تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 582 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 582

582 : تفسير الصفحة رقم 582 من القرآن الكريم

( سورة النبأ )

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَمَّ يَتَسَاءلُونَ {1} عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ {2} الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ {3}
كَلَّا سَيَعْلَمُونَ {4} ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ {5} أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً {6}
وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً {7} وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً {8} وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً
{9} وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً {10} وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً {11} وَبَنَيْنَا
فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً {12} وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً {13} وَأَنزَلْنَا
مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً {14} لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً {15} وَجَنَّاتٍ
أَلْفَافاً {16}

مقدمة تفسير سورة النبأ بسم الله الرحمن الرحيم سورة النبأ وهي
مكية يقول تعالى منكرا على المشركين في تساؤلهم عن يوم القيامة إنكارا لوقوعها ( عم يتساءلون عن النبإ العظيم ) أي عن أي شيء يتساءلون عن أمر القيامة وهو النبأالعظيم يعني الخبر الهائل المفظع الباهر قال قتادة وبن زيد النبأ العظيم البعث بعد الموت وقال مجاهد هو القرآن والأظهر الأول لقوله ( الذي هم فيه مختلفون ) يعني الناس فيه على قولين مؤمن به وكافر ثم قال تعالى متوعدا لمنكري القيامة ( كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون ) وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد ثم شرع تبارك وتعالى يبين قدرته العظيمة على خلق الأشياء الغريبة والأمور العجيبة الدالة على قدرته على ما يشاء من أمر المعاد وغيره فقال ( ألم نجعل الأرض مهادا ) أي ممهدة للخلائق ذلولا لهم قارة ساكنة ثابتة ( والجبال أوتادا ) أي جعلها لها أوتادا أرساها بها وثبتها وقررها حتى سكنت ولم تضطرب بمن عليها ثم قال تعالى ( وخلقناكم أزواجا ) يعني ذكرا وأنثى يتمتع كل منهما بالآخر ويحصل التناسل بذلك كقوله ( ومن أياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) وقوله تعالى ( وجعلنا نومكم سباتا ) أي قطعا للحركة لتحصل الراحة من كثرة الترداد والسعي في المعايش في عرض النهار وقد تقدم مثل هذه الأية في سورة الفرقان ( وجعلنا الليل لباسا ) أي يغشي الناس ظلامه وسواده كما قال ( والليل إذا يغشاها ) وقال الشاعر
فلما لبسن الليل أو حين نصبت له من خذا آذانها وهو جانح
وقال قتادة في قوله تعالى ( وجعلنا الليل لباسا ) أي سكنا وقوله تعالى ( وجعلنا النهار معاشا ) أي جعلناه مشرقا نيرا مضيئا ليتمكن الناس من التصرف فيه والذهاب والمجيء للمعاش والتكسب والتجارات وغير ذلك وقوله تعالى ( وبنينا فوقكم سبعا شدادا ) يعني السماوات السبع في اتساعها وارتفاعها وإحكامها وإتقانها وتزيينها بالكواكب الثوابت والسيارات ولهذا قال تعالى ( وجعلنا سراجا وهاجا ) يعني الشمس المنيرة على جميع العالم التي يتوهج ضوؤها لأهل الأرض كلهم وقوله تعالى ( وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا ) قال العوفي عن بن عباس المعصرات الريح وقال بن أبي حاتم ثنا أبو سعيد ثنا أبو داود الحفري عن سفيان عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن بن عباس ( وأنزلنا من المعصرات ) قال الرياح وكذا قال عكرمة ومجاهد وقتادة ومقاتل والكلبي وزيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن أنها الرياح ومعنى هذا القول أنها تستدر المطر من السحاب وقال علي بن أبي طلحة عن بن عباس من المعصرات أي من السحاب وكذا قال عكرمة أيضا وأبو العالية والضحاك والحسن والربيع بن أنس والثوري واختاره بن جرير وقال الفراء هي السحاب التي تتحلب بالمطر ولم تمطر بعد كما يقال امرأة معصر إذا دنا حيضها ولم تحض وعن الحسن وقتادة من المعصرات يعني السماوات وهذا قول غريب والأظهر أن المراد بالمعصرات السحاب كما قال تعالى ( الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله ) أي من بينه وقوله جل وعلا ( ماء ثجاجا ) قال مجاهد وقتادة والربيع بن أنس ثجاجا منصبا وقال الثوري متتابعا وقال بن زيد كثيرا قال بن جرير ولا يعرف في كلام العرب في صفة