تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 583 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 583

583 : تفسير الصفحة رقم 583 من القرآن الكريم

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً {31} حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً {32} وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً {33} وَكَأْساً
دِهَاقاً {34} لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا كِذَّاباً {35} جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء
حِسَاباً {36}
يقول تعالى مخبرا عن السعداء وما أعد لهم تعالى من الكرامة والنعيم المقيم فقال تعالى ( إن للمتقين مفازا

قال بن عباس والضحاك متنزها وقال مجاهد وقتادة فازوا فنجوا من النار والأظهر ها هنا قول بن عباس لأنه قال بعده ( حدائق ) والحدائق البساتين من النخيل وغيرها ( وأعنابا وكواعب أترابا ) أي وحورا كواعب قال بن عباس ومجاهد وغير واحد ( كواعب ) أي نواهد يعنون أن ثديهن نواهد لم يتدلين لأنهن أبكار عرب أتراب أي في سن واحد كما تقدم بيانه في سورة الواقعة قال بن أبي حاتم حدثنا عبد الله بن أحمد بن عبد الرحمن الدستكي حدثني أبي عن أبي سفيان عبد الرحمن بن عبد الله بن تيم حدثنا عطية بن سليمان أبو الغيث عن أبي عبد الرحمن القاسم بن أبي القاسم الدمشقي عن أبي أمامة أنه سمعه يحدث عن النبي أنه قال إن قمص أهل الجنة لتبدو من رضوان الله وإن السحابة لتمر بهم فتناديهم يا أهل الجنة ماذا تريدون أن أمطركم حتى إنها لتمطرهم الكواعب الأتراب وقوله تعالى ( وكأسا دهاقا ) قال بن عباس مملوءة متتابعة وقال عكرمة صافية وقال مجاهد والحسن وقتادة وبن زيد ( دهاقا ) الملأى المترعة وقال مجاهد وسعيد بن جبير هي المتتابعة وقوله تعالى ( لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا ) كقوله ( لا لغو فيها ولا تأثيم ) أي ليس فيها كلام لاغ عار عن الفائدة ولا إثم كذب بل هي دار السلام وكل ما فيها سالم من النقص وقوله ( جزاء من ربك عطاء حسابا ) أي هذا الذي ذكرناه جازاهم الله به وأعطاهموه بفضله ومنه وإحسانه ورحمته عطاء حسابا أي كافيا وافيا سالما كثيرا تقول العرب أعطاني فأحسبني أي كفاني ومنه حسبي الله أي الله كافي
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ
مِنْهُ خِطَاباً {37} يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَّا يَتَكَلَّمُونَ
إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً {38} ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن
شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً {39} إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ
يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً {40}
يخبر تعالى عن عظمته وجلاله وأنه رب السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما وأنه الرحمن الذي شملت رحمته كل شيء وقوله تعالى ( لا يملكون منه خطابا ) أي لا يقدر أحد على ابتداء مخاطبته إلا بإذنه كقوله تعالى ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) وكقوله تعالى ( يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه ) وقوله تعالى ( يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون ) اختلف المفسرون في المراد بالروح ها هنا ما هو على