تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 502 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 502

502 : تفسير الصفحة رقم 502 من القرآن الكريم

** فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ * وَأَمّا الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىَ عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْماً مّجْرِمِينَ * وَإِذَا قِيلَ إِنّ وعْدَ اللّهِ حَقّ وَالسّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مّا نَدْرِي مَا السّاعَةُ إِن نّظُنّ إِلاّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـَذَا وَمَأْوَاكُمُ النّارُ وَمَا لَكُمْ مّن نّاصِرِينَ * ذَلِكُم بِأَنّكُمُ اتّخَذْتُمْ آيَاتِ اللّهِ هُزُواً وَغَرّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا فَالْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ * فَلِلّهِ الْحَمْدُ رَبّ السّمَاوَتِ وَرَبّ الأرْضِ رَبّ الْعَالَمِينَ * وَلَهُ الْكِبْرِيَآءُ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعِزِيزُ الْحَكِيمُ
يخبر تعالى عن حكمه في خلقه يوم القيامة فقال تعالى : {فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات} أي آمنت قلوبهم وعملت جوارحهم الأعمال الصالحة وهي الخالصة الموافقة للشرع {فيدخلهم ربهم في رحمته} وهي الجنة كما ثبت في الصحيح أن الله تعالى قال للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء {ذلك الفوز المبين} أي البين الواضح. ثم قال تعالى: {وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم ؟} أي يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً, أما قرئت عليكم آيات الله تعالى فاستكبرتم عن اتباعها, وأعرضتم عن سماعها, وكنتم قوماً مجرمين في أفعالكم مع ما اشتملت عليه قلوبكم من التكذيب ؟ {وإِذا قيل إِن وعد الله حق والساعة لا ريب فيه} أي إِذا قال لكم المؤمنون ذلك {قلتم ما ندري ما الساعة} أي لا نعرفها {إِن نظن إِلا ظن} أي إِن نتوهم وقوعها إِلا توهماً أي مرجوحاً ولهذا قال: {وما نحن بمستيقنين} أي بمتحققين. قال الله تعالى: {وبدا لهم سيئات ما عملو} أي وظهر لهم عقوبة أعمالهم السيئة {وحاق بهم} أي أحاط بهم {ما كانوا به يستهزئون} أي من العذاب والنكال {وقيل اليوم ننساكم} أي نعاملكم معاملة الناسي لكم في نار جهنم {كما نسيتم لقاء يومكم هذ} أي فلم تعملوا له لأنكم لم تصدقوا به {ومأواكم النار وما لكم من ناصرين}. وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول لبعض العبيد يوم القيامة: «ألم أزوجك ؟ ألم أكرمك ؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع ؟ فيقول: بلى يارب. فيقول أفظننت أنك ملاقي ؟ فيقول: لا. فيقول الله تعالى: فاليوم أنساك كما نسيتني».
قال الله تعالى: {ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزو} أي إِنما جازيناكم هذا الجزاء لأنكم اتخذتم حجج الله عليكم سخرياً تسخرون وتستهزؤن بها {وغرتكم الحياة الدني} أي خدعتكم فاطمأننتم إِليها فأصبحتم من الخاسرين, ولهذا قال عز وجل: {فاليوم لا يخرجون منه} أي من النار {ولا هم يستعتبون} أي لا يطلب منهم العتبى بل يعذبون بغير حساب ولا عتاب كما تدخل طائفة من المؤمنين الجنة بغير عذاب ولا حساب ثم لما ذكر تعالى حكمه في المؤمنين والكافرين, قال: {فلله الحمد رب السموات ورب الأرض} أي المالك لهما وما فيهما, ولهذا قال {رب العالمين} ثم قال جل وعلا: {وله الكبرياء في السموات والأرض} قال مجاهد: يعني السلطان أي هو العظيم الممجد الذي كل شيء خاضع لديه فقير إِليه. وقد ورد في الحديث الصحيح «يقول الله تعالى: العظمة إِزاري, والكبرياء ردائي فمن نازعني واحداً منهما أسكنته ناري» ورواه مسلم من حديث الأعمش عن أبي إِسحاق عن الأغر أبي مسلم, عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه. وقوله تعالى: {وهو العزيز} أي الذي لا يغالب ولا يمانع {الحكيم} في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره تعالى وتقدس لا إِله إِلا هو.

