تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 554 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 554

554 : تفسير الصفحة رقم 554 من القرآن الكريم

** يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا نُودِيَ لِلصّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَىَ ذِكْرِ اللّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللّهِ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لّعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ
إنما سميت الجمعة جمعة لأنها مشتقة من الجمع, فإن أهل الإسلام يجتمعون فيه في كل أسبوع مرة بالمعابد الكبار, وفيه كمل جميع الخلائق فإنه اليوم السادس من الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض, وفيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة, وفيه أخرج منها وفيه تقوم الساعة, وفيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يسأل الله فيها خيراً إلا أعطاه إياه, كما ثبتت بذلك الأحاديث الصحاح. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة, حدثنا عبيدة بن حميد عن منصور عن أبي معشر عن إبراهيم عن علقمة عن قرتع الضبي, حدثنا سلمان قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: «يا سلمان ما يوم الجمعة ؟» قلت: الله ورسوله أعلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوم الجمعة يوم جمع الله فيه أبواكم ـ أو أبوكم ـ» وقد روي عن أبي هريرة من كلامه نحو هذا فالله أعلم.
وقد كان يقال له في اللغة القديمة يوم العروبة, وثبت أن الأمم قبلنا أمروا به فضلوا عنه, واختار اليهود يوم السبت الذي لم يقع فيه خلق آدم, واختار النصارى يوم الأحد الذي ابتدىء فيه الخلق, واختار الله لهذه الأمة يوم الجمعة الذي أكمل الله فيه الخليقة كما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نحن الاَخرون السابقون يوم القيامة, بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا, ثم إن هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له, فالناس لنا فيه تبع, اليهود غداً والنصارى بعد غد» لفظ البخاري وفي لفظ لمسلم «أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا, فكان لليهود يوم السبت, وكان للنصارى يوم الأحد, فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة, فجعل الجمعة والسبت والأحد, وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة نحن الاَخرون من أهل الدنيا, والأولون يوم القيامة المقضي بينهم قبل الخلائق».
وقد أمر الله المؤمنين بالاجتماع لعبادته يوم الجمعة فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} أي اقصدوا واعمدوا واهتموا في سيركم إليها, وليس المراد بالسعي ههنا المشي السريع وإنما هو الاهتمام بها كقوله تعالى: {ومن أراد الاَخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن} وكان عمر بن الخطاب وابن مسعود رضي الله عنهما يقرآنها {فامضوا إلى ذكر الله} فأما المشي السريع إلى الصلاة فقد نهي عنه لما أخرجاه في الصحيحين, عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار ولا تسرعوا, فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا» لفظ البخاري وعن أبي قتادة قال: بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ سمع جلبة رجال, فلما صلى قال: «ما شأنكم ؟» قالوا: استعجلنا إلى الصلاة قال «فلا تفعلوا, إذا أتيتم الصلاة فامشوا وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا»أخرجاه. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون ولكن ائتوها تمشون, وعليكم السكينة والوقار فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا». رواه الترمذي من حديث عبد الرزاق كذلك, وأخرجه من طريق يزيد بن زريع عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة بمثله, قال الحسن: أما والله ما هو بالسعي على الأقدام ولقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار ولكن بالقلوب والنية والخشوع. وقال قتادة في قوله: {فاسعوا إلى ذكر الله} يعني أن تسعى بقلبك وعملك وهو المشي إليها, وكان يتأول قوله تعالى: {فلما بلغ معه السعي} أي المشي معه, وروي عن محمد بن كعب وزيد بن أسلم وغيرهما نحو ذلك.
ويستحب لمن جاء إلى الجمعة أن يغتسل قبل مجيئه إليها, لما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل» ولهما عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم» وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حق الله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام, يغسل رأسه وجسده» رواه مسلم, وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «على كل رجل مسلم في كل سبعة أيام غسل يوم وهو يوم الجمعة» رواه أحمد والنسائي وابن حبان.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن آدم, حدثنا ابن المبارك عن الأوزاعي عن حسان بن عطية عن أبي الأشعث الصنعاني, عن أوس بن أوس الثقفي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من غسل واغتسل يوم الجمعة وبكر وابتكر ومشى ولم يركب, ودنا من الإمام واستمع ولم يلغ, كان له بكل خطوة أجر سنة صيامها وقيامها» وهذا الحديث له طرق وألفاظ, وقد أخرجه أهل السنن الأربعة وحسنه الترمذي, وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة, ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة, ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن, ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة, ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة, فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر» أخرجاه.
ويستحب له أن يلبس أحسن ثيابه ويتنظف ويتسوك وينتظف ويتطهر. وفي حديث أبي سعيد المتقدم «غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم والسواك وأن يمس من طيب أهله» وقال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب, حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق, حدثني محمد بن إبراهيم التيمي عن عمران بن أبي يحيى, عن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبي أيوب الأنصاري: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب أهله إن كان عنده ولبس من أحسن ثيابه ثم خرج حتى يأتي المسجد فيركع إن بداله ولم يؤذ أحداً, ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى» وفي سنن أبي داود وابن ماجه عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه, أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: «ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته» وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم الجمعة, فرأى عليهم ثياب النمار فقال: «ما على أحدكم إن وجد سعة أن يتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته» رواه ابن ماجه.
وقوله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} المراد بهذا النداء هو النداء الثاني الذي كان يفعل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج فجلس على المنبر, فإنه كان حينئذ يؤذن بين يديه فهذا هو المراد, فأما النداء الأول الذي زاده أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه, فإنما كان هذا لكثرة الناس كما رواه البخاري رحمه الله حيث قال: حدثنا آدم هو ابن أبي إياس, حدثنا ابن أبي ذئب عن الزهري عن السائب بن يزيد قال: كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر, فلما كان عثمان بعد زمن وكثر الناس, زاد النداء الثاني على الزوراء يعني يؤذن به على الدار التي تسمى بالزوراء, وكانت أرفع دار بالمدينة بقرب المسجد. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو نعيم, حدثنا إبراهيم, حدثنا محمد بن راشد المكحولي عن مكحول أن النداء كان في الجمعة مؤذن واحد, حين يخرج الإمام ثم تقام الصلاة وذلك النداء الذي يحرم عنده الشراء والبيع إذا نودي به, فأمر عثمان رضي الله عنه أن ينادي قبل خروج الإمام حتى يجتمع الناس. وإنما يؤمر بحضور الجمعة الرجال الأحرار دون العبيد والنساء والصبيان, ويعذر المسافر والمريض وقيّم المريض وما أشبه ذلك من الأعذار, كما هو مقرر في كتب الفروع.
وقوله تعالى: {وذروا البيع} أي اسعوا إلى ذكر الله واتركوا البيع إذا نودي للصلاة, ولهذا اتفق العلماء رضي الله عنهم على تحريم البيع بعد النداء الثاني, واختلفوا هل يصح إذا تعاطاه متعاط أم لا ؟ على قولين وظاهر الاَية عدم الصحة كما هو مقرر في موضعه, والله أعلم. وقوله تعالى: {ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} أي ترككم البيع وإقبالكم إلى ذكر الله وإلى الصلاة خير لكم أي في الدنيا والاَخرة إن كنتم تعلمون. وقوله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة} أي فرغ منها {فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} لما حجر عليهم في التصرف بعد النداء وأمرهم بالاجتماع أذن لهم بعد الفراغ في الانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله, كما كان عراك بن مالك رضي الله عنه إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال: اللهم إني أجبت دعوتك وصليت فريضتك وانتشرت كما أمرتني فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين, رواه ابن أبي حاتم.
وروي عن بعض السلف أن قال: من باع واشترى في يوم الجمعة بعد الصلاة بارك الله له سبعين مرة لقول الله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} وقوله تعالى: {واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون} أي في حال بيعكم وشرائكم وأخذكم وإعطائكم اذكروا الله ذكراً كثيراً, ولا تشغلكم الدنيا عن الذي ينفعكم في الدار الاَخرة, ولهذا جاء في الحديث «من دخل سوقاً من الأسواق فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير, كتب الله له ألف ألف حسنة ومحي عنه ألف ألف سيئة» وقال مجاهد: لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيراً حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً.

** وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضّوَاْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ مّنَ اللّهْوِ وَمِنَ التّجَارَةِ وَاللّهُ خَيْرُ الرّازِقِينَ
يعاتب تبارك وتعالى على ما كان وقع من الانصراف عن الخطبة يوم الجمعة إلى التجارة التي قدمت المدينة يومئذ فقال تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائم} أي على المنبر تخطب, هكذا ذكره غير واحد من التابعين, منهم أبو العالية والحسن وزيد بن أسلم وقتادة, وزعم مقاتل بن حيان أن التجارة كانت لدحية بن خليفة قبل أن يسلم, وكان معها طبل فانصرفوا إليها وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً على المنبر إلا القليل منهم, وقد صح بذلك الخبر فقال الإمام أحمد: حدثنا ابن إدريس عن حصين عن سالم بن أبي الجعد عن جابر قال: قدمت عير مرة المدينة, ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فخرج الناس وبقي اثنا عشر رجلاً فنزلت {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليه} أخرجاه في الصحيحين من حديث سالم به.
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا زكريا بن يحيى, حدثنا هشيم عن حصين عن سالم بن أبي الجعد وأبي سفيان عن جابر بن عبد الله قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة, فقدمت عير إلى المدينة فابتدرها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, حتى لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لو تتابعتم حتى لم يبق منكم أحد لسال بكم الوادي ناراً» ونزلت هذه الاَية {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائم} وقال: كان في الاثني عشر الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما, وفي قوله تعالى: {وتركوك قائم} دليل على أن الإمام يخطب يوم الجمعة قائماً. وقد روى مسلم في صحيحه عن جابر بن سمرة قال: كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن ويذكر الناس, ولكن ههنا شيء ينبغي أن يعلم وهو: أن هذه القصة قد قيل إنها كانت لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الصلاة يوم الجمعة على الخطبة, كما رواه أبو داود في كتاب المراسيل, حدثنا محمود بن خالد عن الوليد, أخبرني أبو معاذ بن معروف أنه سمع مقاتل بن حيان يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي يوم الجمعة قبل الخطبة مثل العيدين, حتى إذا كان يوم والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب, وقد صلى الجمعة, فدخل رجل فقال: إن دحية بن خليفة قد قدم بتجارة, يعني فانفضوا ولم يبق معه إلا نفر يسير وقوله تعالى: {قل ما عند الله} أي الذي عند الله من الثواب في الدار الاَخرة {خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين} أي لمن توكل عليه وطلب الرزق في وقته. آخر تفسير سورة الجمعة ولله الحمد والمنة, وبه التوفيق والعصمة.

