تفسير الشنقيطي تفسير الصفحة 483 من المصحف


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 483


تفسير أضواء البيان - صفحة القرآن رقم 67

 {حـمۤ * عۤسۤقۤ * كَذَلِكَ يُوحِىۤ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ * لَهُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلاٌّرْضِ وَهُوَ ٱلْعَلِىُّ ٱلعَظِيمُ * تَكَادُ ٱلسَّمَـٰوَٰتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى ٱلاٌّرْضِ أَلاَ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ * وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ ٱللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ * وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ ٱلْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِى ٱلْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِى ٱلسَّعِيرِ * وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَلَـٰكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِهِ وَٱلظَّـٰلِمُونَ مَا لَهُمْ مِّن وَلِىٍّ وَلاَ نَصِيرٍ * أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ فَٱللَّهُ هُوَ ٱلْوَلِىُّ وَهُوَ يُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * وَمَا ٱخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى ٱللَّهِ ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبِّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}
قوله تعالى: {حـمۤ عۤسۤق ۤكَذَلِكَ يُوحِىۤ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ}. قد قدمنا الكلام على الحروف المقطعة في أول سورة هود.
وقول الزمخشري في تفسير هذه الآية {كَذَلِكَ يُوحِىۤ إِلَيْكَ} أي مثل ذلك الوحي، أو مثل ذلك الكتاب يوحى إليك وإلى الرسل من قبلك الله.
يعني أن ما تضمنته هذه السورة من المعاني، قد أوحى الله إليك مثله، في غيرها من السور، وأوحاه من قبلك إلى رسله، على معنى أن الله تعالى كرر هذه المعاني، في القرآن وفي جميع الكتب السماوية، لما فيها من التنبيه البليغ، واللطف العظيم، لعباده من الأولين والآخرين. ا هـ منه.
وظاهر كلامه، أن التشبيه في قوله: كذلك يوحى بالنسبة إلى الموحى باسم المفعول.
والأظهر أن التشبيه في المعنى المصدري الذي هو الإيحاء.
وقوله في هذه الآية الكريمة {وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ} لم يصرح هنا بشيء من أسماء الذين في قبله الذين أوحى إليهم، كما أوحى إليه، ولكنه قد بين أسماء جماعة منهم في سورة النساء، وبين فيها أن بعضهم لم يقصص حبرهم عليه، وأنه أوحى إليهم وأرسلهم لقطع حجج الخلق، في دار الدنيا وذلك في قوله تعالى: {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ نُوحٍ وَٱلنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ إِبْرَٰهِيمَ وَإِسْمَـٰعِيلَ وَإْسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلاٌّسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَـٰرُونَ وَسُلَيْمَـٰنَ وَءَاتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَـٰهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيماً رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيم}.
وقوله تعالى: {ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ} ذكر جل وعلا فيه الثناء على نفسه، باسمه العزيز واسمه الحكيم بعد ذكره إنزاله وحيه على أنبيائه، كما قال في آية النساء المذكورة {وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيم} بعد ذكره إيحاءه إلى رسله.
وقد قدمنا في أول سورة الزمر أن استقراء القرآن. قد دل على أن الله جل وعلا إذا ذكر تنزيله لكتابه أتبع ذلك بعض أسمائه الحسنى وصفاته العليا، وذكرنا كثيراً من أمثلة ذلك.
وقرأ هذا الحرف عامة السبعة غير ابن كثير (يوحي) بكسر الحاء بالبناء للفاعل، وعلى قراءة الجمهور هذه فقوله: الله العزيز الحكيم فاعل يوحي.
وقرأه ابن كثير (يُوحَى إليك) بفتح الحاء بالبناء للمفعول، وعلى هذه القراءة، فقوله: الله العزيز الحكيم، فاعل فعل محذوف تقديره يوحى كما قدمنا إيضاحه في سورة النور في الكلام على قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ وَٱلاٌّصَالِرِجَالٌ}.
وقد قدمنا معاني الوحي مع الشواهد العربية في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى {وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ} وغير ذلك من المواضع. قوله تعالى: {وَهُوَ ٱلْعَلِىُّ ٱلعَظِيمُ}. وصف نفسه جل وعلا في هذه الآية الكريمة، بالعلو والعظمة، وهما من الصفات الجامعة كما قدمناه في سورة الأعراف، في الكلام على قوله تعالى: {ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ}.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من وصفه تعالى نفسه بهاتين الصفتين الجامعتين المتضمنتين لكل كمال وجلال، جاء مثله في آيات أخر كقوله تعالى: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ ٱلْعَلِىُّ ٱلْعَظِيمُ} وقوله تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِير}. وقوله تعالى {عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ ٱلْكَبِيرُ ٱلْمُتَعَالِ} وقوله تعالى {وَلَهُ ٱلْكِبْرِيَآءُ فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ}. إلى غير ذلك من الآيات. قوله تعالى: {تَكَادُ ٱلسَّمَـٰوَٰتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى ٱلاٌّرْضِ}. قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير نافع والكسائي (تكاد) بالتاء الفوقية، لأن السماوات مؤنثة وقرأه نافع والكسائي (يكاد) بالياء التحتية لأن تأنيث السماوات غير حقيقي.
