تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 577 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 577

577 : تفسير الصفحة رقم 577 من القرآن الكريم

** كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلاّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنّا نَخُوضُ مَعَ الُخَآئِضِينَ * وَكُنّا نُكَذّبُ بِيَوْمِ الدّينِ * حَتّىَ أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشّافِعِينَ * فَمَا لَهُمْ عَنِ التّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنّهُمْ حُمُرٌ مّسْتَنفِرَةٌ * فَرّتْ مِن قَسْوَرَةٍ * بَلْ يُرِيدُ كُلّ امْرِىءٍ مّنْهُمْ أَن يُؤْتَىَ صُحُفاً مّنَشّرَةً * كَلاّ بَل لاّ يَخَافُونَ الاَخِرَةَ * كَلاّ إِنّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاّ أَن يَشَآءَ اللّهُ هُوَ أَهْلُ التّقْوَىَ وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ
يقول تعالى مخبراً أن {كل نفس بما كسبت رهينة} أي معتقلة بعملها يوم القيامة قاله ابن عباس وغيره {إلا أصحاب اليمين} فإنهم {في جنات يتساءلون عن المجرمين} أي يسألون المجرمين وهم في الغرفات وأولئك في الدركات قائلين لهم: {ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين} أي ما عبدنا الله ولا أحسنا إلى خلقه من جنسنا {وكنا نخوض مع الخائضين} أي نتكلم فيما لا نعلم. وقال قتادة: كلما غوى غاوٍ غوينا معه {وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين} يعني الموت كقوله تعالى: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما هو ـ يعني عثمان بن مظعون ـ فقد جاءه اليقين من ربه» قال الله تعالى: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} أي من كان متصفاً بمثل هذه الصفات فإنه لا تنفعه يوم القيامة شفاعة شافع فيه لأن الشفاعة إنما تنجع إذا كان المحل قابلاً, فأما من وافى الله كافراً يوم القيامة فإنه له النار لا محالة خالداً فيها, ثم قال تعالى: {فما لهم عن التذكرة معرضين} أي فما لهؤلاء الكفرة الذين قبلك مما تدعوهم إليه وتذكرهم به معرضين {كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة} أي كأنهم في نفارهم عن الحق وإعراضهم عنه حمر من حمر الوحش إذا فرت ممن يريد صيدها من أسد, قاله أبو هريرة وابن عباس في رواية عنه وزيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن, أو رام, وهو رواية عن ابن عباس وهو قول الجمهور. وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس: الأسد بالعربية, ويقال له بالحبشية قسورة, وبالفارسية شير, وبالنبطية أوبا.
وقوله تعالى: {بل يريد كل امرىء منهم أن يؤتى صحفاً منشرة} أي بل يريد كل واحد من هؤلاء المشركين أن ينزل عليه كتاب كما أنزل الله على النبي صلى الله عليه وسلم, قاله مجاهد وغيره, كقوله تعالى: {وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله, الله أعلم حيث يجعل رسالته} وفي رواية عن قتادة: يريدون أن يؤتوا براءة بغير عمل, فقوله تعالى: {كلا بل لا يخافون الاَخرة} أي إنما أفسدهم عدم إيمانهم بها وتكذيبهم بوقوعها.
ثم قال تعالى: {كلا إنه تذكرة} أي حقاً إن القرآن تذكرة {فمن شاء ذكره وما يذكرون إلا أن يشاء الله} كقوله: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله}. وقوله تعالى: {هو أهل التقوى وأهل المغفرة} أي هو أهل أن يخاف منه وهو أهل أن يغفر ذنب من تاب إليه وأناب. قاله قتادة. وقال الإمام أحمد: حدثنا زيد بن الحباب, أخبرني سهيل أخو حزم, حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الاَية {هو أهل التقوى وأهل المغفرة} وقال «قال ربكم أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله فمن اتقى أن يجعل معي إلهاً كان أهلاً أن أغفر له» ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث زيد بن الحباب, والنسائي من حديث المعافى بن عمران, كلاهما عن سهيل بن عبد الله القطعي به, وقال الترمذي: حسن غريب وسهيل ليس بالقوي, ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن هدبة بن خالد عن سهيل به, وهكذا رواه أبو يعلى والبزار والبغوي وغيرهم من حديث سهيل القطعي به. آخر تفسير سورة المدثر, ولله الحمد والمنة.

