تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 528 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 528

528 : تفسير الصفحة رقم 528 من القرآن الكريم

** وَأَنّ إِلَىَ رَبّكَ الْمُنتَهَىَ * وَأَنّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىَ * وَأَنّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا * وَأَنّهُ خَلَقَ الزّوْجَيْنِ الذّكَرَ وَالاُنثَىَ * مِن نّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىَ * وَأَنّ عَلَيْهِ النّشْأَةَ الاُخْرَىَ * وَأَنّهُ هُوَ أَغْنَىَ وَأَقْنَىَ * وَأَنّهُ هُوَ رَبّ الشّعْرَىَ * وَأَنّهُ أَهْلَكَ عَاداً الاُولَىَ * وَثَمُودَ فَمَآ أَبْقَىَ * وَقَوْمَ نُوحٍ مّن قَبْلُ إِنّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَىَ * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىَ * فَغَشّاهَا مَا غَشّىَ * فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكَ تَتَمَارَىَ يقول تعالى: {وأن إلى ربك المنتهى} أي المعاد يوم القيامة. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا سويد بن سعيد, حدثنا مسلم بن خالد عن عبد الرحمن بن سابط عن عمرو بن ميمون الأودي قال: قام فينا معاذ بن جبل فقال: يا بني أود إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم, تعلمون أن المعاد إلى الله إلى الجنة أو النار, وذكر البغوي من رواية أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وأن إلى ربك المنتهى} قال: لا فكرة في الرب. قال البغوي: وهذا مثل ما روي عن أبي هريرة مرفوعاً «تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنه لا تحيط به الفكرة» وكذا أورده وليس بمحفوظ بهذا اللفظ, وإنما الذي في الصحيح «يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا من خلق كذا ؟ حتى يقول: من خلق ربك ؟ فإذا بلغ أحدكم ذلك فليستعذ بالله ولينته» وفي الحديث الاَخر الذي في السنن «تفكروا في مخلوقات الله ولا تفكروا في ذات الله تعالى فإن الله خلق ملكاً ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة ثلاثمائة سنة» أو كما قال: وقوله تعالى: {وأنه هو أضحك وأبكى} أي خلق في عباده الضحك والبكاء وسببهما وهما مختلفان {وأنه هو أمات وأحي} كقوله: {الذي خلق الموت والحياة} {وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى * من نطفة إذا تمنى} كقوله: {أيحسب الإنسان أن يترك سدى ؟ * ألم يك نطفة من مني يمنى! * ثم كان علقة فخلق فسوى * فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى * أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ؟}.
وقوله تعالى: {وأن عليه النشأة الأخرى} أي كما خلق البداءة هو قادر على الإعادة وهي النشأة الأخرى يوم القيامة {وأنه هو أغنى وأقنى} أي ملك عباده المال وجعله لهم قنية مقيماً عندهم لا يحتاجون إلى بيعه, فهذا تمام النعمة عليهم, وعلى هذا يدور كلام كثير من المفسرين, منهم أبو صالح وابن جرير وغيرهما, وعن مجاهد {أغنى} موّل {وأقنى} أخدم, وكذا قال قتادة, وقال ابن عباس ومجاهد أيضاً {أغنى} أعطى {وأقنى} رضى. وقيل: معناه أغنى نفسه وأفقر الخلائق إليه, قاله الحضرمي بن لاحق, وقيل: أغنى من شاء من خلقه, وأقنى أي أفقر من شاء منهم, قال ابن زيد, حكاهما ابن جرير وهما بعيدان من حيث اللفظ. وقوله: {وأنه هو رب الشعرى} قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد وغيرهم: هو هذا النجم الوقاد الذي يقال له مرزم الجوزاء كانت طائفة من العرب يعبدونه {وأنه أهلك عاداً الأولى} وهم قوم هود ويقال لهم عاد بن إرم بن سام بن نوح كما قال تعالى: {ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد ؟} فكانوا من أشد الناس وأقواهم وأعتاهم على الله تعالى وعلى رسوله فأهلكهم الله {بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوم} أي متتابعة.
وقوله تعالى: {وثمود فما أبقى} أي دمرهم فلم يبق منهم أحداً {وقوم نوح من قبل} أي من قبل هؤلاء {إنهم كانوا هم أظلم وأطغى} أي أشد تمرداً من الذين من بعدهم {والمؤتفكة أهوى} يعني مدائن لوط قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها, وأمطر عليهم حجارة من سجيل منضود, ولهذا قال: فغشاها ما غشى يعني من الحجارة التي أرسلها عليهم {وأمطرنا عليهم مطراً فساء مطر المنذرين} قال قتادة, كان في مدائن لوط أربعة آلاف ألف إنسان, فانضرم عليهم الوادي شيئاً فشيئاً من نار ونفط وقطران كفم الأتون. ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن محمد بن وهب بن عطية عن الوليد بن مسلم عن خليد عنه به, وهو غريب جداً {فبأي آلاء ربك تتمارى ؟} أي ففي أي نعم الله عليك أيها الإنسان تمتري ؟ قاله قتادة وقال ابن جريج {فبأي آلاء ربك تتمارى ؟} يا محمد والأول أولى, وهو اختيار ابن جرير.