وقرأه عامة السبعة غير أبي عمرو، وشعبة عن عاصم (يَتَفَطَّرْنَ) بتاء مثناة فوقية مفتوحة بعد الياء وفتح الطاء المشددة مضارع. تفطر أي تشقق.
وقرأه أبو عمرو وشعبة عن عاصم (ينفطرن) بنون ساكنة بعد الياء وكسر الطاء، المخففة مضارع انفطرت كقوله: {إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنفَطَرَتْ} أي انشقت.
وقوله: تكاد مضارع كاد، التي هي فعل مقاربة، ومعلوم أنها تعمل في المبتدأ والخبر معنى كونها فعل مقاربة، أنها تدل على قرب اتصاف المبتدأ والخبر.
وإذاً، فمعنى الآية أن السماوات قاربت أن تتصف بالتفطر على القراءة الأولى، والانفطار على القراءة الثانية.
واعلم أن سبب مقاربة السماوات للتفطر، في هذه الآية الكريمة، فيه للعلماء وجهان كلاهما يدل له قرآن.
الوجه الأول: أن المعنى تكاد السماوات يتفطرن خوفاً من الله، وهيبة وإجلالاً، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى قبله {وَهُوَ ٱلْعَلِىُّ ٱلعَظِيمُ} لأن علوه وعظمته سبب للسماوات ذلك الخوف والهيبة والإجلال، حتى كادت تتفطر.
وعلى هذا الوجه فقوله بعده: {وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى ٱلاٌّرْضِ} مناسبته لما قبله واضحة.
لأن المعنى: أن السماوات في غاية الخوف منه تعالى والهيبة والإجلال له، وكذلك سكانها من الملائكة فهم يسبحون بحمد ربهم أي ينزهونه عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله، مع إثباتهم له كل كمال وجلال، خوفاً منه وهيبة وإجلالاً، كما قال تعالى {وَيُسَبِّحُ ٱلرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَٱلْمَلْـٰئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} وقال تعالى {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلاٌّرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يَخَـٰفُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}.
فهم لشدة خوفهم من الله، وإجلالهم له بسبحون بحمد ربهم، ويخافون على أهل الأرض، ولذا يستغفرون لهم خوفاً عليهم من سخط الله، وعقابه، ويستأنس لهذا الوجه بقوله تعالى {إِنَّا عَرَضْنَا ٱلاٌّمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ} إلى قوله: {وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} لأن الإشفاق الخوف.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى ٱلاٌّرْضِ} يعني لخصوص الذين آمنوا منهم وتابوا إلى الله واتبعوا سبيله، كما أوضحه تعالى بقوله: {ٱلَّذِينَ يَحْمِلُونَ ٱلْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا}.
فقوله: {لِلَّذِينَ ءَامَنُو} يوضح المراد من قوله: {لِمَن فِى ٱلاٌّرْضِ}.
ويزيد ذلك إيضاحاً قوله تعالى عنهم إنهم يقولون في استغفارهم للمؤمنين {فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ} لأن ذلك يدل دلالة واضحة على عدم استغفارهم للكفار.
الوجه الثاني: أن المعنى {تَكَادُ ٱلسَّمَـٰوَٰتُ يَتَفَطَّرْنَ} من شدة عظم الفرية التي افتراها الكفار على خالق السماوات والأرض جل وعلا، من كونه اتخذ ولداً، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، وهذا الوجه جاء موضحاً في سورة مريم، في قوله تعالى: {وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ ٱلسَّمَـٰوَٰتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ٱلاٌّرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَداً وَمَا يَنبَغِى لِلرَّحْمَـٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً إِن كُلُّ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ إِلاَّ آتِى ٱلرَّحْمَـٰنِ عَبْد } كما قدمنا إيضاحه.
وغاية ما في هذا الوجه أن آية شورى هذه فيها إجمال في سبب تفطر السماوات، وقد جاء ذلك موضحاً في آية مريم المذكورة. وكلا الوجهين حق.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ} فيه للعلماء أوجه.
قيل: يتفطرن، أي السماوات من فوقهن أي الأرضين، ولا يخفى بعد هذا القول كما ترى.
وقال بعضهم: من فوقهن أي كل سماء تتفطر فوق التي تليها.
وقال الزمخشري في الكشاف: فإن قلت لم قال: {مِن فَوْقِهِنَّ} قلت: لأن أعظم الآيات وأدلها على الجلال والعظمة فوق السماوات، وهي العرش والكرسي، وصفوف الملائكة، المرتجة بالتسبيح والتقديس حول العرش، وما لا يعلم كنهه إلا الله تعالى من آثار ملكوته العظمى، فلذلك قال: {يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ} أي يبتدىء الانفطار من جهتهن الفوقانية.
أو لأن كلمة الكفر جاءت من الذي تحت السموات، فكان القياس أن يقال: يتفطرن من تحتهن من الجهة التي جاءت منها الكلمة.
ولكنه بولغ في ذلك فجعلت مؤثرة في وجهة الفوق. كأنه قيل: يكدن يتفطرن من الجهة التي فوقهن، دع الجهة التي تحتهن.
ونظيره في المبالغة قوله عز وجل {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ ٱلْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ} فجعل الحميم مؤثراً في أجزائهم الباطنة ا هـ. محل الغرض منه.
