تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 593 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 593

593 : تفسير الصفحة رقم 593 من القرآن الكريم

 ( سورة الفجر )

الآيات ( 89 1 14 )
مقدمة تفسير سورة الغاشية ولله الحمد والمنة تفسير سورة الفجر
قال النسائي 11673 أخبرنا عبد الوهاب بن الحكم أخبرني يحيى بن سعيد عن سليمان عن محارب بن دثار وأبي صالح عن جابر قال صلى معاذ صلاة فجاء رجل فصلى معه فطول فصلى في ناحية المسجد ثم انصرف فبلغ ذلك معاذا فقال منافق فذكر ذلك لرسول الله فسأل الفتى فقال يا رسول الله جئت أصلي معه فطول علي فانصرفت وصليت في ناحية المسجد فعلفت ناقتي فقال رسول الله أفتان يامعاذ أين أنت من سبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها والفجر والليل إذا يغشى بسم الله الرحمن الرحيم
أما الفجر فمعروف وهو الصبح قاله علي وبن عباس وعكرمة ومجاهد والسدي وعن مسروق ومحمد بن كعب المراد به فجر يوم النحر خاصة وهو خاتمة الليالي العشر وقيل المراد بذلك الصلاة التي تفعل عنده كما قاله عكرمة وقيل المراد به جميع النهار وهو رواية عن بن عباس ( والليالي العشر ) المراد بها عشر ذي الحجة كما قاله بن عباس وبن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف وقد ثبت في صحيح البخاري 969 عن بن عباس مرفوعا ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام يعني عشر ذي الحجة قالوا ولا الجهاد في سبيل الله قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلا خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء وقيل المراد بذلك العشر الأول من المحرم حكاه أبو جعفر بن جرير ولم يعزه إلى أحد وقد روى أبو كدينة عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن بن عباس ( وليال عشر ) قال هو العشر الأول من رمضان والصحيح القول الأول قال الإمام أحمد 3327 حدثنا زيد بن الحباب حدثنا عياش بن عقبة حدثني خير بن نعيم عن أبي الزبير عن جابر عن النبي قال إن العشر عشر الأضحى والوتر يوم عرفة والشفع يوم النحر ورواه النسائي 11672 عن محمد بن رافع وعبدة بن عبد الله وكل منهما عن زيد بن الحباب به ورواه بن جرير وبن أبي حاتم من حديث زيد بن الحباب به وهذا إسناد رجاله لا بأس بهم وعندي أن المتن في رفعه نكارة والله أعلم وقوله تعالى ( والشفع والوتر ) قد تقدم في هذا الحديث أن الوتر يوم عرفة لكونه التاسع وأن الشفع يوم النحر لكونه العاشر وقاله بن عباس وعكرمة والضحاك أيضا قول ثان وقال بن ابي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثني عقبة بن خالد عن واصل بن السائب قال سألت عطاء عن قوله تعالى ( والشفع والوتر ) قلت صلاتنا وترنا هذا قال لا ولكن الشفع يوم عرفة والوتر ليلة الأضحى قول ثالث قال بن أبي حاتم حدثنا محمد بن عامر بن إبراهيم الأصبهاني حدثني أبي عن النعمان يعني بن عبد السلام عن أبي سعيد بن عوف حدثني بمكة قال سمعت عبد الله بن الزبير يخطب الناس فقام إليه رجل فقال يا أمير المؤمنين أخبرني عن الشفع والوتر فقال الشفع قول الله تعالى ( فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ) والوتر قوله تعالى ( ومن تأخر فلا إثم عليه ) وقال بن جريج أخبرني محمد بن المرتفع أنه سمع بن الزبير يقول الشفع أوسط أيام التشريق والوتر آخر أيام التشريق وفي الصحيحين من رواية أبي هريرة عن رسول الله إن لله تسعة وتسعين إسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر قول رابع قال الحسن البصري وزيد بن أسلم الخلق كلهم شفع ووتر أقسم تعالى بخلقه