سورة القيامة
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ

** لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلاَ أُقْسِمُ بِالنّفْسِ اللّوّامَةِ * أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلّن نّجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَىَ قَادِرِينَ عَلَىَ أَن نّسَوّيَ بَنَانَهُ * بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ * فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرّ * كَلاّ لاَ وَزَرَ * إِلَىَ رَبّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرّ * يُنَبّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذِ بِمَا قَدّمَ وَأَخّرَ * بَلِ الإِنسَانُ عَلَىَ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَىَ مَعَاذِيرَهُ
قد تقدم غير مرة أن المقسم عليه إذا كان منتفياً جاز الإتيان بلا قبل القسم لتأكيد النفي. والمقسم عليه ههنا هو إثبات المعاد والرد على ما يزعمه الجهلة من العباد ومن عدم بعث الأجساد, ولهذا قال تعالى: {لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة} قال الحسن: أقسم بيوم القيامة ولم يقسم بالنفس اللوامة, وقال قتادة: بل أقسم بهما جميعاً, هكذا حكاه ابن أبي حاتم: وقد حكى ابن جرير عن الحسن والأعرج أنهما قرءا {لأقسم بيوم القيامة} وهذا يوجه قول الحسن لأنه أثبت القسم بيوم القيامة ونفى القسم بالنفس اللوامة, والصحيح أنه أقسم بهما جميعاً كما قاله قتادة رحمه الله, وهو المروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير, واختاره ابن جرير, فأما يوم القيامة فمعروف وأما النفس اللوامة فقال قرة بن خالد عن الحسن البصري في هذه الاَية: إن المؤمن والله ما نراه إلا يلوم نفسه. ما أردت بكلمتي, ما أردت بأكلتي, ما أردت بحديث نفسي, وإن الفاجر يمضي قدماً ما يعاتب نفسه, وقال جويبر: بلغنا عن الحسن أنه قال في قوله: {ولا أقسم بالنفس اللوامة} قال: ليس أحد من أهل السموات والأرضين إلا يلوم نفسه يوم القيامة. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبد الله بن صالح بن مسلم عن إسرائيل عن سماك أنه سأل عكرمة عن قوله: {ولا أقسم بالنفس اللوامة} قال: يلوم على الخير والشر لو فعلت كذا وكذا, ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن وكيع عن إسرائيل به, وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا مؤمل, حدثنا سفيان عن ابن جريج عن الحسن بن مسلم عن سعيد بن جبير في قوله: {ولا أقسم بالنفس اللوامة} قال: تلوم على الخير والشر, ثم رواه من وجه آخر عن سعيد أنه سأل ابن عباس عن ذلك فقال: هي النفس اللؤوم, وقال علي بن أبي نجيح عن مجاهد تندم على ما فات وتلوم عليه, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: اللوامة المذمومة, وقال قتادة {اللوامة} الفاجرة. وقال ابن جرير: وكل هذه الأقوال متقاربة بالمعنى والأشبه بظاهر التنزيل أنها التي تلوم صاحبها على الخير والشر وتندم على ما فات.
وقوله تعالى: {أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه} أي يوم القيامة أيظن أنا لا نقدر على إعادة عظامه وجمعها من أماكنها المتفرقة {بلى قادرين على أن نسوي بنانه} وقال سعيد بن جبير والعوفي عن ابن عباس: أن نجعله خفاً أو حافراً, وكذا قال مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والضحاك وابن جرير, ووجهه ابن جرير بأنه تعالى لو شاء لجعل ذلك في الدنيا, والظاهر من الاَية أن قوله تعالى: {قادرين} حال من قوله تعالى: {نجمع} أي أيظن الإنسان أنا لا نجمع عظامه ؟ بل سنجمعها قادرين على أن نسوي بنانه أي قدرتنا صالحة لجمعها, ولو شئنا بعثناه أزيد مما كان فنجعل بنانه وهي أطراف أصابعه مستوية, وهذا معنى قول ابن قتيبة والزجاج. وقوله: {بل يريد الإنسان ليفجر أمامه} قال سعيد عن ابن عباس: يعني يمضي قدماً, وقال العوفي عن ابن عباس {ليفجر أمامه} يعني الأمل, يقول الإنسان أعمل ثم أتوب قبل يوم القيامة, ويقال: هو الكفر بالحق بين يدي القيامة. وقال مجاهد {ليفجر أمامه} ليمضي أمامه راكباً رأسه, وقال الحسن: لا يُلقى ابن آدم إلا تنزع نفسه إلى معصية الله قدماً قدماً إلا من عصمه الله تعالى, وروي عن عكرمة وسعيد بن جبير والضحاك والسدي وغير واحد من السلف: هو الذي يعجل الذنوب ويسوف التوبة, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هو الكافر يكذب بيوم الحساب, وكذا قال ابن زيد وهذا هو الأظهر من المراد, ولهذا قال بعده {يسأل أيان يوم القيامة ؟} أي يقول متى يكون يوم القيامة وإنما سؤاله سؤال استبعاد لوقوعه وتكذيب لوجوده كما قال تعالى: {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين * قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون}.
