تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 267 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 267  { ٱلَّذِينَ جَعَلُواْ ٱلْقُرْءَانَ عِضِينَ * فَوَرَبِّكَ لَنَسْألَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ}
تقدم تفسير هذه الأيه في الصفحه التي قبلها بفضل الله

{إِنَّا كَفَيْنَـٰكَ ٱلْمُسْتَهْزِءِينَ * ٱلَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلـٰهًا ءَاخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ ٱلسَّـٰجِدِينَ * وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ}
قوله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَـٰكَ ٱلْمُسْتَهْزِءِينَ}. بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه كفى نبيه صلى الله عليه وسلم المستهزئين الذين كانوا يستهزؤون به وهم قوم من قريش. وذكر في مواضع أخر أنه كفاه غيرهم. كقوله في أهل الكتاب: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ ٱللَّهُ}، وقوله: {أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}، إلى غير ذلك من الآيات.
والمستهزؤون المذكورون: هم الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والحارث بن قيس السهمي والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب.
والآفات التي كانت سبب هلاكهم مشهورة في التاريخ. قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ}. ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه يعلم أن نبيه صلى الله عليه وسلم يضيق صدره بما يقول الكفار فيه: من الطعن والتكذيب، والطعن في القرآن. وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ ٱلَّذِى يَقُولُونَ}، وقوله: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ
بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ
}، وقوله {فَلَعَلَّكَ بَـٰخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ ءَاثَـٰرِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَف} وقوله: {لَعَلَّكَ بَـٰخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} إلى غير ذلك من الآيات. وقد قدمنا شيئاً من ذلك من الأنعام. قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ ٱلسَّـٰجِدِينَ}. أمر جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بأمرين: أحدهما ـ قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ}، والثاني ـ قوله: {وَكُنْ مِّنَ ٱلسَّـٰجِدِينَ}.
وقد تكرر تعالى في كتابة الأمر بالشيئين المذكورين في هذه الآية الكريمة، كقوله في الأول: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَٱسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوٰبَ}، وقوله: {فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَ}، وقوله: {فَٱصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَٱسْتَغْفِـرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِٱلْعَشِىِّ وَٱلاۤبْكَارِ} والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وأصل التسبيح في اللغة: الإبعاد عن السوء. ومعناه في عرف الشرع: تنزيه الله جل وعلا عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله. ومعنى سبح: نزه ربك جل وعلا عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله. وقوله {بِحَمْدِ رَبّكَ} أي في حال كونك متلبساً بحمد ربك، أي بالثناء عليه بجميع ما هو أهله من صفات الكمال والجلال، لأن لفظة {بِحَمْدِ رَبّكَ} أضيفت إلى معرفة فتعم جميع المحامد من كل وصف كمال وجلال ثابت لله جل وعلا. فتستغرق الآية الكريمة الثناء بكل كمال، لأن الكمال يكون بأمرين:
15 أحدهما ـ التخلي عن الرذائل، والتنزه عما لا يليق، وهذا معنى التسبيح.
والثاني ـ التحلي بالفضائل والاتصاف بصفات الكمال، وهذا معنى الحمد، فتم الثناء بكل كمال.
ولأجل هذا المعنى ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كلمتان خفيفتان على اللِّسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرَّحمٰن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم»، وكقوله في الثاني وهو السجود: {كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَٱسْجُدْ وَٱقْتَرِب} {وَمِنَ ٱلَّيْلِ فَٱسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيل} وقوله: {وَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ ٱلَّذِى خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} ويكثر في القرآن العظيم إطلاق التسبيح على الصلاة.
وقالت جماعة من العلماء: المراد بقوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} أي صل له، وعليه فقوله {وَكُنْ مِّنَ ٱلسَّـٰجِدِينَ} من عطف الخاص على العام والصلاة تتضمن غاية التنزيه ومنتهى التقديس. وعلى كل حال فالمراد بقوله {وَكُنْ مِّنَ ٱلسَّـٰجِدِينَ} أي من المصلين، سواء قلنا إن المراد بالتسبيح الصلاة، أو أعم منها من تنزيه الله عما لا يليق به. ولأجل كون المراد بالسجود الصلاة لم يكن هذا الموضع محل سجدة عند جمهور العلماء. خلافاً لمن زعم أنه موضع سجود.