وهو رواية عن مجاهد والمشهور عنه الأول وقال العوفي عن بن عباس ( والشفع والوتر ) قال الله وتر واحد وأنتم شفع ويقال الشفع صلاة الغداة والوتر صلاة المغرب قول خامس قال بن ابي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد ( والشفع والوتر ) قال الشفع الزوج والوتر الله عز وجل وقال أبو عبد الله عن مجاهد الله الوتر وخلقه الشفع الذكر والأنثى وقال بن أبي نجيح عن مجاهد قوله ( والشفع والوتر ) كل شيء خلقه الله شفع السماء والأرض والبر والبحر والجن والأنس والشمس والقمر ونحو هذا ونحا مجاهد في هذا ما ذكروه في قوله تعالى ( ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ) أي لتعلموا أن خالق الأزواج واحد قول سادس قال قتادة عن الحسن والشفع والوتر هو العدد منه شفع ومنه وتر قول سابع في الآية الكريمة رواه بن أبي حاتم وبن جرير من طريق بن جريج ثم قال بن جرير وروي عن النبي خبر يؤيد القول الذي ذكرنا عن أبي الزبير حدثني عبد الله بن أبي زياد القطواني حدثنا زيد بن الحباب أخبرني عياش بن عقبة حدثني خير بن نعيم عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله قال الشفع اليومان والوتر اليوم الثالث هكذا ورد هذا الخبر بهذا اللفظ وهو مخالف لما تقدم من اللفظ في رواية أحمد والنسائي وبن أبي حاتم وما رواه هو أيضا والله اعلم قال أبو العالية والربيع بن أنس وغيرهما هي الصلاة منها شفع كالرباعية والثنائية ومنها وتر كالمغرب فإنها ثلاث وهي وتر النهار وكذلك صلاة الوتر في آخر التهجد من الليل وقد قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن عمران بن حصين ( والشفع والوتر ) قال هي الصلاة المكتوبة منها شفع ومنها وتر وهذا منقطع وموقوف ولفظه خاص بالمكتوبة وقد روي متصلا مرفوعا إلى النبي ولفظه عام قال الإمام أحمد حدثنا أبو داود هو الطيالسي حدثنا همام عن قتادة عن عمران بن عصام أن شيخا حدثه من أهل البصرة عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم سئل عن الشفع والوتر فقال هي الصلاة بعضها شفع وبعضها وتر هكذا وقع في المسند وكذا رواه بن جرير عن بندار عن عفان وعن أبي كريب عن عبيد الله بن موسى كلاهما عن همام وهو بن يحيى عن قتادة عن عمران بن عصام عن شيخ عن عمران بن حصين وكذا رواه أبو عيسى الترمذي 3342 عن عمرو بن علي عن بن مهدي وأبي داود كلاهما عن همام عن قتادة عن عمران بن عصام عن رجل من أهل البصرة عن عمران بن حصين به ثم قال غريب لا نعرفه إلا من حديث قتادة وقد رواه خالد بن قيس أيضا عن قتادة وقد روي عن عمران بن عصام عن عمران نفسه والله أعلم قلت ورواه بن ابي حاتم حدثنا أحمد بن سنان الواسطي حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا همام عن قتادة عن عمران بن عصام الضبعي شيخ من أهل البصرة عن عمران بن حصين عن النبي فذكره هكذا رأيته في تفسيره فجعل الشيخ البصري هو عمران بن عصام وهكذا رواه بن جرير أخبرنا نصر بن علي حدثني أبي حدثني خالد بن قيس عن قتادة عن عمران بن عصام عن عمران بن حصين عن النبي في الشفع والوتر قال هي الصلاة منها شفع ومنها وتر فأسقط ذكر الشيخ المبهم وتفرد به عمران بن عصام الضبعي أبو عمارة البصري إمام مسجد بني ضبيعة وهو والد أبي جمرة نصر بن عمران الضبعي روى عنه قتادة وابنه أبو جمرة والمثنى بن سعيد وأبو التياح يزيد بن حميد وذكره بن حبان في كتاب الثقات وذكره خليفة بن خياط في التابعين من أهل البصرة وكان شريفا نبيلا حظيا عند الحجاج بن يوسف ثم قتله يوم الزاوية سنة ثلاث وثمانين لخروجه مع بن الأشعث وليس له عند الترمذي سوى هذا الحديث الواحد وعندي أن وقفه على عمران بن حصين أشبه والله أعلم ولم يجزم بن جرير بشيء من هذه الأقوال في الشفع والوتر وقوله تعالى ( والليل إذا