سورة الأحقاف
وهي مكية
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ

** حـمَ * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * مَا خَلَقْنَا السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاّ بِالْحَقّ وَأَجَلٍ مّسَمًى وَالّذِينَ كَفَرُواْ عَمّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ مّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مّن قَبْلِ هَـَذَآ أَوْ أَثَارَةٍ مّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَمَنْ أَضَلّ مِمّن يَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَن لاّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ
يخبر تعالى أنه أنزل الكتاب على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم, صلوات الله عليه دائماً إِلى يوم الدين, ووصف نفسه بالعزة التي لا ترام, والحكمة في الأقوال والأفعال, ثم قال تعالى: {ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق} أي لا على وجه العبث والباطل {وأجل مسمى} أي وإِلى مدة معينة مضروبة لا تزيد ولا تنقص, وقوله تعالى: {والذين كفروا عما أنذروا معرضون} أي لا هون عما يراد بهم, وقد أنزل الله تعالى إِليهم كتاباً وأرسل إِليهم رسولاً, وهم معرضون عن ذلك كله أي وسيعلمون غب ذلك. ثم قال تعالى: {قل} أي لهؤلاء المشركين العابدين مع الله غيره {أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض} أي أرشدوني إلى المكان الذي استقلوا بخلقه من الأرض {أم لهم شرك في السموات ؟} أي ولا شرك لهم في السموات ولا في الاَرض وما يملكون من قطمير, إن الملك والتصرف كله إلا لله عز وجل, فكيف تعبدون معه غيره وتشركون به ؟ من أرشدكم إلى هذا ؟ من دعاكم إليه ؟ أهو أمركم به ؟ أم هو شيء اقترحتموه من عند أنفسكم ؟ ولهذا قال: {ائتوني بكتاب من قبل هذ} أي هاتوا كتاباً من كتب الله المنزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يأمركم بعبادة هذه الأصنام {أو أثارة من علم} أي دليل بينٍ على هذا المسلك الذي سلكتموه {إن كنتم صادقين} أي لا دليل لكم لا نقلياً ولا عقلياً على ذلك, ولهذا قرأ آخرون: أو أثرة من علم أي أو علم صحيح تؤثرونه عن أحد ممن قبلكم, كما قال مجاهد في قوله تعالى: {أو أثارة من علم} أو أحد يأثر علماً, وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أو بينة من الأمر. وقال الإمام أحمد حدثنا يحيى عن سفيان عن صفوان بن سليم, عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال سفيان: لا أعلم إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم, أو أثرة من علم, قال: الخط. وقال أبو بكر بن عياش: أو بقية من علم. وقال الحسن البصري: أو أثارة شيء يستخرجه فيثيره. وقال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وأبو بكر بن عياش أيضاً: أو أثارة من علم يعني الخط. وقال قتادة: أو أثارة من علم خاصة من علم وكل هذه الأقوال متقاربة. وهي راجعة إلى ما قلناه وهو اختيار ابن جرير رحمه الله وأكرمه وأحسن مثواه.
وقوله تبارك وتعالى: {ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون ؟} أي لا أضل ممن يدعو من دون الله أصناماً, ويطلب ما لا تستطيعه إلى يوم القيامة, وهي غافلة عما يقول لا تسمع ولا تبصر ولا تبطش, لأنها جماد حجارة صم, وقوله تبارك وتعالى: {وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين} كقوله عز وجل: {واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً* كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضد} أي سيخونونهم أحوج ما يكونون إليهم. وقال الخليل عليه الصلاة والسلام: {إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً ومأواكم النار ومالكم من ناصرين}.