تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 235 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 235  {قَالُواْ يٰشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَـٰكَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ * قَالَ يٰقَوْمِ أَرَهْطِىۤ أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَٱتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّى بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَيٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَـٰمِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَٱرْتَقِبُوۤاْ إِنِّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ * وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَـٰرِهِمْ جَـٰثِمِينَ * كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَـٰتِنَا وَسُلْطَـٰنٍ مُّبِينٍ * إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ فَٱتَّبَعُوۤاْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ * يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ فَأَوْرَدَهُمُ ٱلنَّارَ وَبِئْسَ ٱلْوِرْدُ ٱلْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُواْ فِى هَـٰذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ بِئْسَ ٱلرِّفْدُ ٱلْمَرْفُودُ * ذَٰلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْقُرَىٰ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ * وَمَا ظَلَمْنَـٰهُمْ وَلَـٰكِن ظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءَالِهَتَهُمُ ٱلَّتِى يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مِن شَىْءٍ لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ * وَكَذٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِىَ ظَـٰلِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِى ذٰلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ ٱلاٌّخِرَةِ ذٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ ٱلنَّاسُ وَذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لاًّجَلٍ مَّعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ فَفِى ٱلنَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَـٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَـٰوَٰتُ وَٱلاٌّرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِى ٱلْجَنَّةِ خَـٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَـٰوَٰتُ وَٱلاٌّرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ * فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَـٰؤُلاۤءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ ءَابَاؤهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ * وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَـٰبَ فَٱخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ * وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلاَ تَرْكَنُوۤاْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ * وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ طَرَفَىِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ ٱلَّيْلِ إِنَّ ٱلْحَسَنَـٰتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيِّئَـٰتِ ذٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَٰكِرِينَ * وَٱصْبِرْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ * فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْفَسَادِ فِى ٱلاٌّرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ * وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاّمْلاّنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ * وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ ٱلرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَآءَكَ فِى هَـٰذِهِ ٱلْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَٱنْتَظِرُوۤاْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ * وَللَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ ٱلاٌّمْرُ كُلُّهُ فَٱعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَـٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}
قوله تعالى:
{قَالُواْ يٰشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَـٰكَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ}. بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أن نبيه شعيباً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام منعه الله من الكفار، وأعز جانبه بسبب العواطف العصبية، والأواصر النسبية من قومه الذين هم كفار.
وهو دليل على أن المتمسك بدينه قد يعينه الله ويعزه بنصرة قريبه الكافر، كما بينه تعالى في مواضع أخر. كقوله في صالح وقومه: {قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِٱللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ}.
ففي الآية دليل على أنهم لا قدرة لهم على أن يفعلوا السوء بصالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام إلا في حال الخفاء، وأنهم لو فعلوا به ذلك خفاء وسرقة لكانوا يحلفون لأوليائه الذين هم عصبته أنهم ما فعلوا به سوءاً، ولا شهدوا ذلك ولا حضروره خوفاً من عصبته. فهو عزيز الجانب بسبب عصبته الكفار. وقد قال تعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَىٰ} أي آواك بأن ضمك إلى عمك أبي طالب.
وذلك بسبب العواطف العصبية، والأواصر النسبية، ولا صلة له بالدين ألبتة. فكونه جل وعلا يمتن على رسوله صلى الله عليه وسلم بإيواء أبي طالب له دليل على أن الله قد ينعم على المتمسك بدينه بنصرة قريبه الكافر.
ومن ثمرات تلك العصبية النسبية قول أبي طالب: والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة أبشر بذاك وقر منه عيونا

وقوله أيضاً: ونمنعه حتى نصرع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل

ولهذا لما كان نبي الله لوط عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ليس له عصبة في قومه الذين أرسل إليهم، ظهر فيه أثر عدم العصبة. بدليل قوله تعالى عنه: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِىۤ إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ}.
وهذه الآيات القرآنية تدل على أن المسلمين قد تنفعهم عصبية إخوانهم الكافرين.
ولما ناصر بنو المطلب بن عبد مناف بني هاشم ولم يناصرهم بنو عبد شمس بن عبد مناف وبنو نوفل بن عبد مناف عرف النَّبي صلى الله عليه وسلم لبني المطلب تلك المناصرة التي هي عصيبة نسبية لا صلة لها بالدين. فأعطاهم من خمس الغنيمة مع بني هاشم، وقال: «إنا وبني المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام» ومنع بني عبد شمس وبني نوفل من خمس الغنيمة، مع أن الجميع أولاد عبد مناف بن قصي.
وقال أبو طالب في بني عبد شمس وبني نوفل:
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا عقوبة شر عاجل غير آجل
بميزان قسط لا يخيس شعيرة له شاهد من نفسه غير عائل
لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا بني خلف قيضا بنا والغياطل