وقال تعالى ههنا: {فإذا برق البصر} قرأ أبو عمرو بن العلاء برق بكسر الراء أي حار, وهذا الذي قاله شبيه بقوله تعالى: {لا يرتد إليهم طرفهم} أي بل ينظرون من الفزع هكذا وهكذا لا يستقر لهم بصر على شيء من شدة الرعب, وقرأ آخرون برق بالفتح وهو قريب في المعنى من الأول, والمقصود أن الأبصار تنبهر يوم القيامة وتخشع وتحار وتذل من شدة الأهوال ومن عظم ما تشاهده يوم القيامة من الأمور. وقوله تعالى: {وخسف القمر} أي ذهب ضوؤه {وجمع الشمس والقمر} قال مجاهد: كورا, وقرأ ابن زيد عند تفسير هذه الاَية {إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت} وروي عن ابن مسعود أنه قرأ {وجمع بين الشمس والقمر}. وقوله تعالى: {يقول الإنسان يومئذ أين المفر} أي إذا عاين ابن آدم هذه الأهوال يوم القيامة حينئذ يريد أن يفر ويقول أين المفر أي هل من ملجأ أو موئل, قال الله تعالى: {كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر} قال ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف: أي لا نجاة, وهذه الاَية كقوله تعالى: {مالكم من ملجأ يومئذ ومالكم من نكير} أي ليس لكم مكان تتنكرون فيه, وكذا قال ههنا: {لا وزر} أي ليس لكم مكان تعتصمون فيه, ولهذا قال: {إلى ربك يومئذ المستقر} أي المرجع والمصير.
ثم قال تعالى: {ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر} أي يخبر بجميع أعماله قديمها وحديثها, أولها وآخرها, صغيرها وكبيرها, كما قال تعالى: {ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحد} وهكذا قال ههنا: {بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره} أي هو شهيد على نفسه عالم بما فعله ولو اعتذر وأنكر, وكما قال تعالى: {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيب} وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {بل الإنسان على نفسه بصيرة} يقول: سمعه وبصره ويداه ورجلاه وجوارحه. وقال قتادة: شاهد على نفسه وفي رواية قال: إذا شئت والله رأيته بصيراً بعيوب الناس وذنوبهم غافلاً عن ذنوبه. وكان يقال: إن في الإنجيل مكتوباً يا ابن آدم تبصر القذاة في عين أخيك وتترك الجِذْل في عينك لا تبصره!.
وقال مجاهد: {ولو ألقى معاذيره} ولو جادل عنها فهو بصير عليها. وقال قتادة {ولو ألقى معاذيره} ولو اعتذر يومئذ بباطل لا يقبل منه. وقال السدي {ولو ألقى معاذيره} حجته. وكذا قال ابن زيد والحسن البصري وغيرهم واختاره ابن جرير. وقال قتادة عن زرارة عن ابن عباس {ولو ألقى معاذيره} يقول: لو ألقى ثيابه. وقال الضحاك: ولو ألقى ستوره وأهل اليمن يسمون الستر العذار. والصحيح قول مجاهد وأصحابه كقوله تعالى: {يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون} وقال العوفي عن ابن عباس {ولو ألقى معاذيره} هي الاعتذار ألم تسمع أنه قال {لا ينفع الظالمين معذرتهم} وقال {وألقوا إلى الله يومئذ السلم} {فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء} وقولهم {والله ربنا ما كنا مشركين}.