وهذا إنما يتمشى على القول بأن سبب التفطر المذكور هو افتراؤهم على الله في قولهم {ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَلَد}.
وقد قدمنا آنفاً أنه دلت عليه آية مريم المذكورة وعليه فمناسبة قوله: {وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} لما قبله أن الكفار وإن قالوا أعظم الكفر وأشنعه، فإن الملائكة بخلافهم فإنهم يداومون ذكر الله وطاعته.
ويوضح ذلك قوله تعالى: {فَإِنِ ٱسْتَكْبَرُواْ فَٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْأمُونَ} وقوله تعالى: {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـٰؤُلاۤءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَـٰفِرِينَ}، كما قدمنا إيضاحه في آخر سورة فصلت. قوله تعالى: {أَلاَ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ}. أكد جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أنه هو الغفور الرحيم، وبَين فيها أنه هو وحده المختص بذلك.
وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية الكريمة، قد جاءا موضحين في غير هذا الموضع.
أما اختصاصه هو جل وعلا بغفران الذنوب، فقد ذكره في قوله تعالى: {وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلاَّ ٱللَّهُ}، والمعنى لا يغفر الذنوب إلا الله، وفي الحديث «رب إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت» الحديث. وفي حديث سيد الاستغفار: «اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني» الحديث. وفيه «وأبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت».
ووجه دلالة هذه الآية على أن الله وحده هو الذي يغفر الذنوب، هو أن ضمير الفصل بين المسند والمسند إليه في قوله: {أَلاَ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ} يدل على ذلك كما هو معلوم في محله، وأما الأمر الثاني، هو توكيده تعالى أنه هو الغفور الرحيم فإنه أكد ذلك هنا بحرف الاستفتاح الذي هو ألا، وحرف التوكيد الذي هو إن.
وقد أوضح ذلك في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ}. وقوله تعالى: {وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ}. وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ وَٰسِعُ ٱلْمَغْفِرَةِ} وقوله في الكفار: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ}. وقوله في الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة {أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَىٰ ٱللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} والآيات بمثل ذلك كثيرة.
فنرجو الله جل وعلا الكريم الرؤوف الغفور الرحيم، أن يغفر لنا جميع ذنوبنا ويتجاوز عن جميع سيئاتنا ويدخلنا جنته على ما كان منا، ويغفر لإخواننا المسلمين. إنه غفور رحيم. قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ ٱللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ}.
قوله تعالى في هذه الآية الكريمة، {ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ} أي أشركوا معه شركاء يعبدونهم من دونه، كما أوضح تعالى ذلك في قوله: {وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِى مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ كَـٰذِبٌ كَـفَّارٌ} وقوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّـٰغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَـٰتِ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ} وقوله تعالى: {إِنَّهُمُ ٱتَّخَذُوا ٱلشَّيَـٰطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} وقوله تعالى: {إِنَّمَا ذٰلِكُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} أي يخوفكم أولياءه. وقوله تعالى: {فَقَـٰتِلُوۤاْ أَوْلِيَاءَ ٱلشَّيْطَـٰنِ}.
وقد وبخهم تعالى على اتخاذهم الشيطان وذريته أولياء من دونه تعالى في قوله: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّـٰلِمِينَ بَدَلا}.
وقد أمر جل وعلا باتباع هذا القرآن العظيم، ناهياً عن اتباع الأولياء المتخذين من دونه تعالى، في أول سورة الأعراف في قوله تعالى {ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ}.
وقد علمت من الآيات المذكورة أن أولياء الكفار الذين اتخذوهم وعبدوهم من دون الله نوعان: الأول منهما: الشياطين، ومعنى عبادتهم للشيطان طاعتهم له فيما يزين لهم، من الكفر والمعاصي، فشركهم به شرك طاعة، والآيات الدالة على عبادتهم للشياطين بالمعنى المذكور كثيرة كقوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰبَنِىۤ ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَـٰنَ}. وقوله تعالى عن إبراهيم {ٱلشَّيْطَـٰنَ إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ كَانَ}. وقوله تعالى: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَـٰثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَـٰناً مَّرِيد} أي وما يعبدون إلا شيطاناً مريداً. وقوله تعالى {قَالُواْ سُبْحَـٰنَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ٱلْجِنَّ أَكْـثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} وقوله تعالى {إِنَّمَا سُلْطَـٰنُهُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَٱلَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} وقوله تعالى {وَإِنَّ ٱلشَّيَـٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَـٰدِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} إلى غير ذلك من الآيات.
والنوع الثاني: هو الأوثان، كما بين ذلك تعالى بقوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ}.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {ٱللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ}.
أي رقيب عليهم حافظ عليهم كل ما يعملونه من الكفر والمعاصي، وفي أوله اتخاذهم الأولياء، يعبدونهم من دون الله.
وفي الآية تهديد عظيم لكل مشرك.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ}.
أي لست يا محمد، بموكل عليهم تهدي من شئت هدايته منهم، بل إنما أنت نذير فحسب، وقد بلغت ونصحت.