سورة المنافقون
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ

** إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنّكَ لَرَسُولُ اللّهِ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنّكَ لَرَسُولُهُ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتّخَذُوَاْ أَيْمَانَهُمْ جُنّةً فَصَدّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِنّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنّهُمْ آمَنُواّ ثُمّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىَ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ * وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنّهُمْ خُشُبٌ مّسَنّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنّى يُؤْفَكُونَ
يقول تعالى مخبراً عن المنافقين أنهم إنما يتفوهون بالإسلام إذا جاءوا النبي صلى الله عليه وسلم, فأما في باطن الأمر فليسوا كذلك بل على الضد من ذلك, ولهذا قال تعالى: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله} أي إذا حضروا عندك واجهوك بذلك, وأظهروا لك ذلك, وليس كما يقولون, ولهذا اعترض بجملة مخبرة أنه رسول الله فقال: {والله يعلم إنك لرسوله} ثم قال تعالى: {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} أي فيما أخبروا به وإن كان مطابقاً للخارج لأنهم لم يكونوا يعتقدون صحة ما يقولون ولا صدقه, ولهذا كذبهم بالنسبة إلى اعتقادهم.
وقوله تعالى: {اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله} أي اتقوا الناس بالأيمان الكاذبة والحلفان الاَثمة ليصدقوا فيما يقولون, فاغتر بهم من لا يعرف جلية أمرهم, فاعتقدوا أنهم مسلمون, فربما اقتدى بهم فيما يفعلون وصدقهم فيما يقولون, وهم من شأنهم أنهم كانوا في الباطن لا يألون الإسلام وأهله خبالاً, فحصل بهذا القدر ضرر كبير على كثير من الناس, ولهذا قال تعالى: {فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون} ولهذا كان الضحاك بن مزاحم يقرؤها {اتخذوا إيمانهم جنة} أي تصديقهم الظاهر جنة أي تقية يتقون به القتل, والجمهور يقرؤها {أيمانهم} جمع يمين, وقوله تعالى: {ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} أي إنما قدر عليهم النفاق لرجوعهم عن الإيمان إلى الكفران, واستبدالهم الضلالة بالهدى, فطبع الله على قلوبهم فهم لايفقهون. أي فلا يصل إلى قلوبهم هدى ولا يخلص إليها خير فلا تعي ولا تهتدي.
وقوله تعالى: {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم} أي وكانوا أشكالاً حسنة وذوي فصاحة وألسنة, وإذا سمعهم السامع يصغي إلى قولهم لبلاغتهم, وهم مع ذلك في غاية الضعف والخور والهلع والجزع والجبن, ولهذا قال تعالى: {يحسبون كل صحيحة عليهم} أي كلما وقع أمر أو كائنة أو خوف يعتقدون لجبنهم أنه نازل بهم كما قال تعالى: {أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسير} فهم جهامات وصور بلا معاني, ولهذا قال تعالى: {هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون} أي كيف يصرفون عن الهدى إلى الضلال, وقد قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, حدثنا عبد الملك بن قدامة الجمحي عن إسحاق بن بكير بن أبي الفرات عن سعيد بن أبي سعيد المقبري, عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن للمنافقين علامات يعرفون بها: تحيتهم لعنة وطعامهم نهبة وغنيمتهم غلول ولا يقربون المساجد إلا هجراً, ولا يأتون الصلاة إلا دبراً, مستكبرين لا يألفون ولا يؤلفون, خشب بالليل صخب بالنهار» وقال يزيد بن مرة: سخب بالنهار.