قال القرطبي في تفسيره: قال ابن العربي: ظن بعض الناس أن المراد بالأمر هنا السجود نفسه، فرآى هذا الموضع محل سجود في القرآن، وقد شاهدت الإمام بمحراب زكريا من البيت المقدس طهره الله يسجد في هذا الموضع، وسجدت معه فيه، ولم يره جماهير العلماء.
قلت: قد ذكر أبو بكر النقاش أن ههنا سجدة عند أبي حذيفة ويمان بن رئاب ورأى أنها واجبة ـ انتهى كلام القرطبي.
وقد تقدم معنى السجود في سورة الرعد. وعلى أن المراد بالتسبيح الصلاة فالمسوغ لهذا الإطناب الذي هو عطف الخاص على العام هو أهمية السجود، لأن أقرب ما يكون العيد من ربه في حال كونه في السجود.
قال مسلم في صحيحه: وحدثنا هارون بن معروف، وعمرو بن سواد قالا: حدثنا عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن عمارة بن غزية، عن سمي مولى أبي بكر، أنه سمع أبا صالح ذكوان يحدث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء».
تنبيه
اعلم أن ترتيبه جل وعلا الأمر بالتسبيح والسجود على ضيق صدره صلى الله عليه وسلم بسبب ما يقولون له من السوء ـ دليل على أن الصلاة والتسبيح سبب لزوال ذلك المكروه، ولذا كان صلى الله عليه وسلم إذا حز به أمر بادر إلى الصلاة. وقال تعالى: {وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَوٰةِ}.
ويؤيد هذا ما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي من حديث نعيم بن همار رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تعالى: يا ابن آدم لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره» فينبغي للمسلم إذا أصابه مكروه أن يفزع إلى الله تعالى بأنواع الطاعات من صلاة وغيرها. قوله تعالى: {وَٱعْبُدْ رَبَّكَ}. أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يعبد ربه، أي يتقرب له على وجه الذل والخضوع والمحبة بما أمر أن يتقرب له به من جميع الطاعات على الوجه المشروع. وجل القرآن في تحقيق هذا الأمر الذي هو حظ الإثبات من لا إله إلا الله، مع حظ النفي منها. وقد بين القرآن أن هذا لا ينفع إلا مع تحقيق الجزء الثاني من كلمة التوحيد، الذي هو حظ النفي منها. وهو خلع جميع المعبودات سوى الله تعالى في جميع أنواع العبادات. قال تعالى: {فَٱعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}، وقال {فَٱعْبُدْهُ وَٱصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ}، وقال: {وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئ}، وقال {فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّـٰغُوتِ وَيُؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ}، وقال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِٱللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} والآيات في مثل ذلك كثيرة جداً. قوله تعالى: {حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ}. قالت جماعة من أهل العلم، منهم سالم بن عبد الله بن عمر، ومجاهد، والحسن، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم: اليقين: الموت، ويدل لذلك قوله تعالى: {قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ٱلْمُصَلِّين َوَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ ٱلْمِسْكِين َوَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ ٱلُخَآئِضِين َوَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ حَتَّىٰ أَتَـٰنَا ٱلْيَقِينُ} وهو الموت.
ويؤيد هذا ما أخرجه البخاري في صحيحه من حديث الزهري عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أم العلاء (امرأة من الأنصار) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا دخل على عثمان بن مظعون وقد مات، قالت أُمُّ العلاء: رحمة الله عليك أبا السَّائبٰ فشهادتي عليك لقد أكرمك الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك أن الله قد أكرمه»؟ فقالت: بأبي وأمي يا رسول الله فمن يكرمه الله؟ فقال: «أَما هو فقد جاءه اليقين، وإني لأَرجو له الخير..» الحديث. وهذا الحديث الصحيح يدل على أن اليقين الموت. وقول من قال: إن المراد باليقين انكشاف الحقيقة، وتيقن الواقع لا ينافي ما ذكرنا، لأن الإنسان إذا جاءه الموت ظهرت له الحقيقة يقيناً. ولقد أجاد التهامي في قوله:
والعيش نوم والمنية يقظة والمرء بينهما خيال ساري

وقال صاحب الدر المنثور: أخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، والحاكم في التاريخ، وابن مردويه، والديلمي عن أبي مسلم الخولاني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أوحي إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين، ولكن أوحي إلي: أن «سبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين».