والوكيل عليهم هو الذي يهدي من يشاء منهم ويضل من يشاء كما قال تعالى: {إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ}. وقال تعالى: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى ٱلاٌّرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَيَجْعَلُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} وقال تعالى: {وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن ٱسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً فِى ٱلاٌّرْضِ أَوْ سُلَّماً فِى ٱلسَّمَآءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِأايَةٍ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى ٱلْهُدَىٰ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْجَـٰهِلِينَ} والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وبما ذكرنا تعلم أن التحقيق في قوله تعالى: {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ}، وما جرى مجراه من الآيات ليس منسوخاً بآية السيف والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْءَاناً عَرَبِيّ}. وقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الشعراء في الكلام على قوله تعالى: {لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُّبِينٍ}، وفي الزمر في الكلام على قوله تعالى: {قُرْءَاناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِى عِوَجٍ} وفي غير ذلك من المواضع. قوله تعالى: {لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَ}. خص الله تبارك وتعالى في هذه الآية الكريمة إنذاره، صلى الله عليه وسلم بأم القرى ومن حولها، والمراد بأم القرى مكة حرسها الله.
ولكنه أوضح في آيات أخر أن إنذاره عام لجميع الثقلين كقوله تعالى {قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} وقوله تعالى: {تَبَارَكَ ٱلَّذِى نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَـٰلَمِينَ نَذِيرا} وقوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ}، كما أوضحنا ذلك مراراً في هذا الكتاب المبارك.
وقد ذكرنا الجواب عن تخصيص أم القرى ومن حولها هنا وفي سورة الأنعام في قوله تعالى: {وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلاٌّخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ}، في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، فقلنا فيه: والجواب من وجهين.
الأول: أن المراد بقوله: {وَمَنْ حَوْلَهَ} شامل لجميع الأرض، كما رواه ابن جرير وغيره، عن ابن عباس.
الوجه الثاني: أنا لو سلمنا تسليماً جدلياً، أن قوله {وَمَنْ حَوْلَهَ} لا يتناول إلا القريب من مكة المكرمة حرسها الله، كجزيرة العرب مثلاً، فإن الآيات الأخر، نصت على العموم كقوله {لِيَكُونَ لِلْعَـٰلَمِينَ نَذِير} وذكر بعض أفراد العام بحكم العام، لا يخصصه عند عامة العلماء، ولم يخالف فيه إلا أبو ثور.
وقد قدمنا ذلك واضحاً بأدلته في سورة المائدة، فالآية على هذا القول كقوله {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلاٌّقْرَبِينَ} فإنه لا يدل على عدم إنذار غيرهم، كما هو واضح. والعلم عند الله تعالى ا هـ منه. قوله تعالى: {وَتُنذِرَ يَوْمَ ٱلْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ}.
تضمنت هذه الآية الكريمة أمرين:
أحدهما: أن من حكم إيحائه تعالى، إلى نبينا صلى الله عليه وسلم هذا القرآن العربي، إنذار يوم الجمع، فقوله تعالى: {وَتُنذِرَ يَوْمَ ٱلْجَمْعِ} معطوف على قوله: {لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ} أي لا بد أن تنذر أم القرى وأن تنذر يوم الجمع فحذف في الأول، أحد المفعولين وحذف في الثاني أحدهما، فكان ما أثبت في كل منهما، دليلاً على ما حذف في الثاني، ففي الأول حذف المفعول الثاني، والتقدير «لتنذر أم القرى» أي أهل مكة ومن حولها، عذاباً شديداً إن لم يؤمنوا، وفي الثاني حذف المفعول الأول، أي وتنذر الناس يوم الجمع وهو يوم القيامة أي تخوفهم مما فيه من الأهوال، والأوجال ليستعدوا لذلك في دار الدنيا.
والثاني: أن يوم الجمع المذكور لا ريب فيه، أي لا شك في وقوعه، وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية الكريمة، جاءا موضحين في آيات أخر.
أما تخويفه الناس يوم القيامة، فقد ذكر في مواضع من كتاب الله كقوله تعالى: {وَٱتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ}. وقوله تعالى {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ ٱلاٌّزِفَةِ}. وقوله تعالى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ ٱلْوِلْدَٰنَ شِيباً السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ}: وقوله تعالى: {أَلا يَظُنُّ أُوْلَـٰئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ} والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وأما الثاني منهما: وهو كون يوم القيامة لا ريب فيه فقد جاء في مواضع أخر كقوله تعالى: {ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِا} وقوله {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَـٰهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِا} وقوله تعالى: {وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا}. وقوله تعالى {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَٱلسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِى مَا ٱلسَّاعَةُ}. إلى غير ذلك من الآيات.
وإنما سمي يوم القيامة يوم الجمع، لأن الله يجمع فيه جميع الخلائق. والآيات الموضحة لهذا المعنى، كثيرة كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ ٱلاٌّوَّلِينَ وَٱلاٌّخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَـٰتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} وقوله تعالى: {هَـٰذَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ جَمَعْنَـٰكُمْ وَٱلاٌّوَّلِينَ}. وقوله تعالى: {ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ}. وقوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ ٱلْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلتَّغَابُنِ} وقوله تعالى {ذٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ ٱلنَّاسُ وَذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} وقوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَـٰهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} وقوله تعالى: {وَحَشَرْنَـٰهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَد}.