الكثرة الثج وإنما الثج الصب المتتابع ومنه قول النبي أفضل الحج العج والثج يعني صب دماء البدن هكذا قال قلت وفي حديث المستحاضة حين قال لها رسول الله أنعت لك الكرسف يعني أن تحتشي بالقطن فقالت يا رسول الله هو أكثر من ذلك إنما أثج ثجا وهذا فيه دلالة على استعمال الثج في الصب المتتابع الكثير والله أعلم وقوله تعالى ( لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا ) أي لنخرج بهذا الماء الكثير الطيب النافع المبارك ( حبا ) يدخر للأناسي والأنعام ( ونباتا ) أي خضرا يؤكل رطبا ( وجنات ) أي بساتين وحدائق من ثمرات متنوعة وألوان مختلفة وطعوم وروائح متفاوتة وإن كان ذلك في بقعة واحدة من الأرض مجتمعا ولهذا قال ( وجنات ألفافا ) قال بن عباس وغيره ألفافا مجتمعة وهذه كقوله تعالى ( وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً {17} يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ
فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً {18} وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَاباً {19} وَسُيِّرَتِ
الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً {20} إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً {21} لِلْطَّاغِينَ
مَآباً {22} لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً {23} لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلَا شَرَاباً
{24} إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً {25} جَزَاء وِفَاقاً {26} إِنَّهُمْ كَانُوا
لَا يَرْجُونَ حِسَاباً {27} وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً {28} وَكُلَّ شَيْءٍ
أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً {29} فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً {30}
يخبر تعالى مخبرا عن يوم الفصل وهو يوم القيامة أنه مؤقت بأجل معدود لا يزاد عليه ولا ينقص منه ولا يعلم وقته على التعيين إلا الله عز وجل كما قال تعالى ( وما نؤخره إلا لأجل معدود ) ( يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا ) قال مجاهد زمرا زمرا قال بن جرير يعني تأتي كل أمة مع رسولها كقوله تعالى ( يوم ندعو كل أناس بإمامهم ) وقال البخاري 4935 ( يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا ) حدثنا محمد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله ما بين النفختين أربعون قالوا أربعون يوما قال أبيت قالوا أربعون شهرا قال أبيت قالوا أربعون سنة قال أبيت قال ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة ( وفتحت السماء فكانت أبوابا ) أي طرقا ومسالك لنزول الملائكة ( وسيرت الجبال فكانت سرابا ) كقوله تعالى ( وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب ) وكقوله تعالى ( وتكون الجبال كالعهن المنفوش ) وقال ها هنا ( فكانت سرابا ) أي يخيل إلى الناظر أنها شيء وليست بشيء وبعد هذا تذهب بالكلية فلاعين ولا أثر كما قال تعالى ( ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ) وقال تعالى ( ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة ) وقوله تعالى ( إن جهنم كانت مرصادا ) أي مرصدة معدة ( للطاغين ) وهم المردة العصاة المخالفون للرسل ( مآبا ) أي مرجعا ومنقلبا ومصيرا ونزلا وقال الحسن وقتادة في قوله تعالى ( إن جهنم كانت مرصادا ) يعني أنه لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز بالنار فإن كان معه جواز نجا وإلا احتبس وقال سفيان الثوري عليها ثلاث قناطر وقوله تعالى ( لابثين فيها أحقابا ) أي ماكثين فيها أحقابا وهي جمع حقب وهو المدة من الزمان وقد اختلفوا في مقداره فقال بن جرير عن بن حميد عن مهران عن سفيان الثوري عن عمار الدهني عن سالم بن أبي الجعد قال قال علي بن أبي طالب لهلال الهجري ما تجدون الحقب في كتاب الله المنزل قال نجده ثمانين سنة كل سنة اثنا عشر شهرا كل شهر ثلاثون يوما كل يوم ألف سنة وهكذا روي عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو وبن عباس وسعيد بن جبير وعمرو بن ميمون والحسن وقتادة والربيع بن أنس والضحاك وعن الحسن والسدي أيضا سبعون سنة كذلك وعن عبد الله بن عمرو الحقب أربعون سنة كل يوم منها كألف سنة مما تعدون رواهما بن أبي حاتم وقال بشير بن كعب ذكر لي أن الحقب الواحد ثلاثمائة سنة كل سنة اثنا عشر شهرا كل سنة ثلاثمائة وستون يوما كل يوم منها كألف سنة رواه بن جرير وبن أبي حاتم ثم قال بن أبي حاتم ذكر عن عمرو بن علي بن أبي بكر الأسفيدي حدثنا مروان بن معاوية الفزاري عن جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة عن النبي في قوله تعالى ( لابثين فيها أحقابا ) قال فالحقب شهر الشهر ثلاثون يوما والسنة اثنا عشر شهرا والسنة ثلاثمائة وستون يوما كل يوم منها ألف سنة مما تعدون فالحقب ثلاثون ألف ألف سنة وهذا حديث منكر جدا والقاسم هو والراوي عنه وهو جعفر بن الزبير كلاهما متروك وقال البزار 3503 حدثنا محمد بن مرداس حدثنا سليمان بن مسلم أبو العلاء قال سألت سليمان التيمي هل يخرج من النار أحد فقال حدثني نافع عن بن عمر عن النبي أنه قال والله لا يخرج من النار أحد حتى يمكث فيها أحقابا قال والحقب بضع وثمانون سنة كل سنة ثلاثمائة وستون يوما مما تعدون ثم قال سليمان بن مسلم بصري مشهور