** هَـَذَا نَذِيرٌ مّنَ النّذُرِ الاُوْلَىَ * أَزِفَتِ الاَزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَـَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ * وَأَنتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُواْ لِلّهِ وَاعْبُدُواْ
{هذا نذير} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم {من النذر الأولى} أي من جنسهم أرسل كما أرسلوا كما قال تعالى: {قل ما كنت بدعا من الرسل} {أزفت الاَزفة} أي اقتربت القريبة وهي القيامة {ليس لها من دون الله كاشفة} أي لا يدفعها إذاً من دون الله أحد ولا يطلع على علمها سواه, والنذير الحذر لما يعاين من الشر الذي يخشى وقوعه فيمن أنذرهم كما قال: {إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد} وفي الحديث: «أنا النذير العريان» أي الذي أعجله شدة ما عاين من الشر عن أن يلبس عليه شيئاً, بل بادر إلى إنذار قومه قبل ذلك فجاءهم عرياناً مسرعاً, وهو مناسب لقوله: {أزفت الاَزفة} أي اقتربت القريبة يعني يوم القيامة. كما قال في أول السورة التي بعدها: {اقتربت الساعة} وقال الإمام أحمد: حدثنا أنس بن عياض, حدثني أبو حاتم لا أعلم إلا عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم ومحقرات الذنوب, فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا ببطن واد, فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى أنضجوا خبزتهم, وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه» وقال أبو حازم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو نضرة: لا أعلم إلا عن سهل بن سعد قال: «مثلي ومثل الساعة كهاتين» وفرق بين أصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام ثم قال: «مثلي ومثل الساعة كمثل فرسي رهان» ثم قال: «مثلي ومثل الساعة كمثل رجل بعثه قومه طليعة, فلما خشي أن يسبق ألاح بثوبه أتيتم أتيتم» ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا ذلك» وله شواهد من وجوه أخر من صحاح وحسان. ثم قال تعالى منكراً على المشركين في استماعهم القرآن وإعراضهم عنه وتلهيهم {تعجبون} من أن يكون صحيحاً {وتضحكون} منه استهزاء وسخرية {ولا تبكون} أي كما يفعل الموقنون به كما أخبر عنهم {ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوع}.
وقوله تعالى: {وأنتم سامدون} قال سفيان الثوري عن أبيه عن ابن عباس قال: الغناء هي يمانية أسمد لنا غن لنا, وكذا قال عكرمة, وفي رواية عن ابن عباس {سامدون} معرضون, وكذا قال مجاهد وعكرمة, وقال الحسن غافلون, وهو رواية عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب, وفي رواية عن ابن عباس تستكبرون, وبه يقول السدي, ثم قال تعالى آمراً لعباده بالسجود له والعبادة المتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم والتوحيد والإخلاص {فاسجدوا لله واعبدو} أي فاخضعوا له وأخلصوا ووحدوه. قال البخاري: حدثنا أبو معمر, حدثنا عبد الوارث, حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال: سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس. انفرد به دون مسلم, وقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن خالد, حدثنا رباح عن معمر عن ابن طاوس عن عكرمة بن خالد عن جعفر بن المطلب بن أبي وداعة عن أبيه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة سورة النجم فسجد وسجد من عنده فرفعت رأسي فأبيت أن أسجد, ولم يكن أسلم يومئذ المطلب فكان بعد ذلك لا يسمع أحداً يقرؤها إلا سجد معه. وقد رواه النسائي في الصلاة عن عبد الملك بن عبد الحميد عن أحمد بن حنبل به.
آخر تفسير سورة النجم.