وقد بين تعالى شمول ذلك الجمع لجميع الدواب والطير في قوله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِى ٱلاٌّرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَـٰلُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِى ٱلكِتَـٰبِ مِن شَىْءٍ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}،والآيات الدالة على الجمع المذكورة كثيرة. قوله تعالى: {فَرِيقٌ فِى ٱلْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِى ٱلسَّعِيرِ}. ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الله خلق الخلق، وجعل منهم فريقاً سعداء، وهم أهل الجنة، وفريقاً أشقياء وهم أصحاب السعير، جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى: {هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} وقوله تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ} أي ولذلك الاختلاف، إلى مؤمن وكافر وشقي وسعيد، خلقهم على الصحيح، ونصوص الوحي الدالة على ذلك كثيرة جداً.
وقد ذكرنا في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، وجه الجمع بين قوله: {وَلِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ} على التفسير المذكور، وبين قوله {وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}، وسنذكر ذلك إن شاء الله في سورة الذاريات.
وقد قدمنا معنى السعير بشواهده العربية في أول سورة الحج في الكلام على قوله تعالى: {وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ}، والجنة في لغة العرب البستان.
ومنه قول زهير بن أبي سلمى: كأن عيني في غربي مقتلة من النواضح تسقي جنة سحقا

فقوله: جنة سحقا، يعني بستاناً طويل النخل، وفي اصطلاح الشرع هي دار الكرامة التي أعد الله لأوليائه يوم القيامة.
والفريق: الطائفة من الناس، ويجوز تعدده إلى أكثر من اثنين، ومنه قول نصيب: فقال فريق القوم لا، وفريقهم نعم وفريق قال ويحك ما ندري
والمسوغ للابتداء بالنكرة في قوله: فريق في الجنة، أنه في معرض التفصيل.
ونظيره من كلام العرب قول امرىء القيس: فلما دنوت تسديتها فثوب نسيت وثوب أجر
قوله تعالى: {وَمَا ٱخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى ٱللَّهِ}. ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن ما اختلف فيه الناس من الأحكام فحكمه إلى الله وحده، لا إلى غيره، جاء موضحاً في آيات كثيرة.
فالإشراك بالله في حكمه كالإشراك به في عبادته قال في حكمه {وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدً}، وفي قراءة ابن عامر من السبعة {وَلاَ تُشْرِكُواْ فِى حُكْمِهِ أَحَدً} بصيغة النهي.
وقال في الإشراك به في عبادته: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـٰلِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَ}، فالأمران سواء كما ترى إيضاحه إن شاء الله.
وبذلك تعلم أن الحلال هو ما أحله الله، والحرام هو ما حرمه الله، والدين هو ما شرعه الله، فكل تشريع من غيره باطل، والعمل به بدل تشريع الله عند من يعتقد أنه مثله أو خير منه، كفر بواح لانزاع فيه.
وقد دل القرآن في آيات كثيرة، على أنه لا حكم لغير الله، وأن اتباع تشريع غيره كفر به، فمن الآيات الدالة على أن الحكم لله وحده قوله تعالى {إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ}، وقوله تعالى: {إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ}. وقوله تعالى: {إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ يَقُصُّ ٱلْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ ٱلْفَـٰصِلِينَ} وقوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ}، وقوله تعالى: {وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدً}، وقوله تعالى: {كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، وقوله تعالى {لَهُ ٱلْحَمْدُ فِى ٱلاٍّولَىٰ وَٱلاٌّخِرَةِ وَلَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وقد قدمنا إيضاحها في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى: {وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدً}.
وأما الآيات الدالة على أن اتباع تشريع غير الله المذكور كفر فهي كثيرة جداً، كقوله تعالى: {إِنَّمَا سُلْطَـٰنُهُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَٱلَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ}، وقوله تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}، وقوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰبَنِىۤ ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَـٰنَ}، والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً، كما تقدم إيضاحه في الكهف.
مسألة
اعلم أن الله جل وعلا بين في آيات كثيرة، صفات من يستحق أن يكون الحكم له، فعلى كل عاقل أن يتأمل الصفات المذكورة، التي سنوضحها الآن إن شاء الله، ويقابلها مع صفات البشر المشرعين للقوانين الوضعية، فينظر هل تنطبق عليهم صفات من له التشريع.
سبحان الله وتعالى عن ذلك.
فإن كانت تنطبق عليهم ولن تكون، فليتبع تشريعهم.
وإن ظهر يقيناً أنهم أحقر وأخس وأذل وأصغر من ذلك، فليقف بهم عند حدهم، ولا يجاوزه بهم إلى مقام الربوبية.
سبحانه وتعالى أن يكون له شريك في عبادته، أو حكمه أو ملكه.
فمن الآيات القرآنية التي أوضح بها تعالى صفات من له الحكم والتشريع قوله هنا: {وَمَا ٱخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى ٱللَّهِ}، ثم قال مبيناً صفات من له الحكم {ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبِّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ فَاطِرُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجاً وَمِنَ ٱلاٌّنْعَـٰمِ أَزْوٰجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ لَهُ مَقَـلِيدُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ}.