والغياطل «بالغين المعجمة» ومراد أبي طالب بهم: بنو سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي «القبيلة المشهورة من قبائل قريش» وإنما سموا الغياطل،
لأن قيس بن عدي بن سعد بن سهم الذي هو من سادات قريش العظام، وهو الذي يعنيه عبد المطلب بقوله يرقص ابنه عبد الله وهو صغير: كأنه في العز قيس بن عدي في دار سعد ينتدي أهل الندى

تزوج امرأة من كنانة تسمى «الغيطلة» وهي أم بعض أولاده. فسمي بنو سهم الغياطل. لأن قيس بن عدي المذكور سيدهم.
فهذه الآيات القرآنية تدل على أن الله قد يعين المؤمن بالكافر لتعصبه له، وربما كان لذلك أثر حسن على الإسلام والمسلمين. وقد يكون من منن الله على بعض أنبيائه المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم. وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» وفي المثل: «اجتن الثمار وألق الخشبة في النار».
فإذا عرفت دلالة القرآن على أن المسلم قد ينتفع برابطة نسب وعصيبة من كافر، فاعلم أن النداء بالروابط العصيبة لا يجوز. لإجماع المسلمين على أن المسلم لا يجوز له الدعاء بيا لبني فلان ونحوها.
وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث جابر رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال في تلك الدعوة: «دعوها فإنها منتنة». وقوله صلى الله عليه وسلم: «دعوها» يدل على
وجوب تركها. لأن صيغة أفعل للوجوب ـ إلا لدليل صارف عنه، وليس هنا دليل صارف عنه. ويؤكد ذلك تعليله الأمر بتركها بأنها منتنة، وما صرح النَّبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بتركه وأنه منتن لا يجوز لأحد تعاطيه، وإنما الواجب على المسلمين النداء برابطة الإسلام التي هي من شدة قوتها تجعل المجتمع الإسلامي كله كأنه جسد إنسان واحد. فهي تربطك بأخيك المسلم كربط أعضائك بعضها ببعض، قال صلى الله عليه وسلم: «إن مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».
وإذا تأملت قوله تعالى: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلاٌّخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوۤاْ ءَابَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَٰنَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} تحققت أن الروابط النسبية تتلاشى مع الروابط الإسلامية، وقد قال تعالى: {إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وقال: {وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ}.
ولا يخفى أن أسلافنا معاشر المسلمين إنما فتحوا البلاد ومصروا الأمصار بالرابطة الإسلامية، لا بروابط عصبية، ولا بأواصر نسبية. قوله تعالى: {وَأَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِى ٱلْجَنَّةِ خَـٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَـٰوَٰتُ وَٱلاٌّرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ} . قيد تعالى خلود أهل الجنة وأهل النار بالمشيئة. فقال في كل منهما: {ٱلسَّمَـٰوَٰتُ وَٱلاٌّرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ} ثم بين عدم الانقطاع في كل منهما، فقال في خلود أهل الجنة: {وَأَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِى ٱلْجَنَّةِ خَـٰلِدِينَ فِيهَا مَ} {عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}.
وقال في خلود أهل النار: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرً}.
ومعلوم أن {كُلَّمَ} تقتضي التكرار بتكرر الفعل الذي بعدها.
وقد أوضحنا هذه المسألة إيضاحاً تاماً في كتابنا «دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب» في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى: {قَالَ ٱلنَّارُ مَثْوَاكُمْ خَـٰلِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ} وفي
{لَّـٰبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاب}.