أقوال أحدها ما رواه العوفي عن بن عباس أنهم أرواح بني آدم الثاني هم بنو آدم قاله الحسن وقتادة وقال قتادة هذا مما كان بن عباس يكتمه الثالث أنهم خلق من خلق الله على صور بني آدم وليسوا بملائكة ولابشر وهم يأكلون ويشربون قاله بن عباس ومجاهد وأبو صالح والأعمش الرابع هو جبريل قاله الشعبي وسعيد بن جبير والضحاك ويستشهد لهذا القول بقوله عز وجل ( نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين ) وقال مقاتل بن حيان الروح هو أشرف الملائكة وأقرب إلى الرب عز وجل وصاحب الوحي الخامس أنه القرآن قاله بن زيد كقوله ( وكذلك أوحينا روحا من امرنا ) الآية والسادس أنه ملك من الملائكة بقدر جميع المخلوقات قال علي بن أبي طلحة عن بن عباس قوله ( يوم يقوم الروح ) قال هو ملك عظيم من أعظم الملائكة خلقا وقال بن جرير حدثني محمد بن خلف العسقلاني حدثنا رواد بن الجراح عن أبي حمزة عن الشعبي عن علقمة عن بن مسعود قال الروح في السماء الرابعة هو أعظم من السماوات ومن الجبال ومن الملائكة يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة يخلق الله تعالى من كل تسبيحة ملكا من الملائكة يجيء يوم القيامة صفا وحده وهذا قول غريب جدا وقد قال الطبراني 1111476 حدثنا محمد بن عبد الله بن عرس المصري حدثنا وهب الله بن روق بن هبيرة حدثنا بشر بن بكر حدثنا الأوزاعي حدثني عطاء عن عبد الله بن عباس سمعت رسول الله يقول إن لله ملكا لو قيل له التقم السماوات السبع والأرضين بلقمة واحدة لفعل تسبيحه سبحانك حيث كنت وهذا حديث غريب جدا وفي رفعه نظر وقد يكون موقوفا على بن عباس ويكون مما تلقاه من الإسرائيليات والله أعلم
وتوقف بن جرير فلم يقطع بواحد من هذه الأقوال كلها والأشبه عندي والله أعلم أنهم بنو آدم وقوله تعالى ( إلا من أذن له الرحمن ) كقوله ( يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه ) وكما ثبت في الصحيح ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل وقوله تعالى ( وقال صوابا ) أي حقا ومن الحق لاإله إلا الله كما قاله أبو صالح وعكرمة وقوله تعالى ( ذلك اليوم الحق ) أي الكائن لا محالة ( فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا ) أي مرجعا وطريقا يهتدي إليه ومنهجا يمر به عليه وقوله تعالى ( إنا أنذرناكم عذابا قريبا ) يعني يوم القيامة لتأكد وقوعه صار قريبا لأن كل ما هو آت آت ( يوم ينظر المرء ما قدمت يداه أي ) يعرض عليه جميع أعماله خيرها وشرها قديمها وحديثها كقوله تعالى ( ووجدوا ما عملوا حاضرا ) وكقوله تعالى ( ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر ) ( ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا ) أي يود الكافر يومئذ أنه كان في الدار الدنيا ترابا ولم يكن خلق ولا خرج إلى الوجود وذلك حين عاين عذاب الله ونظر إلى أعماله الفاسدة قد سطرت عليه بأيدي الملائكة السفرة الكرام البررة وقيل إنما يود ذلك حين يحكم الله بين الحيوانات التي كانت في الدنيا فيفصل بينها بحكمه العدل الذي لا يجور حتى إنه ليقتص للشاة الجماء من القرناء فإذا فرغ من الحكم بينها قال لها كوني ترابا فتصير ترابا فعند ذلك يقول الكافر ( يا ليتني كنت ترابا ) أي كنت حيوانا فأرجع إلى التراب وقد ورد معنى هذا في حديث الصور المشهور وورد فيه آثار عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو وغيرهما