فهل في الكفرة الفجرة المشرعين للنظم الشيطانية، من يستحق أن يوصف بأنه الرب الذي تفوض إليه الأمور، ويتوكل عليه، وأنه فاطر السماوات والأرض أي خالقهما ومخترعهما، على غير مثال سابق، وأنه هو الذي خلق للبشر أزواجاً، وخلق لهم أزواج الأنعام الثمانية المذكورة في قوله تعالى: {ثَمَـٰنِيَةَ أَزْوَٰجٍ مِّنَ ٱلضَّأْنِ ٱثْنَيْنِ}، وأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ} وأنا {لَّهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضِ}، وأنه {هُوَ ٱلَّذِى * يَبْسُطُ ٱلرّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ} أي يضيقه على من يشاء {وَهُوَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ}.
فعليكم أيها المسلمون أن تتفهموا صفات من يستحق أن يشرع ويحلل ويحرم، ولا تقبلوا تشريعاً من كافر خسيس حقير جاهل.
ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلاٌّخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا}،فقوله فيها: {فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ} كقوله في هذه {فَحُكْمُهُ إِلَى ٱللَّهِ}.
وقد عجب نبيه صلى الله عليه وسلم بعد قوله: {فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ} من الذين يدعون الإيمان مع أنهم يريدون المحاكمة، إلى من لم يتصف بصفات من له الحكم، المعبر عنه في الآية بالطاغوت، وكل تحاكم إلى غير شرع الله فهو تحاكم إلى الطاغوت، وذلك في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّـٰغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوۤاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ ٱلشَّيْطَـٰنُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَـٰلاً بَعِيدا}.
فالكفر بالطاغوت، الذي صرح الله بأنه أمرهم به في هذه الآية، شرط في الإيمان كما بينه تعالى في قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّـٰغُوتِ وَيُؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ}.
فيفهم منه أن من لم يكفر بالطاغوت لم يتمسك بالعروة الوثقى، ومن لم يستمسك بها فهو مترد مع الهالكين.
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {لَهُ غَيْبُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلاٌّرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا}.
فهل في الكفرة الفجرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأن له غيب السماوات والأرض؟ وأن يبالغ في سمعه وبصره لإحاطة سمعه بكل المسموعات وبصره بكل المبصرات؟
وأنه ليس لأحد دونه من ولي؟
سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً؟
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً ءَاخَرَ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.
فهل في الكفرة الفجرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأنه الإله الواحد؟ وأن كل شيء هالك إلا وجهه؟ وأن الخلائق يرجعون إليه؟
تبارك ربنا وتعاظم وتقدس أن يوصف أخس خلقه بصفاته.
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ كَـفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فَٱلْحُكْمُ للَّهِ ٱلْعَلِـىِّ ٱلْكَبِيرِ}.
فهل في الكفرة الفجرة المشرعين النظم الشيطانية، من يستحق أن يوصف في أعظم كتاب سماوي، بأنه العلي الكبير؟
سبحانك ربنا وتعاليت عن كل ما لا يليق بكمالك وجلالك.
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {وَهُوَ ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ ٱلْحَمْدُ فِى ٱلاٍّولَىٰ وَٱلاٌّخِرَةِ وَلَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلَّيْلَ سَرْمَداً إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلنَّهَارَ سَرْمَداً إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
فهل في مشرعي القوانين الوضعية، من يستحق أن يوصف بأن له الحمد في الأولى والآخرة، وأنه هو الذي يصرف الليل والنهار مبيناً بذلك كمال قدرته، وعظمة إنعامه على خلقه.
سبحان خالق السماوات والأرض، جل وعلا أن يكون له شريك في حكمه أو عبادته، أو ملكه.
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}.
فهل في أولئك من يستحق أن يوصف بأنه هو الإله المعبود وحده، وأن عبادته وحده هي الدين القيم؟
سبحان الله وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
ومنها قوله تعالى: {إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ}.
فهل فيهم من يستحق أن يتوكل عليه، وتفوض الأمور إليه؟
ومنها قوله تعالى: {وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَٱحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَـٰسِقُونَ * أَفَحُكْمَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.
فهل في أولئك المشرعين من يستحق أن يوصف بأن حكمه بما أنزل الله وأنه مخالف لاتباع الهوى؟ وأن من تولى عنه أصابه الله ببعض ذنوبه؟ لأن الذنوب لا يؤاخذ بجميعها إلا في الآخرة؟ وأنه لا حكم أحسن من حكمه لقوم يوقنون؟
سبحان ربنا وتعالى عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله.
ومنها قوله تعالى: {إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ يَقُصُّ ٱلْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ ٱلْفَـٰصِلِينَ}.
فهل فيهم من يستحق أن يوصف بأنه يقص الحق، وأنه خير الفاصلين؟
ومنها قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْتَغِى حَكَماً وَهُوَ ٱلَّذِىۤ أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ ٱلْكِتَـٰبَ مُفَصَّلاً وَٱلَّذِينَ ءَاتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِٱلْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلا}.
فهل في أولئك المذكورين من يستحق أن يوصف بأنه هو الذي أنزل هذا الكتاب مفصلاً، الذي يشهد أهل الكتاب أنه منزل من ربك بالحق، وبأنه تمت كلماته صدقاً وعدلاً أي صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأحكام، وأنه لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم؟
سبحان ربنا ما أعظمه وما أجل شأنه.