وقال السدي ( لابثين فيها أحقابا ) سبعمائة حقب كل حقب سبعون سنة كل سنة ثلاثمائة وستون يوما كل يوم كألف سنة مما تعدون وقد قال مقاتل بن حيان أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى ( فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا ) وقال خالد بن معدان هذه الآية وقوله تعالى ( إلا ما شاء ربك ) في أهل التوحيد رواهما بن جرير ثم قال ويحتمل أن يكون قوله تعالى ( لابثين فيها أحقابا ) متعلقا بقوله تعالى ( لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا ) ثم يحدث الله لهم بعد ذلك عذابا من شكل آخر ونوع آخر ثم قال والصحيح أنها لا انقضاء لها كما قال قتادة والربيع بن أنس وقد قال قبل ذلك حدثني محمد بن عبد الرحيم البرقي حدثنا عمرو بن أبي سلمة عن زهير عن سالم سمعت الحسن يسأل عن قوله تعالى ( لابثين فيها أحقابا ) قال أما الأحقاب فليس لها عدة إلا الخلود في النار ولكن ذكروا أن الحقب سبعون سنة كل يوم منها كألف سنة مما تعدون وقال سعيد عن قتادة قال الله تعالى ( لابثين فيها أحقابا ) وهو ما لا انقطاع له وكلما مضى حقب جاء حقب بعده وذكر لنا أن الحقب ثمانون سنة وقال الربيع بن أنس ( لابثين فيها أحقابا ) لا يعلم عدة هذه الأحقاب إلا الله عز وجل وذكر لنا أن الحقب الواحد ثمانون سنة والسنة ثلاثمائة وستون يوما كل يوم كألف سنة مما تعدون رواهما أيضا بن جرير وقوله تعالى ( لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا ) أي لا يجدون في جهنم بردا لقلوبهم ولا شرابا طيبا يتغذون به ولهذا قال تعالى ( إلا حميما وغساقا ) قال أبو العالية استثنى من البرد الحميم ومن الشراب الغساق وكذا قال الربيع بن أنس فأما الحميم فهو الحار الذي قد انتهى حره وحموه والغساق هو ما اجتمع من صديد أهل النار وعرقهم ودموعهم وجروحهم فهو بارد لا يستطاع من برده ولا يواجه من نتنه وقد قدمنا الكلام على الغساق في سورة ص بما أغنى عن إعادته أجارنا الله من ذلك بمنه وكرمه قال بن جرير وقيل المراد بقوله ( لا يذوقون فيها بردا ) يعني النوم كما قال الكندي
بردت مراشفها علي فصدني عنها وعن قبلاتها البرد
يعني بالبرد النعاس والنوم هكذا ذكره ولم يعزه إلى احد وقد رواه بن أبي حاتم من طريق السدي عن مرة الطيب ونقله عن مجاهد أيضا وحكاه البغوي عن أبي عبيدة والكسائي أيضا وقوله تعالى ( جزاءا وفاقا ) أي هذا الذي صاروا إليه من هذه العقوبة وفق أعمالهم الفاسدة التي كانوا يعملونها في الدنيا قاله مجاهد وقتادة وغير واحد ثم قال تعالى ( إنهم كانوا لا يرجون حسابا ) أي لم يكونوا يعتقدون أن ثم دارا يجازون فيها ويحاسبون ( وكذبوا بآياتنا كذابا ) أي وكانوا يكذبون بحجج الله ودلائله على خلقه التي أنزلها على رسله صلى الله عليهم وسلم فيقابلونها بالتكذيب والمعاندة وقوله ( كذابا ) أي تكذيبا وهو مصدر من غير الفعل قالوا وقد سمع أعرابي يستفتي الفراء على المروة الحلق أحب إليك أو القصار وأنشد بعضهم
لقد طال ما ثبطتني عن صحابتي وعن حوج قصارها من شفائيا
وقوله تعالى ( وكل شيء أحصيناه كتابا ) أي وقد علمنا أعمال العباد كلهم وكتبناها عليهم وسنجزيهم على ذلك إن خيرا فخير وإن شرا فشر وقوله تعالى ( فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا ) أي يقال لأهل النار ذوقوا ما أنتم فيه فلن نزيدكم إلا عذابا من جنسه ( وآخر من شكله أزواج ) قال قتادة عن أبي أيوب الأزدي عن عبد الله بن عمرو قال لم ينزل على أهل النار آية أشد من هذه الآية ( فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا ) قال فهم في مزيد من العذاب أبدا وقال بن أبي حاتم حدثنا محمد بن محمد بن مصعب الصوري حدثنا خالد بن عبد الرحمن حدثنا جسر بن فرقد عن الحسن قال سألت أبا برزة الأسلمي عن أشد آية في كتاب الله على أهل النار قال سمعت رسول الله قرأ ( فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا ) قال هلك القوم بمعاصيهم الله عز وجل جسر بن فرقد ضعيف الحديث بالكلية