال ما أمركم به على ألسنة الرسل {واستغفروه} أي لسالف الذنوب {وويل للمشركين} أي دمار لهم وهلاك عليهم {الذين لا يؤتون الزكاة} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يعني الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله وكذا قال عكرمة وهذا كقوله تبارك وتعالى: {قد أفلح من زكاها, وقد خاب من دساه} وكقوله جلت عظمته: {قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى} وقوله عز وجل: {فقل هل لك إلى أن تزكى ؟} والمراد بالزكاة ههنا طهارة النفس من الأخلاق الرذيلة ومن أهم ذلك طهارة النفس من الشرك, وزكاة المال إنما سميت زكاة لأنها تطهره من الحرام وتكون سبباً لزيادته وبركته وكثرة نفعه وتوفيقاً إلى استعماله في الطاعات, وقال السدي {وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة} أي يؤدون الزكاة, وقال معاوية بن قرة ليس هم من أهل الزكاة وقال قتادة يمنعون زكاة أموالهم وهذا هو الظاهر عند كثير من المفسرين واختاره ابن جرير وفيه نظر لأن إيجاب الزكاة إنما كان في السنة الثانية من الهجرة إلى المدينة على ما ذكره غير واحد وهذه الاَية مكية اللهم إلا أن يقال لا يبعد أن يكون أصل الصدقة والزكاة وكان مأموراً به في ابتداء البعثة كقوله تبارك وتعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} فأما الزكاة ذات النصب والمقادير فإنما بين أمرها بالمدينة ويكون هذا جمعاً بين القولين كما أن أصل الصلاة كان واجباً قبل طلوع الشمس وقبل غروبها في ابتداء البعثة فلما كان ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة ونصف فرض الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس وفصل شروطها وأركانها وما يتعلق بها بعد ذلك شيئاً فشيئاً والله أعلم. ثم قال جل جلاله بعد ذلك: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون} قال مجاهد وغيره: غير مقطوع ولا مجبوب كقوله تعالى: {ماكثين فيها أبد} وكقوله عز وجل: {عطاء غير مجذوذ} وقال السدي غير ممنون عليهم وقد رد عليه هذا التفسير بعض الأئمة فإن المنة لله تبارك وتعالى على أهل الجنة قال الله تبارك وتعالى: {بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان} وقال أهل الجنة فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم, وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إلا إن يتغمدني الله برحمة منه وفضل».

** قُلْ أَإِنّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِيَ أَرْبَعَةِ أَيّامٍ سَوَآءً لّلسّآئِلِينَ * ثُمّ اسْتَوَىَ إِلَى السّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ * فَقَضَاهُنّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىَ فِي كُلّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيّنّا السّمَآءَ الدّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ
هذا إنكار من الله تعالى على المشركين الذين عبدوا معه غيره وهو الخالق لكل شيء القاهر لكل شيء المقتدر على كل شيء فقال: {قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداد} أي نظراء وأمثالاً تعبدونها معه {ذلك رب العالمين} أي الخالق للأشياء هو رب العالمين كلهم. وهذا المكان فيه تفصيل لقوله تعالى: {خلق السموات والأرض في ستة أيام} ففصل ههنا ما يختص بالأرض مما اختص بالسماء فذكر أنه خلق الأرض أولاً لأنها كالأساس والأصل أن يبدأ بالأساس ثم بعده بالسقف كما قال عز وجل: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات} الاَية فأما قوله تعالى: {أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها * وأغطش ليلها وأخرج ضحاها * والأرض بعد ذلك دحاها * أخرج منها ماءها ومرعاها * والجبال أرساها * متاعاً لكم ولأنعامكم} ففي هذ الاَية أن دحي الأرض كان بعد خلق السماء, فأما خلق الأرض فقبل خلق السماء بالنص وبهذا أجاب ابن عباس رضي الله عنه فيما ذكره البخاري عند تفسير هذه الاَية من صحيحه فإنه قال: وقال المنهال عن سعيد بن جبير قال: قال رجل لابن عباس رضي الله عنهما إني لأجد في القرآن أشياء تختلف علي, قال: {فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} {ولا يكتمون الله حديث} {والله ربنا ما كنا مشركين} فقد كتموا في هذه الاَية وقال تعالى: {أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها ـ إلى قوله ـ والأرض بعد ذلك دحاه} فذكر خلق السماء قبل الأرض ثم قال تعالى: {قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين ـ إلى قوله ـ طائعين} فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء قال: {وكان الله غفوراً رحيم} {عزيزاً حكيم} {سميعاً بصير} فكأنه كان ثم مضى فقال ابن عباس رضي الله عنهما {فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} في النفخة الأولى, ثم نفخ في الصور {فصعق من في السموات ومن في الأرض إلامن شاء الله} فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون بينهم في النفخة الأخرى {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} وأما قوله: {والله ربنا ما كنا مشركين} {ولا يكتمون الله حديث} فإن الله تعالى يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم فيقول المشركون تعالوا نقول لم نكن مشركين فيختم على أفواههم فتنطق أيديهم فعند ذلك يعرف أن الله تعالى لا يكتم حديثاً, وعنده {يود الذين كفرو} الاَية, وخلق الأرض في يومين ثم خلق السماء ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين ثم دحى الأرض ودحيها أن أخرج منها الماء والمرعى وخلق الجبال والرمال والجماد والاَكام وما بينهما في يومين آخرين فذلك قوله تعالى دحاها وقوله: {خلق الأرض في يومين} فخلق الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام وخلق السموات في يومين {وكان الله غفوراً رحيم} سمى نفسه بذلك وذلك قوله أي لم يزل كذلك فإن الله تعالى لم يرد شيئاً إلا أصاب به الذي أراد فلا يختلفن عليك القرآن فإن كلاً من عند الله عز وجل. قال البخاري حدثنيه يوسف بن عدي حدثنا عبيد الله بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن المنهال هو ابن عمرو بالحديث. وقوله: {خلق الأرض في يومين} يعني يوم الأحد ويوم الإثنين {وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيه} أي جعلها مباركة قابلة للخير والبذر والغراس وقدر فيها أقواتها وهو ما تحتاج أهلها إليه من الأرزاق والأماكن التي تزرع وتغرس يعني يوم الثلاثاء والأربعاء فهما مع اليومين السابقين أربعة ولهذا قال: {في أربعة أيام سواء للسائلين} أي لمن أراد السؤال عن ذلك ليعلمه وقال عكرمة ومجاهد في قوله عز وجل: {وقدر فيها أقواته} جعل في كل أرض ما لا يصلح في غيرها ومنه العصب باليمن والسابوري بسابور والطيالسة بالري وقال ابن عباس وقتادة والسدي في قوله تعالى: {سواء للسائلين} أي لمن أراد السؤال عن ذلك وقال ابن زيد معناه وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين أي على وفق مراده من له حاجة إلى رزق أو حاجة فإن الله تعالى قدر له ما هو محتاج إليه وهذا القول يشبه ما ذكروه في قوله تعالى: {وآتاكم من كل ما سألتموه} والله أعلم وقوله تبارك وتعالى: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان} وهو بخار الماء المتصاعد منه حين خلقت الأرض {فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كره} أي استجيبا لأمري وانفعلا لفعلي طائعتين أو مكرهتين قال الثوري عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى: {فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كره} قال: قال الله تبارك وتعالى للسموات أطلعي شمسي وقمري والنجوم وقال للأرض شققي أنهارك وأخرجي ثمارك {قالتا أتينا طائعين} واختاره ابن جرير رحمه الله قالتا أتينا طائعين أي بل نستجيب لك مطيعين بما فينا مما تريد خلقه من الملائكة والجن والإنس جميعاً مطيعين لك, حكاه ابن جرير عن بعض أهل العربية قال وقيل تنزيلاً لهن معاملة من يعقل بكلامهما وقيل إن المتكلم من الأرض بذلك هو مكان الكعبة ومن السماء ما يسامته منها والله أعلم وقال الحسن البصري لوأبيا عليه أمره عليه لعذبهما عذاباً يجدان ألمه رواه ابن أبي حاتم {فقضاهن سبع سموات في يومين} أي ففرغ من تسويتهن سبع سموات في يومين أي آخرين وهما يوم الخميس ويوم الجمعة {وأوحى في كل سماء أمره} أي ورتب مقرراً في كل سماء ما تحتاج إليه من الملائكة وما فيها من الأشياء التي لا يعلمها إلا هو {وزينا السماء الدنيا بمصابيح} وهي الكواكب المنيرة المشرقة على أهل الأرض {وحفظ} أي حرساً من الشياطين أن تستمع إلى الملأ الأعلى {ذلك تقدير العزيز العليم} أي العزيز الذي قد عز كل شيء فغلبه وقهره العليم بجميع حركات المخلوقات وسكناتهم قال ابن جرير حدثنا هناد بن السري حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي سعيد البقال عن عكرمة عن ابن عباس قال هناد: قرأت سائر الحديث أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن خلق السموات والأرض فقال صلى الله عليه وسلم: «خلق الله تعالى الأرض يوم الأحد ويوم الإثنين وخلق الجبال يوم الثلاثاء وما فيهن من منافع وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران فهذه أربعة {قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين} لمن سأله قال وخلق يوم الخميس السماء وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة إلى ثلاث ساعات بقيت منه وفي الثانية ألقى الاَفة على كل شيء مما ينتفع به الناس وفي الثالثة آدم وأسكنه الجنة وأمر إبليس بالسجود له وأخرجه منها في آخر ساعة» ثم قالت اليهود ثم ماذا يا محمد قال «ثم استوى على العرش» قالوا قد أصبت لو أتممت, قالوا ثم استراح, فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً فنزل {ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب * فاصبر على ما يقولون} هذا الحديث فيه غرابة فأما حديث ابن جريج عن إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: «خلق الله التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الإثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات يوم الجمعة فيما بين العصر إلى الليل» فقد رواه مسلم والنسائي في كتابيهما من حديث ابن جريج به وهو من غرائب الصحيح وقد علله البخاري في التاريخ فقال رواه بعضهم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن كعب الأحبار وهو الأصح.