( سورة النازعات )

مقدمة تفسير سورة النازعات
بسم الله الرحمن الرحيم سورة النازعات
وهي مكية
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً {1} وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً {2} وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً
{3} فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً {4} فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً {5} يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ
{6} تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ {7} قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ {8} أَبْصَارُهَا
خَاشِعَةٌ {9} يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ {10} أَئِذَا كُنَّا
عِظَاماً نَّخِرَةً {11} قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ {12} فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ
وَاحِدَةٌ {13} فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ {14}
قال بن مسعود وبن عباس ومسروق وسعيد بن جبير وأبو صالح وأبو الضحى والسدي ( والنازعات غرقا ) الملائكة يعنون حين تنزع أرواح بني أدم فمنهم من تأخذ روحه بعسر فتغرق في نزعها ومنهم من تأخذ روحه بسهولة وكأنما حلته من نشاط وهو قوله ( والناشطات نشطا ) قاله بن عباس وعن بن عباس ( والنازعات ) هي أنفس الكفار تنزع ثم تنشط ثم تغرق في النار رواه بن أبي حاتم وقال مجاهد ( والنازعات غرقا ) الموت وقال الحسن وقتادة ( والنازعات غرقا والناشطات نشطا ) هي النجوم وقال عطاء بن أبي رباح في قوله تعالى ( والنازعات والناشطات ) هي القسي في القتال والصحيح الأول وعليه الأكثرون وأما قوله تعالى ( والسابحات سبحا ) فقال بن مسعود هي الملائكة وروي عن علي ومجاهد وسعيد بن جبير وأبي صالح مثل ذلك وعن مجاهد ( والسابحات سبحا ) الموت وقال قتادة هي النجوم وقال عطاء بن أبي رباح هي السفن وقوله تعالى ( فالسابقات سبقا ) روي عن علي ومسروق ومجاهد وأبي صالح والحسن البصري يعني الملائكة قال الحسن سبقت إلى الإيمان والتصديق به وعن مجاهد الموت وقال قتادة هي النجوم وقال عطاء هي الخيل في سبيل الله وقوله تعالى ( فالمدبرات أمرا ) قال علي ومجاهد وعطاء وأبو صالح والحسن وقتادة والربيع بن أنس والسدي هي الملائكة زاد الحسن تدبر الأمر من السماء إلى الأرض يعني بأمر ربها عز وجل ولم يختلفوا في هذا ولم يقطع بن جرير بالمراد في شيء من ذلك إلا أنه حكى في المدبرات أمرا أنها الملائكة ولا أثبت ولا نفى وقوله تعالى ( يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة ) قال بن عباس هما النفختان الأولى والثانية وهكذا قال مجاهد والحسن وقتادة والضحاك وغير واحد وعن مجاهد أما الأولى وهي قوله جل وعلا ( يوم ترجف الراجفة ) فكقوله جلت عظمته ( يوم ترجف الأرض والجبال ) والثانية وهي الرادفة فهي كقوله ( وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة ) وقد قال الإمام أحمد حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن أبي الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه فقال رجل يا رسول الله أرأيت إن جعلت صلاتي كلها عليك قال إذا يكفيك الله ما أهمك من دنياك وآخرتك وقد روى الترمذي 2457 وبن جرير وبن أبي حاتم من حديث سفيان الثوري بإسناده مثله ولفظ الترمذي وبن أبي حاتم كان رسول الله إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال يا أيها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه وقوله تعالى ( قلوب يومئذ واجفة ) قال بن عباس يعني خائفة وكذا قال مجاهد وقتادة ( أبصارها خاشعة ) أي أبصار أصحابها وإنما أضيف إليها للملابسة أي ذليلة حقيرة مما عاينت من الأهوال وقوله تعالى ( يقولون أئنا لمردودون في الحافرة ) يعني مشركي قريش ومن قال بقولهم في إنكار المعاد يستبعدون وقوع البعث بعد المصير إلى الحافرة وهي القبور قاله مجاهد وبعد تمزق أجسادهم وتفتت عظامهم ونخورها ولهذا قالوا ( أئذا كنا عظاما نخرة ) وقرىء ( ناخرة ) وقال بن عباس ومجاهد وقتادة أي بالية قال بن عباس وهو العظم إذا بلي ودخلت الريح فيه ( قالوا تلك إذا كرة خاسرة ) وعن بن عباس ومحمد بن كعب وعكرمة وسعيد بن جبير وأبي مالك والسدي وقتادة الحافرة الحياة بعد الموت وقال بن زيد الحافرة النار وما أكثر أسماءها هي النار والجحيم وسقر وجهنم والهاوية والحافرة ولظى والحطمة وأما قولهم ( تلك إذا كرة خاسرة ) فقال محمد بن كعب قالت قريش لئن أحيانا الله بعد أن نموت لنخسرن قال الله تعالى ( فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة ) أي فإنما هو أمر من الله لا مثنوية فيه ولا تأكيد فإذا الناس قيام ينظرون وهو أن يأمر الله تعالى إسرافيل فينفخ في الصور نفخة البعث فإذا الأولون والآخرون قيام بين يدي الرب عز وجل ينظرون كما قال تعالى ( يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا ) وقال تعالى ( وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر ) وقال تعالى ( وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب ) قال مجاهد ( فإنما هي زجرة واحدة صيحة ) واحدة وقال إبراهيم التيمي أشد ما يكون الرب عز وجل غضبا على خلقه يوم يبعثهم وقال الحسن البصري زجرة من الغضب وقال أبو مالك والربيع بن أنس زجرة واحدة هي النفخة الآخرة وقوله تعالى ( فإذا هم بالساهرة ) قال بن عباس الساهرة الأرض كلها وكذا قال سعيد بن جبير وقتادة وأبو صالح وقال عكرمة والحسن والضحاك وبن زيد الساهرة وجه الأرض وقال مجاهد كانوا بأسفلها فأخرجوا إلى أعلاها قال والساهرة المكان المستوي وقال الثوري الساهرة أرض الشام وقال عثمان بن أبي العاتكة الساهرة أرض بيت المقدس وقال وهب بن منبه الساهرة جبل إلى جانب بيت المقدس وقال قتادة أيضا الساهرة جهنم وهذه أقوال كلها غريبة والصحيح أنها الأرض وجهها الأعلى وقال بن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا خزر بن المبارك الشيخ الصالح حدثنا بشر بن السري حدثنا مصعب بن ثابت عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي ( فإذا هم بالساهرة ) قال أرض بيضاء عفراء خالية كالخبزة النقي وقال الربيع بن أنس ( فإذا هم بالساهرة ) يقول الله عز وجل ( يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار ) ويقول تعالى ( ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ) وقال تعالى ( ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة ) وبرزت الأرض التي عليها الجبال وهي لا تعد من هذه الأرض وهي أرض لم يعمل عليها خطيئة ولم يهرق عليها دم