يسر ) قال العوفي عن بن عباس أي إذا ذهب وقال عبد الله بن الزبير ( والليل إذا يسر ) حتى يذهب بعضه بعضا وقال مجاهد وأبو العالية وقتادة ومالك عن زيد بن أسلم وبن زيد ( والليل إذا يسر ) إذا سار وهذا يمكن حمله على ما قال بن عباس أي ذهب ويحتمل أن يكون المراد إذا سار أي أقبل وقد يقال إن هذا أنسب لأنه في مقابلة قوله ( والفجر ) فإن الفجر هو إقبال النهار وإدبار الليل فإذا حمل قوله ( والليل إذا يسر ) على إقباله كان قسما بإقبال الليل وإدبار النهار وبالعكس كقوله ( والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس ) وكذا قال الضحاك ( والليل إذا يسر ) أي
يجري وقال عكرمة ( والليل إذا يسر ) يعني ليلة جمع ليلة المزدلفة رواه بن جرير وبن أبي حاتم ثم قال بن أبي حاتم حدثنا أحمد بن عصام حدثنا أبو عامر عن كثير بن عبد الله بن عمرو قال سمعت محمد بن كعب القرظي يقول في قوله ( والليل إذا يسر ) قال أسر ياسار ولا تبين إلا بجمع وقوله تعالى ( هل في ذلك قسم لذي حجر ) أي لذي عقل ولب ودين وحجا وإنما سمي العقل حجرا لأنه يمنع الإنسان من تعاطي ما لا يليق به من الأفعال والأقوال ومنه حجر البيت لأنه يمنع الطائف من اللصوق بجداره الشامي ومنه حجر اليمامة وحجر الحاكم على فلان إذا منعه التصرف ( ويقولون حجرا محجورا ) كل هذا من قبيل واحد ومعنى متقارب وهذا القسم هو بأوقات العبادة وبنفس العبادة من حج وصلاة وغير ذلك من أنواع القرب التي يتقرب بها إليه عباده المتقون المطيعون له الخائفون منه المتواضعون لديه الخاشعون لوجهه الكريم ولما ذكر هؤلاء وعبادتهم وطاعتهم قال بعده ( ألم تر كيف فعل ربك بعاد ) وهؤلاء كانوا متمردين عتاة جبارين خارجين عن طاعته مكذبين لرسله جاحدين لكتبه فذكر تعالى كيف أهلكهم ودمرهم وجعلهم أحاديث وعبرا فقال ( ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد ) وهؤلاء عاد الأولى وهم ولد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح قاله بن إسحاق وهم الذين بعث الله فيهم رسوله هودا عليه السلام فكذبوه وخالفوه فأنجاه الله من بين أظهرهم ومن آمن معه منهم وأهلكهم بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية وقد ذكر الله قصتهم في القرآن في غير ما موضع ليعتبر بمصرعهم المؤمنون فقوله تعالى ( إرم ذات العماد ) عطف بيان زيادة تعريف بهم وقوله تعالى ( ذات العماد ) لأنهم كانوا يسكنون بيوت الشعر التي ترفع بالأعمدة الشداد وقد كانوا أشد الناس في زمانهم خلقة وأقواهم بطشا ولهذا ذكرهم هود بتلك النعمة وأرشدهم إلى أن يستعملوها في طاعة ربهم الذي خلقهم فقال ( واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) وقال تعالى ( فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من اشد منا قوة أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة ) وقال ها هنا ( التي لم يخلق مثلها في البلاد ) أي القبيلة التي لم يخلق مثلها في بلادهم لقوتهم وشدتهم وعظم تركيبهم قال مجاهد إرم أمة قديمة يعني عادا الأولى قال قتادة بن دعامة والسدي أن إرم بيت مملكة عاد وهذا قول حسن جيد قوي وقال مجاهد وقتادة والكلبي في قوله ( ذات العماد ) كانوا أهل عمد لا يقيمون وقال العوفي عن بن عباس إنما قيل لهم ذات العماد لطولهم واختار الأول بن جرير ورد الثاني فأصاب وقوله تعالى ( التي لم يخلق مثلها في البلاد ) أعاد بن زيد الضمير على العماد لارتفاعها وقال بنوا عمدا بالأحقاف لم يخلق مثلها في البلاد وأما قتادة وبن جرير فأعاد الضمير على القبيلة أي لم يخلق مثل تلك القبيلة في البلاد يعني في زمانهم وهذا القول هو الصواب وقول بن زيد ومن ذهب مذهبه ضعيف لأنه لو كان