ومنها قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى ٱللَّهِ تَفْتَرُونَ}.
فهل في أولئك المذكورين من يستحق أن يوصف بأنه هو الذي ينزل الرزق للخلائق، وأنه لا يمكن أن يكون تحليل ولا تحريم إلا بإذنه؟ لأن من الضروري أن من خلق الرزق وأنزله هو الذي له التصرف فيه بالتحليل والتحريم؟
سبحانه جل وعلا أن يكون له شريك في التحليل والتحريم.
ومنها قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ}.
فهل فيهم من يستحق الوصف بذلك؟
سبحان ربنا وتعالى عن ذلك.
ومنها قوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ٱلْكَذِبَ هَـٰذَا حَلَـٰلٌ وَهَـٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَـٰعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
فقد أوضحت الآية أن المشرعين غير ما شرعه الله إنما تصف ألسنتهم الكذب، لأجل أن يفتروه على الله، وأنهم لا يفلحون وأنهم يمتعون قليلاً ثم يعذبون العذاب الأليم، وذلك واضح في بعد صفاتهم من صفات من له أن يحلل ويحرم.
ومنها قوله تعالى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَ هَـٰذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ}.
فقوله: {هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ} صيغة تعجيز، فهم عاجزون عن بيان مستند التحريم. وذلك واضح في أن غير الله لا يتصف بصفات التحليل ولا التحريم. ولما كان التشريع وجميع الأحكام، شرعية كانت أو كونية قدرية، من خصائص الربوبية. كما دلت عليه الآيات المذكورة كان كل من اتبع تشريعاً غير تشريع الله قد اتخذ ذلك المشرع ربا، وأشركه مع الله.
والآيات الدالة على هذا كثيرة، وقد قدمناها مراراً وسنعيد منها ما فيه كفاية، فمن ذلك وهو من أوضحه وأصرحه، أنه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وقعت مناظرة بين حزب الرحمن، وحزب الشيطان، في حكم من أحكام التحريم والتحليل وحزب الرحمن يتبعون تشريع الرحمن، في وحيه في تحريمه، وحزب الشيطان يتبعون وحي الشيطان في تحليله.
وقد حكم الله بينهما وأفتى فيما تنازعوا فيه فتوى سماوية قرآنية تتلى في سورة الأنعام.
وذلك أن الشيطان لما أوحى إلى أوليائه فقال لهم في وحيه: سلوا محمداً عن الشاة تصبح ميتة من هو الذي قتلها؟ فأجابوهم أن الله هو الذي قتلها.
فقالوا: الميتة إذاً ذبيحة الله، وما ذبحه الله كيف تقولون إنه حرام؟ مع أنكم تقولون إنما ذبحتموه بأيديكم حلال، فأنتم إذا أحسن من الله وأحل ذبيحة.
فأنزل الله بإجماع من يعتد به من أهل العلم قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ} يعني الميتة أي وإن زعم الكفار أن الله ذكاها بيده الكريمة بسكين من ذهب: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} والضمير عائد إلى الأكل المفهوم من قوله: {وَلاَ تَأْكُلُوا} وقوله: {لَفِسْقٌ} أي خروج عن طاعة الله، واتباع لتشريع الشيطان: {وَإِنَّ ٱلشَّيَـٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَـٰدِلُوكُمْ}. أي بقولهم: ما ذبحتموه حلال وما ذبحه الله حرام، فأنتم إذاً أحسن من الله، وأحل تذكية، ثم بين الفتوى السماوية من رب العالمين، في الحكم بين الفريقين في قوله تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} فهي فتوى سماوية من الخالق جل وعلا صرح فيها بأن متبع تشريع الشيطان المخالف لتشريع الرحمن مشرك بالله.
وهذه الآية الكريمة مثل بها بعض علماء العربية لحذف اللام الموطئة للقسم، والدليل على اللام الموطئة المحذوفة عدم اقتران جملة إنكم لمشركون بالفاء، لأنه لو كان شرطاً لم يسبقه قسم لقيل: فإنكم لمشركون على حد قوله في الخلاصة: واقرن بفا حتما جواباً لو جعل شرطاً لأن أو غيرها لم ينجعل

وهو مذهب سيبويه، وهو الصحيح، وحذف الفاء في مثل ذلك من ضرورة الشعر.
وما زعمه بعضهم من أنه يجوز مطلقاً، وأن ذلك دلت عليه آيتان من كتاب الله.
إحداهما قوله تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}.
والثانية قوله تعالى: {وَمَآ أَصَـٰبَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} بحذف الفاء في قراءة نافع وابن عامر من السبعة خلاف التحقيق.
بل المسوغ لحذف الفاء في آية: {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} تقدير القسم المحذوف قبل الشرط المدلول عليه بحذف الفاء على حد قوله في الخلاصة: واحذف لدى اجتماع شرط وقسم جواب ما أحرت فهو ملتزم

وعليه: فجملة إنكم لمشركون جواب القسم المقدر، وجواب الشرط محذوف فلا دليل في الآية لحذف الفاء المذكور.