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أوحي إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين، ولكن أوحي إلي: أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين».
وأخرج ابن مردويه والديلمي عن أبي الدرداء رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما أوحي إلي أن أكون تاجراً ولا أجمع المال متكاثراً، ولكن أوحي إلي: أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين».
تنبيهان الأول ـ هذه الآية الكريمة تدل على أن الإنسان ما دام حياً وله عقل ثابت يميز به، فالعبادة واجبة عليه بحسب طاقته. فإن لم يستطع الصلاة قائماً فليصل قاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنب. وهكذا قال تعالى عن نبيه عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {وَأَوْصَانِى بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمْتُ حَيّ} وقال البخاري في صحيحه «باب إذا لم يطق قاعداً صلى على جنب» وقال عطاء: إن لم يقدر أن يتحول إلى القبلة صلى حيث كان وجهه ـ حدثنا عبدان عن عبد الله، عن إبراهيم بن طهمان قال: حدثني الحسين المكتب، عن بريدة، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: كانت بواسير، فسألت النَّبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فقال: «صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب» اهـ ونحو هذا معلوم. قال تعالى: {فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ}، وقال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَ}، وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم...» الحديث.
التنبيه الثاني ـ اعلم أن ما يفسر به هذه الآية الكريمة بعض الزنادقة الكفرة المدعين للتصوف ـ من أن معنى اليقين المعرفة بالله جل وعلا، وأن الآية تدل على أن العبد إذا وصل من المعرفة بالله إلى تلك الدرجة المعبر عنها باليقين ـ أنه تسقط عنه العبادات والتكاليف. لأن ذلك اليقين هو غاية الأمر بالعبادة.
إن تفسير الآية بهذا كفر بالله وزندقة، وخروج عن ملة الإسلام بإجماع المسلمين. وهذا النوع لا يسمى في الاصطلاح تأويلاً، بل يسمى لعباً كما قدمنا في آل عمران. ومعلوم أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم هم وأصحابه هم أعلم الناس بالله، وأعرفهم بحقوقه وصفاته وما يستحق من التعظيم، وكانوا مع ذلك أكثر الناس عبادة لله جل وعلا، وأشدهم خوفاً منه وطمعاً في رحمته. وقد قال جل وعلا: {إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ} والعلم عند الله تعالى.

تم بحمد الله تفسير سورة الحجر ولله الحمد

# تفسير سورة النحل #

{أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَـٰنَهُ وَتَعَـٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُنَزِّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوۤاْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَ أَنَاْ فَٱتَّقُونِ * خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضَ بِٱلْحَقِّ تَعَـٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ}
قوله تعالى: {أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ}. أي قرب وقت إتيان القيامة.
وعبر بصيغة الماضي تنزيلاً لتحقق الوقوع منزلة الوقوع. واقتراب القيامة المشار إليه هنا بينه جل وعلا في مواضع أخر، كقوله: {ٱقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَـٰبُهُمْ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ}، وقوله جل وعلا: {ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ}، وقوله: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيب}، وقوله: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ قَرِيبٌ}، وقوله جل وعلا: {أَزِفَتِ ٱلاٌّزِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ كَاشِفَةٌ} إلى غير ذلك من الآيات.
والتعبير عن المستقبل بصيغة الماضي لتحقق وقوعه كثير في القرآن، كقوله: {وَنُفِخَ فِى ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ}، وقوله {وَنَادَىۤ أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَـٰبَ ٱلنَّارِ}، وقوله: {وَأَشْرَقَتِ ٱلاٌّرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلْكِتَـٰبُ وَجِـىءَ بِٱلنَّبِيِّيْنَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِٱلْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون َوَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُون َوَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَـفَرُوۤ}.