المراد ذلك لقال التي لم يعمل مثلها في البلاد وإنما قال ( لم يخلق مثلها في البلاد ) وقال بن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو صالح كاتب الليث حدثني معاوية بن صالح عمن حدثه عن المقدام عن النبي أنه ذكر إرم ذات العماد فقال كان الرجل منهم يأتي على الصخرة فيحملها على الحي فيهلكهم ثم قال بن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا أبو الطاهر حدثنا أنس بن عياض عن ثور بن زيد الديلي قال قرأت كتابا قد سمى حيث قرأه أنا شداد بن عاد وأنا الذي رفعت العماد وأنا الذي شددت بذراعي نظر واحد وأنا الذي كنزت كنزا على سبعة أذرع لا يخرجه إلا أمة محمد قلت فعلى كل قول سواء كانت العماد أبنية بنوها أو أعمدة بيوتهم للبدو أو سلاحا يقاتلون به أو طول الواحد منهم فهم قبيلة وأمة من الأمم وهم المذكورون في القرآن في غير ما موضع المقرونون بثمود كما ها هنا والله أعلم ومن زعم ان المراد بقوله ( إرم ذات العماد ) مدينة إما دمشق كما روي عن سعيد بن المسيب وعكرمة أو اسكندرية كما روي عن القرظي أو غيرهما ففيه نظر فإنه كيف يلتئم الكلام على هذا ( ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد ) إن جعل ذلك بدلا أو عطف بيان فإنه لا يتسق الكلام حينئذ ثم المراد إنما هو الإخبار عن إهلاك
القبيلة المسماة بعاد وما أحل الله بهم من بأسه الذي لا يرد لا أن المراد الإخبار عن مدينة أو إقليم وإنما نبهت على ذلك لئلا يغتر بكثير مما ذكره جماعة من المفسرين عند هذه الآية من ذكر مدينة يقال لها إرم ذات العماد مبنية بلبن الذهب والفضة قصورها ودورها وبساتينها وإن حصباءها لالىءوجواهر وترابها بنادق المسك وأنهارها سارحة وثمارها ساقطة ودورها لا أنيس بها وسورها وأبوابها تصفر ليس بها داع ولا مجيب وإنها تنتقل فتارة تكون بأرض الشام وتارة باليمن وتارة بالعراق وتارة بغير ذلك من البلاد فإن هذا كله من خرافات الإسرائيليين من وضع بعض زنادقتهم ليختبروا بذلك عقول الجهلة من الناس أن تصدقهم في جميع ذلك وذكر الثعلبي وغيره أن رجلا من الأعراب وهو عبد الله بن قلابة في زمان معاوية ذهب في طلب أباعر له شردت فبينما هو يتيه في ابتغائها إذ اطلع على مدينة عظيمة لها سور وأبواب فدخلها فوجد فيها قريبا مما ذكرناه من صفات المدينة الذهبية التي تقدم ذكرها وأنه رجع فأخبرالناس فذهبوا معه إلى المكان الذي قال فلم يروا شيئا وقد ذكر بن أبي حاتم قصة إرم ذات العماد ها هنا مطولة جدا فهذه الحكاية ليس يصح إسنادها ولو صح إلى ذلك الأعرابي فقد يكون اختلق ذلك أو أنه أصابه نوع من الهوس والخبال فاعتقد أن ذلك له حقيقة في الخارج وليس كذلك وهذا مما يقطع بعدم صحته وهذا قريب مما يخبر به كثير من الجهلة والطامعين والمتحيلين من وجود مطالب تحت الأرض فيها قناطير الذهب والفضة وألوان الجواهر واليواقيت واللالىء والأكسير الكبير لكن عليها موانع تمنع من الوصول إليها والأخذ منها فيحتالون على أموال الأغنياء والضعفة والسفهاء فيأكلونها بالباطل في صرفها في بخاخير وعقاقير ونحو ذلك من الهذيانات ويطنزون بهم والذي يجزم به أن في الأرض دفائن جاهلية وإسلامية وكنوزا كثيرة من ظفر بشيء منها أمكنه تحويله فأما على الصفة التي زعموها فكذب وافتراء وبهت ولم يصح في ذلك شيء مما يقولون إلا عن نقلهم أو نقل من أخذ عنهم والله سبحانه وتعالى الهادي للصواب وقول بن جرير يحتمل ان يكون المراد بقوله ( إرم ذات العماد ) قبيلة أو بلدة كانت عاد تسكنها فلذلك لم تصرف فيه نظر لأن المراد من السياق إنما هو الإخبار عن القبيلة ولهذا قال بعده ( وثمود الذين جابوا الصخر بالواد ) يعني يقطعون الصخر بالوادي قال بن عباس ينحتونها ويخرقونها وكذا قال مجاهد وقتاده والضحاك وبن زيد ومنه يقال مجتابي النمار إذا خرقوها واجتاب الثوب إذا فتحه ومنه الجيب أيضا وقال الله تعالى ( وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين ) وأنشد بن جرير وبن أبي حاتم ها هنا قول الشاعر