والمسوغ له في آية {بِمَا كَسَبَتْ * أَيْدِيكُم} أن ما في قراءة نافع وابن عامر موصولة كما جزم به غير واحد من المحققين، أي والذي أصابكم من مصيبة كائن وواقع بسبب ما كسبت أيديكم.
وأما على قراءة الجمهور: فما موصولة أيضاً، ودخول الفاء في خبر الموصول جائز كما أن عدمه جائز فكلتا القراءتين جارية على أمر جائز.
ومثال دخول الفاء في خبر الموصول قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ بِٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُم عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} وهو كثير في القرآن وقال بعضهم: إن ما في قراء الجمهور شرطية، وعليه فاقتران الجزاء بالفاء واجب أما على قراءة نافع وابن عامر، فهي موصولة ليس إلا كما هو التحقيق إن شاء الله.
وكون ما شرطية على قراءة وموصولة على قراءة لا إشكال فيه. لما قدمنا من أن القراءتين في الآية الواحدة كالآيتين.
ومن الآيات الدالة على نحو ما دلت عليه آية الأنعام المذكورة قوله تعالى: {إِنَّمَا سُلْطَـٰنُهُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَٱلَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ}، فصرح بتوليهم للشيطان أي باتباع ما يزين لهم من الكفر والمعاصي مخالفاً لما جاءت به الرسل، ثم صرح بأن ذلك إشراك به في قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} وصرح أن الطاعة في ذلك الذي يشرعه الشيطان لهم ويزينه عبادة للشيطان.
ومعلوم أن من عبد الشيطان فقد أشرك بالرحمٰن قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰبَنِىۤ ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَـٰنَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ ٱعْبُدُونِى هَـٰذَا صِرَٰطٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِير}، ويدخل فيهم متبعوا نظام الشيطان دخولاً أولياء {أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ}.
ثم بين المصير الأخير لمن كان يعبد الشيطان في دار الدنيا، في قوله تعالى: {هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ ٱلَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَٱصْلَوْهَا ٱلْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَٰهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} وقال تعالى: عن نبيه إبراهيم {يٰأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَـٰنَ إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ عَصِيّ} فقوله: لا تعبد الشيطان: أي باتباع ما يشرعه من الكفر والمعاصي، مخالفاً لما شرعه الله.
وقال تعالى: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَـٰثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَـٰناً مَّرِيدا} فقوله: {وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَـٰن} يعني ما يعبدون إلا شيطاناً مريداً.
وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَـٰئِكَةِ أَهَـٰؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ قَالُواْ سُبْحَـٰنَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ٱلْجِنَّ أَكْـثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ}.
فقوله تعالى: {بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ٱلْجِنَّ} أي يتبعون الشياطين ويطيعونهم فيما يشرعون ويزينون لهم، من الكفر والمعاصي على أصح التفسيرين.
والشيطان عالم بأن طاعتهم له المذكورة إشراك به كما صرح بذلك وتبرأ منهم في الآخرة، كما نص الله عليه في سورة إبراهيم في قوله تعالى: {وَقَالَ ٱلشَّيْطَـٰنُ لَمَّا قُضِىَ ٱلاٌّمْرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} إلى قوله: {إِنِّى كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ} فقد اعترف بأنهم كانوا مشركين به من قبل أي في دار الدنيا، ولم يكفر بشركهم ذلك إلا يوم القيامة.
وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى الذي بيننا في الحديث لما سأله عدي بن حاتم رضي الله عنه عن قوله: {ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَـٰرَهُمْ وَرُهْبَـٰنَهُمْ أَرْبَاب} كيف اتخذوهم أرباباً؟ وأجابه صلى الله عليه وسلم «أنهم أحلوا لهم ما حرم الله وحرموا عليهم ما أحل الله فاتبعوهم، وبذلك الاتباع اتخذوهم أرباباً».
ومن أصرح الأدلة في هذا أن الكفار إذا أحلوا شيئاً، يعلمون أن الله حرمه وحرموا شيئاً يعلمون أن الله أحله، فإنهم يزدادون كفراً جديداً بذلك، مع كفرهم الأول، وذلك في قوله تعالى: {إِنَّمَا ٱلنَّسِىۤءُ زِيَادَةٌ فِى ٱلْكُفْرِ} إلى قوله: {وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَـٰفِرِينَ}.
وعلى كل حال فلا شك أن كل من أطاع غير الله، في تشريع مخالف لما شرعه الله، فقد أشرك به مع الله كما يدل لذلك قوله: {وَكَذٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَـٰدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ} فسماهم شركاء لما أطاعوهم في قتل الأولاد.
وقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ ٱللَّهُ} فقد سمى تعالى الذين يشرعون من الدين ما لم يأذن به الله شركاء، ومما يزيد ذلك إيضاحاً، أن ما ذكره الله عن الشيطان يوم القيامة، من أنه يقول للذين كانوا يشركون به في دار الدنيا، إني كفرت بما أشركتمون من قبل، أن ذلك الإشراك المذكور ليس فيه شيء زائد على أنه دعاهم إلى طاعته فاستجابوا له كما صرح بذلك في قوله تعالى عنه: {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَـٰنٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِى}، وهو واضح كما ترى.