تم بحمد الله تفسير سورة هود

# تفسير سورة يوسف #

{الۤر تِلْكَ ءايَاتُ ٱلْكِتَـٰبِ ٱلْمُبِينِ * إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلْغَـٰفِلِينَ * إِذْ قَالَ يُوسُفُ لاًّبِيهِ يٰأَبتِ إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ * قَالَ يٰبُنَىَّ لاَ تَقْصُصْ رُءْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ لِلإِنْسَـٰنِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَكَذٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ ٱلاٌّحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ ءالِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَآ عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَٰهِيمَ وَإِسْحَـٰقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لَّقَدْ كَانَ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ ءايَـٰتٌ لِّلسَّآئِلِينَ * إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلَٰلٍ مُّبِينٍ * ٱقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ ٱطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَـٰلِحِينَ * قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِى غَيَابَةِ ٱلْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ ٱلسَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَـٰعِلِينَ * قَالُواْ يَـٰأَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَىٰ يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَـٰصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَـٰفِظُونَ * قَالَ إِنِّى لَيَحْزُنُنِىۤ أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ ٱلذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَـٰفِلُونَ * قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ ٱلذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذَا لَّخَـٰسِرُونَ}
قوله تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لاًّبِيهِ يٰأَبتِ إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ}.
لم يبين هنا تأويل هذه الرؤيا، ولكنه بينه في هذه السورة الكريمة في قوله: {فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ ءَاوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ٱدْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا وَقَالَ يٰأَبَتِ هَـٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَـٰىۤ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّى حَقًّ}.
ومن المعلوم أن رؤيا الأنبياء وحي. قوله تعالى: {وَكَذٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ ٱلاٌّحَادِيثِ}. بين الله جل وعلا أنه علم نبيه يوسف من تأويل الأحاديث، وصرح بذلك أيضاً في قوله: {وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى ٱلاٌّرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ ٱلاٌّحَادِيثِ}.
وقوله: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِى مِنَ ٱلْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ ٱلاٌّحَادِيثِ}.
واختلف العلماء في المراد بتأويل الأحاديث.
فذهب جماعة من أهل العلم إلى أن المراد بذلك: تعبير الرؤيا، فالأحاديث على هذا القول هي الرؤيا، قالوا: لأنها إما حديث نفس أو ملك أو شيطان.
وكان يوسف أعبر الناس للرؤيا. ويدل لهذا الوجه الآيات الدالة على خبرته بتأويل الرؤيا، كقوله: {يٰصَاحِبَىِ ٱلسِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِى رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا ٱلاٌّخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِىَ ٱلاٌّمْرُ ٱلَّذِى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} وقوله:
{قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِى سُنبُلِهِ} إلى قوله: {يَعْصِرُونَ}.
وقال بعض العلماء: المراد بتأويل الأحاديث معرفة معاني كتب الله وسنن الأنبياء، وما غمض وما اشتبه على الناس من أغراضها ومقاصدها، يفسرها لهم ويشرحها، ويدلهم على مودعات حكمها.
وسميت أحاديث، لأنها يحدث بها عن الله ورسله، فيقال: قال الله كذا، وقال رسوله كذا، ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}.
وقوله: {ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ}.
ويدل لهذا الوجه قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمً} وقوله: {قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبِّىۤ}.
قال مقيده عفا الله عنه:
الظاهر أن الآيات المذكورة تشمل ذلك كله من تأويل الرؤيا، وعلوم كتب الله وسنن الأنبياء ـ والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلَٰلٍ مُّبِينٍ}. الظاهر أن مراد أولاد يعقوب بهذا الضلال الذي وصفوا به أباهم ـ عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام في هذه الآية الكريمة ـ إنما هو الذهاب عن علم حقيقة الأمر كما ينبغي.
ويدل لهذا ورود الضلال بهذا المعنى في القرآن وفي كلام العرب. فمنه بهذا المعنى قوله تعالى عنهم مخاطبين أباهم: {قَالُواْ تَٱللَّهِ إِنَّكَ لَفِى ضَلَـٰلِكَ ٱلْقَدِيمِ} وقوله تعالى في نبينا صلى الله عليه وسلم: {وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ} أي لست عالماً بهذه العلوم التي لا تعرف إلا بالوحي، فهداك إليها وعلمكم بما أوحي إليك من هذا القرآن العظيم. ومنه بهذا المعنى قول الشاعر: وتظن سلمى أنني أبغي بها بدلا أراها في الضلال تهيم

يعني: أنها غير عالمة بالحقيقة في ظنها أنه يبغي بها بدلاً وهو لا يبغي بها بدلاً.
وليس مراد أولاد يعقوب الضلال في الدين، إذ لو أرادوا ذلك لكانوا كفاراً، وإنما مرادهم أن أباهم في زعمهم في ذهاب عن إدراك الحقيقة، وإنزال الأمر منزلته اللائقة به، حيث آثر اثنين على عشرة، مع أن العشرة أكثر نفعاً له، وأقدر على القيام بشؤونه وتدبير أموره.
واعلم أن الضلال أطلق في القرآن إطلاقين آخرين:
أحدهما ـ الضلال في الدين، أي الذهاب عن طريق الحق التي جاءت بها الرسل صلوات الله عليهم وسلامه. وهذا أشهر معانيه في القرآن. ومنه بهذا المعنى {غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ} وقوله: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ ٱلاٌّوَّلِينَ}، وقوله: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِير} إلى غير ذلك من الآيات.
الثاني ـ إطلاق الضلال بمعنى الهلاك والغيبة. من قول العرب: ضل السمن في الطعام، إذا غاب فيه وهلك فيه، ولذلك تسمي العرب الدفن إضلالاً. لأنه تغيب في الأرض يؤول إلى استهلاك عظام الميت فيها، لأنها تصير رميماً وتمتزج بالأرض. ومنه بهذا المعنى قوله تعالى: {وَقَالُوۤاْ أَءِذَا ضَلَلْنَا فِى ٱلاٌّرْضِ}.
ومن إطلاق الضلال على الغيبة قوله تعالى: {قَبْلِكَ فَأَخَذْنَـٰهُمْ بِٱلْبَأْسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ} أي غاب وٱضمحل.
ومن إطلاق الضلال على الدفن قول نابغة ذبيان: فآب مضلوه بعين جلية وغودر بالجولان حزم ونائل

فقوله: مضلوه، يعني دافنيه. وقوله: بعين جلية، أي بخبر يقين. والجولان: جبل دفن عنده المذكور.
ومن الضلال بمعنى الغيبة والاضمحلال قول الأخطل: كنت القذى في موج أكدر مزبد قذف الأتى به فضل ضلالا

وقول الآخر: ألم تسأل فتخبرك الديار عن الحي المضلل أين سارو