ألا كل شيء ما خلا الله بائد كما باد حي من شنيف ومارد

هم ضربوا في كل صماء صعدة بأيد شداد أيدات السواعد
وقال بن إسحاق كانوا عربا وكان منزلهم بوادي القرى وقد ذكرنا قصة عاد مستقصاة في سورة الأعراف بما أغنى عن إعادته وقوله تعالى ( وفرعون ذي الأوتاد ) قال العوفي عن بن عباس الأوتاد الجنود الذين يشدون له أمره ويقال كان فرعون يوتد أيديهم وأرجلهم في أوتاد من حديد يعلقهم بها وكذا قال مجاهد كان يوتد الناس بالأوتاد وهكذا قال سعيد بن جبير والحسن والسدي قال السدي كان يربط الرجل في كل قائمة من قوائمه في وتد ثم يرسل عليه صخرة عظيمة فيشدخه وقال قتادة بلغنا أنه كان له مظال وملاعب يلعب له تحتها من أوتاد وحبال وقال ثابت البناني عن أبي رافع قيل لفرعون ذي الأوتاد لأنه ضرب لامرأته أربعة أوتاد ثم جعل على ظهرها رحى عظيمة حتى ماتت وقوله تعالى ( الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد ) أي تمردوا وعتوا وعاثوا في الأرض بالإفساد والأذية للناس ( فصب عليهم ربك سوط عذاب ) أي أنزل عليهم رجزا من السماء وأحل بهم عقوبة لا يردها عن القوم المجرمين وقوله تعالى ( إن ربك لبالمرصاد ) قال بن عباس يسمع ويرى يعني يرصد خلقه فيما يعملون ويجازي كلا بسعيه في الدنيا والأخرى وسيعرض الخلائق كلهم عليه فيحكم فيهم بعدله ويقابل كلا بما يستحقه وهو المنزه عن الظلم والجور وقد ذكر بن أبي حاتم ها هنا حديثا غريبا جدا وفي إسناده نظر وفي صحته فقال حدثنا أبي حدثنا أحمد بن أبي الحواري حدثنا يونس الحذاء عن ابي حمزة البيساني عن معاذ بن جبل قال قال رسول الله يامعاذ إن المؤمن
لدى الحق أسير يا معاذ إن المؤمن لا يسكن روعه ولا يأمن اضطرابه حتى يخلف جسر جهنم خلف ظهره يامعاذ إن المؤمن قيده القرآن عن كثير من شهواته وعن أن يهلك فيها هو بإذن الله عز وجل فالقرآن دليله والخوف محجته والشوق مطيته والصلاة كهفه والصوم جنته والصدقة فكاكه والصدق أميره والحياء وزيره وربه عز وجل من وراء ذلك كله بالمرصاد قال بن أبي حاتم يونس الحذاء وأبو حمزة مجهولان وأبو حمزة عن معاذ مرسل ولو كان عن أبي حمزة لكان حسنا أي لو كان من كلامه لكان حسنا ثم قال بن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا صفوان بن صالح حدثنا الوليد بن مسلم عن صفوان بن عمرو عن أيفع عن بن عبد الكلاعي أنه سمعه وهو يعظ الناس يقول إن لجهنم سبع قناطر قال والصراط عليهن قال فيحبس الخلائق عند القنطرة الأولى فيقول ( قفوهم إنهم مسؤولون ) قال فيحاسبون على الصلاة ويسئلون عنها قال فيهلك فيها من هلك وينجو من نجا فإذا بلغوا القنطرة الثانية حوسبوا على الأمانة كيف أدوها وكيف خانوها قال فيهلك من هلك وينجو من نجا فإذا بلغوا القنطرة الثالثة سئلوا عن الرحم كيف وصلوها وكيف قطعوها قال فيهلك من هلك وينجو من نجا قال والرحم يومئذ متدلية إلى الهوى في جهنم تقول اللهم من وصلني فصله ومن قطعني فاقطعه قال وهي التي يقول الله عز وجل ( إن ربك لبالمرصاد ) هكذا أورد هذا الأثر ولم يذكر تمامه
الآيات ( 89 15 20 )