فكل هذه الأفعال الماضية بمعنى الاستقبال، نزل تحقق وقوعها منزلة الوقوع. وقوله تعالى: {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ}. نهى الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن استعجال ما وعد به من الهول والعذاب يوم القيامة. والاستعجال هو طلبهم أن يعجل لهم ما يوعدون به من العذاب يوم القيامة.
والآيات الموضحة لهذا المعنى كثيرة، كقوله جل وعلا: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَـٰفِرِينَ}، وقوله: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَ}، وقوله: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ ٱلْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ}، وقوله: {وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْحِسَابِ}، وقوله: {قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ ٱلْمُجْرِمُونَ} إلى غير ذلك من الآيات.
والضمير في قوله {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} في مفسره وجهان:
أحدهما: أنه العذاب الموعد به يوم القيامة، المفهوم من قوله: {أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ}.
والثاني: أنه يعود إلى الله. أي لا تطلبوا من الله أن يعجل لكم العذاب.
قال معناه ابن كثير.
وقال القرطبي في تفسيره: قال ابن عباس: لما نزلت {ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ} قال الكفار: إن هذا يزعم أن القيامة قد قربتٰ فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون، فأمسكوا فانتظروا فلم يروا شيئاً، فقالوا: ما نرى شيئاً! فنزلت {ٱقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَـٰبُهُمْ}، فأشفقوا وانتظروا قرب الساعة. فامتدت الأيام فقالوا: ما نرى شيئاً، فنزلت {أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ} فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وخافوا، فنزلت {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} فاطمأنوا. فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «بعثت أنا والساعة كهاتين ـ وأشار بأصبعيه السبابة والتي تليها» اهـ محل الغرض من كلام القرطبي، وهو يدل على أن المراد بقوله {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} أي لا تظنوه واقعاً الآن عن عجل، بل هو متأخر إلى وقته المحدد له عند الله تعالى.
وقول الضحاك ومن وافقه: إن معنى: {أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ} أي فرائضه وحدوده ـ قول مردود ولا وجه له، وقد رده الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره قائلاً: إنه لم يبلغنا أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم استعجل فرائض قبل أن تفرض عليهم، فيقال لهم من أجل ذلك قد جاءتكم فرائض الله فلا تستعجلوها. أما مستعجلوا العذاب من المشركين فقد كانوا كثيراً اهـ.
والظاهر المتبادر من الآية الكريمة ـ أنها تهديد للكفار باقتراب العذاب يوم القيامة مع نهيهم عن استعجاله.
قال ابن جرير في تفسيره: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: هو تهديد من الله لأهل الكفر به وبرسوله، وإعلام منه لهم قرب العذاب منهم والهلاك، وذلك أنه عقب ذلك بقوله سبحانه وتعالى {عَمَّا يُشْرِكُونَ} فدل بذلك على تقريعه المشركين به ووعيده لهم اهـ. قوله تعالى: {يُنَزِّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ}. أظهر الأقوال في معنى الروح في هذه الآية الكريمة: أن المراد بها الوحي. لأن الوحي به حياة الأرواح، كما أن الغذاء به حياة الأجسام. ويدل لهذا قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا ٱلْكِتَـٰبُ وَلاَ ٱلإِيمَـٰنُ}، وقوله: {رَفِيعُ ٱلدَّرَجَـٰتِ ذُو ٱلْعَرْشِ يُلْقِى ٱلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ ٱلتَّلاَقِيَوْمَ هُم بَـٰرِزُونَ لاَ يَخْفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِنْهُمْ شَىْءٌ لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَٰحِدِ ٱلْقَهَّارِ}.
ومما يدل على أن المراد بالروح الوحي إتيانه بعد قوله: {يُنَزِّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ} بقوله: {أَنْ أَنْذِرُوۤ} لأن الإنذار إنما يكون بالوحي، بدليل قوله: {قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِٱلْوَحْىِ}، وكذلك إتيانه بعد قوله: {يُلْقِى ٱلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} بقوله: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَ}. لأن الإنذار إنما يكون بالوحي أيضاً. وقرأ هذا الحرف ابن كثير وأبو عمرو «ينزل» بضم الياء وإسكان النون وتخفيف الزاي. والباقون بالضم والتشديد. ولفظه «من» في الآية تبعيضية، أو لبيان الجنس.