يقول تعالى منكرا على الإنسان في اعتقاده إذا وسع الله تعالى عليه في الرزق ليختبره في ذلك فيعتقد أن ذلك من الله إكرام له وليس كذلك بل هو ابتلاء وامتحان كما قال تعالى ( أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ) وكذلك في الجانب الآخر إذا ابتلاه وامتحنه وضيق عليه في الرزق يعتقد أن ذلك من الله إهانة له كما قال الله تعالى ( كلا ) أي ليس الأمر كما زعم لا في هذا ولا في هذا فإن الله تعالى يعطي المال من يحب ومن لا يحب ويضيق على من يحب ومن لا يحب وإنما المدار في ذلك على طاعة الله في كل من الحالين إذا كان غنيا بأن يشكر الله على ذلك وإذا كان فقيرا بأن يصبر وقوله تعالى ( بل لا تكرمون اليتيم ) فيه أمر بالإكرام له كما جاء في الحديث الذي رواه عبد الله بن المبارك عن سعيد بن أيوب عن يحيى بن أبي سليمان عن يزيد بن أبي عتاب عن أبي هريرة عن النبي خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه ثم قال بأصبعه أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وقال أبو داود 5150 حدثنا محمد بن الصباح بن سفيان أخبرنا عبد العزيز يعني بن أبي حازم حدثني أبي عن سهل يعني بن سعيد أن رسول الله قال أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة وقرن بين أصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام ( ولا تحاضون على طعام المسكين ) يعني لا يأمرون بالإحسان إلى الفقراء والمساكين ويحث بعضهم على بعض في ذلك ( وتأكلون التراث ) يعني الميراث ( أكلا لما ) أي من أي جهة حصل لهم من حلال أو حرام ( وتحبون المال حبا جما ) أي كثيرا زاد بعضهم فاحشا
الآيات ( 89 21 30 )
يخبر تعالى عما يقع يوم القيامة من الأهوال العظيمة فقال تعالى ( كلا ) أي حقا ( إذا دكت الأرض دكا دكا ) أي وطئت ومهدت وسويت الأرض والجبال وقام الخلائق من قبورهم لربهم ( وجاء ربك ) يعني لفصل القضاء بين خلقه وذلك بعد ما يستشفعون إليه بسيد ولد آدم على الإطلاق محمد صلوات الله وسلامه عليه بعد ما يسألون أولي العزم من الرسل واحدا بعد واحد فكلهم يقول لست بصاحب ذاكم حتى تنتهي النوبة إلى محمد فيقول أنا لها أنا لها فيذهب فيشفع عند الله تعالى في أن يأتي لفصل القضاء فيشفعه الله تعالى في ذلك وهي أول الشفاعات وهي المقام المحمود كما تقدم بيانه في سورة سبحان فيجيء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء كما يشاء والملائكة يجيئون بين يديه صفوفا صفوفا وقوله تعالى ( وجيء يومئذ بجهنم ) قال الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه 2842 حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي عن العلاء بن خالد الكاهلي عن شقيق عن عبد الله هو بن مسعود قال قال رسول الله يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها وهكذا رواه الترمذي 2573 عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي عن عمر بن حفص به ورواه أيضا 2573 عن عبد بن حميد عن أبي عامر عن سفيان الثوري عن العلاء بن خالد عن شقيق بن سلمة وهو أبو وائل عن عبد الله بن مسعود قوله ولم يرفعه وكذا رواه بن جرير عن الحسن بن عرفة عن مروان بن معاوية الفزاري عن العلاء بن خالد عن شقيق عن عبد الله قوله وقوله تعالى ( يومئذ يتذكر الإنسان ) أي عمله وما كان أسلفه في قديم دهره وحديثه ( وأنى له الذكرى ) أي وكيف تنفعه الذكرى ( يقول يا ليتني قدمت لحياتي ) يعني يندم على ما كان سلف منه من المعاصي إن كان عاصيا ويود لو كان ازداد من الطاعات إن كان طائعا كما قال الإمام أحمد بن حنبل 4185 حدثنا علي بن إسحاق حدثنا عبد الله يعني بن المبارك حدثنا ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن محمد بن أبي عميرة وكان من أصحاب رسول الله قال لو أن عبدا خر على وجهه من يوم ولد إلى أن يموت هرما في طاعة الله لحقره يوم القيامة ولود أنه رد إلى الدنيا كيما يزداد من الأجر والثواب قال الله تعالى ( فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ) أي ليس أحد أشد عذابا من تعذيب الله من عصاه ( ولا يوثق وثاقه أحد ) أي وليس أحد أشد قبضا ووثقا من الزبانية لمن كفر بربهم عز وجل وهذا في حق المجرمين من الخلائق والظالمين فأما النفس الزكية المطمئنة وهي الساكنة الثابتة الدائرة مع الحق فيقال لها ( يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك ) أي إلى جواره وثوابه وما أعد لعباده في جنته ( راضية ) أي في نفسها ( مرضية ) أي قد رضيت عن الله ورضي عنها وأرضاها ( فادخلي في عبادي ) أي في جملتهم ( وادخلي جنتي ) وهذا يقال لها عند الاحتضار وفي يوم القيامة أيضا كما أن الملائكة يبشرون المؤمن عند احتضاره وعند قيامه من قبره فكذلك ها هنا ثم اختلف المفسرون فيمن نزلت هذه الآية فروى الضحاك عن بن عباس نزلت في عثمان بن عفان وعن بريدة بن الحصيب نزلت في حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وقال العوفي عن بن عباس يقال للأرواح المطمئنة يوم القيامة ( يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك ) يعني صاحبك وهو بدنها الذي كانت تعمره في الدنيا ( راضية مرضية ) وروي عنه أنه كان يقرؤها ( فادخلي في عبادي وادخلي جنتي ) وكذا قال عكرمة والكلبي واختاره بن جرير وهو غريب والظاهر الأول لقوله تعالى ( ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ) ( وأن مردنا إلى الله ) أي إلى حكمه والوقوف بين يديه وقال بن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن عبد الله الدشتكي حدثني أبي عن أبيه عن أشعث عن جعفر عن سعيد بن جبير عن بن عباس في قوله تعالى ( يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية ) قال نزلت وأبو بكر جالس فقال يا رسول الله ما أحسن هذا فقال أما إنه سيقال لك هذا ثم قال حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا بن يمان عن أشعث عن سعيد بن جبير قال قرأت عند النبي ( يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية ) فقال أبو بكر رضي الله عنه إن هذا لحسن فقال له النبي أما إن الملك
سيقول لك هذا عند الموت وكذا رواه بن جرير عن أبي كريب عن بن يمان به وهذا مرسل حسن ثم قال بن أبي حاتم وحدثنا الحسن بن عرفة حدثنا مروان بن شجاع الجزري عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال مات بن عباس بالطائف فجاء طير لم ير على خلقته فدخل نعشه ثم لم ير خارجا منه فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر لا يدرى من تلاها ( يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي ) ورواه الطبراني 1010581 عن عبد الله بن أحمد عن أبيه عن مروان بن شجاع عن سالم بن عجلان الأفطس به فذكره وقد ذكر الحافظ محمد بن المنذر الهروي المعروف بشكر في كتاب العجائب بسنده عن قباث بن رزين أبي هاشم قال أسرت في بلاد الروم فجمعنا الملك وعرض علينا دينه على أن من امتنع ضربت عنقه فارتد ثلاثة وجاء الرابع فامتنع فضربت عنقه وألقي رأسه في نهر هناك فرسب في الماء ثم طفا على وجه الماء ونظر إلى أولئك الثلاثة فقال يا فلان ويا فلان ويا فلان يناديهم بأسمائهم قال الله تعالى في كتابه ( يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي ) ثم غاص في الماء قال فكادت النصارى أن يسلموا ووقع سرير الملك ورجع أولئك الثلاثة إلى الإسلام قال وجاء الفداء من عند الخليفة أبي جعفر المنصور فخلصنا وروى الحافظ بن عساكر في ترجمة رواحة بنت أبي عمرو الأوزاعي عن أبيها حدثني سليمان بن حبيب المحاربي حدثني أبو أمامة أن رسول الله قال لرجل قل اللهم إني أسألك نفسا بك مطمئنة تؤمن بلقائك وترضى بقضائك وتقنع بعطائك ثم روي عن أبي سليمان بن وبر أنه قال حديث رواحة هذا واحد أمه آخر تفسير