وقوله: {عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي ينزل الوحي على من اختاره وعلمه أهلاً لذلك.
كما بينه تعالى بقوله: {ٱللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ ٱلْمَلَـٰئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ ٱلنَّاسِ}، وقوله: {ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}، وقوله: {يُلْقِى ٱلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ}، وقوله: {بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنزَلَ ٱللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ}.
وهذه الآيات وأمثالها رد على الكفار في قولهم: {لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}. قوله تعالى: {أَنْ أَنْذِرُوۤاْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَ أَنَاْ فَٱتَّقُونِ}. الأظهر في «أن» من قوله: {أَنْ أَنْذِرُوۤ} أنها هي المفسرة. لأن إنزال الملائكة بالروح ـ أي بالوحي ـ فيه معنى القول دون حروفه. فيكون المعنى: أن الوحي الذي أنزلت به الملائكة مفسر بإنذار الناس «بلا إله إلا الله» وأمرهم بتقواه.
وقد أوضح جل وعلا هذا المعنى في آيات كثيرة. كقوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِىۤ إِلَيْهِ أَنَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱعْبُدُونِ}، وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّـٰغُوتَ}، وقوله) {وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ}، وقوله: {قُلْ إِنَّمَآ يُوحَىٰ إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَٰحِدٌ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} إلى غير ذلك من الآيات. وقد قدمنا معنى الإنذار، ومعنى التقوى. قوله تعالى: {خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضَ بِٱلْحَقِّ تَعَـٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ}. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه هو خالق السموات والأرض، وأن من يخلق هذه المخلوقات العظيمة يتنزه ويتعاظم أن يعبد معه ما لا يخلق شيئاً، ولا يملك لنفسه شيئاً.
فالآية تدل على أن من يبرز الخلائق من العدم إلى الوجود، لا يصح أن يعبد من لا يقدر على شيء. ولهذا أتبع قوله: {خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضَ بِٱلْحَقِّ} بقوله: {تَعَـٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة. كقوله: {يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ}. فدل على أن المعبود هو الخالق دون غيره، وقوله: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} وقوله: {أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ ٱلْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ ٱللَّهُ خَـٰلِقُ كُلِّ شَىْءٍ وَهُوَ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّـٰرُ}، وقوله: {تَبَارَكَ ٱلَّذِى نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَـٰلَمِينَ نَذِيراًٱلَّذِى لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِى المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراًوَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءْالِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لاًّنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَـوٰةً وَلاَ نُشُور}،وقوله جل وعلا: {هَـٰذَا خَلْقُ ٱللَّهِ فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ ٱلظَّـٰلِمُونَ فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ}، وقوله: {قُلْ أَرَءَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلاٌّرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ}، وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلاٌّرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ ٱئْتُونِى بِكِتَـٰبٍ مِّن قَبْلِ هَـٰذَآ أَوْ أَثَـٰرَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ}، وقوله جل وعلا: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ}، وقوله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ ٱجْتَمَعُواْ لَهُ}، وقوله: {أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَىْءٍ أَمْ هُمُ ٱلْخَـٰلِقُونَ أَمْ خَلَقُواْ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضَ}، وقوله: {وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُون َأَمْوٰتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ}، إلى غير ذلك من الآيات.
فهذه الآيات تبين أن الذي يستحق أن يعبد هو من يخلق الخلق، ويبرزهم من العدم إلى الوجود. أما غيره فهو مخلوق مربوب، محتاج إلى من يخلقه، ويدبر شؤونه.

{خَلَقَ ٱلإِنْسَـٰنَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَٱلاٌّنْعَـٰمَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَـٰفِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ *

سيتم شرح هذه الأيه في الصفحه التي بعدها بأذن الله