تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 106 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 106

105

175- "فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به" أي: بالله، وقيل: بالنور المذكور "فسيدخلهم في رحمة منه" يرحمهم بها "وفضل" يتفضل به عليهم "ويهديهم إليه" أي: إلى امتثال ما أمر به واجتناب ما نهى عنه أو إليه سبحانه وتعالى باعتبار مصيرهم إلى جزائه وتفضله "صراطاً مستقيماً" أي: طريقاً يسلكونه إليه مستعيماً لا عوج فيه، وهو التمسك بدين الإسلام وترك غيره من الأديان، قال أبو علي الفارسي: الهاء في قوله "إليه" راجعة إلى ما تقدم من اسم الله، وقيل: راجعة إلى القرآن، وقيل: إلى الفضل، وقيل: إلى الرحمة والفضل لأنهما بمعنى الثواب. وانتصاب صراطاً على أنه مفعول ثان للفعل المذكور، وقيل: على الحال. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال "لن يستنكف المسيح" لن يستكبر. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والإسماعيلي في معجمه بسند ضعيف عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله "فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله" قال: أجورهم يدخلهم الجنة ويزيدهم من فضله الشفاعة فيمن وجبت له النار ممن صنع إليهم المعروف في الدنيا. وقد ساقه ابن كثير في تفسيره فقال: وقد روى ابن مردويه من طريق بقية عن إسماعيل بن عبد الله الكندي عن الأعمش عن شقيق عن ابن مسعود فذكره وقال: هذا إسناد لا يثبت، وإذا روي عن ابن مسعود موقوفاً فهو جيد. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة "قد جاءكم برهان" أي: بينة "وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً" قال: هذا القرآن. وأخرجا أيضاً عن مجاهد قال: برهان حجة. وأخرجا أيضاً عن ابن جريج في قوله "واعتصموا به" قال: القرآن.
قد تقدم الكلام في الكلالة في أول هذه السورة، وسيأتي ذكر المتفتي المقصود بقوله 176- "يستفتونك". قوله "إن امرؤ هلك" أي: إن امرؤ هلك كما تقدم في قوله "وإن امرأة خافت". وقوله "ليس له ولد" إما صفة لامرؤ أو حال، ولا وجه للمنع من كونه حالاً، والولد يطلق على الذكر والأنثى، واقتصر على عدم الولد هنا مع أن عدم الوالد معتبر في الكلالة اتكالاً على ظهور ذلك، قيل: والمراد بالولد هنا الابن، وهو أحد معنيي المشترك، لأن البنت لا تسقط الأخت. وقوله "وله أخت" عطف على قوله "ليس له ولد". والمراد بالأخت هنا هي الأخت لأبوين أو لأب لا لأم، فإن فرضها السدس كما ذكر سابقاً. وقد ذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى أن الأخوات لأبوين أو لأب عصبة للبنات وإن لم يكن معهم أخ. وذهب ابن عباس إلى أن الأخوات لا يعصبن البنات، وإليه ذهب داود الظاهري وطائفة وقالوا: إنه لا ميراث للأخت لأبوين أو لأب مع البنت، واحتجوا بظاهر هذه الآية، فإنه جعل عدم الولد المتناول للذكر والأنثى قيداً في ميراث الأخت، وهذا استدلال صحيح لو لم يرد في السنة ما يدل على ثبوت ميراث الأخت مع البنت، وهو ما ثبت في الصحيح أن معاذاً قضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في بنت وأخت فجعل للبنت النصف وللأخت النصف. وثبت في الصحيح أيضاً "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بنت وبنت ابن وأخت فجعل للبنت النصف ولبنت الابن السدس وللأخت الباقي" فكانت هذه السنة مقتضية لتفسير الولد بالابن دون البنت. قوله "وهو يرثها" أي المرء يرثها: أي يرث الأخت "إن لم يكن لها ولد" ذكر إن كان المراد بإرثه لها حيازته لجميع ما تركته، وإن كان المراد ثبوت ميراثه له في الجملة أعم من أن يكون كلاً أو بعضاً صح تفسير الولد بما يتناول الذكر والأنثى، واقتصر سبحانه في هذه الآية على نفي الولد مع كون الأب يسقط الأخ كما يسقطه الولد الذكر لأن المراد بيان حقوق الأخ مع الولد فقط هنا. وأما سقوطه مع الأب فقد تبين بالسنة كما ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر" والأب أولى من الأخ "فإن كانتا اثنتين" أي: فإن كان من يرث بالأخوة اثنتين، والعطف على الشرطية السابقة والتأنيث والتثنية، وكذلك الجمع في قوله "وإن كانوا إخوة" باعتبار الخبر "فلهما الثلثان مما ترك" المرء إن لم يكن له ولد كما سلف وما فوق الاثنتين من الأخوات يكون لهن الثلثان بالأولى "وإن كانوا" أي: من يرث بالأخوة "إخوة رجالاً ونساءً" أي: مختلطين ذكوراً وإناثاً "فللذكر" منهم "مثل حظ الأنثيين" تعصيباً "يبين الله لكم أن تضلوا" أي: يبين لكم حكم الكلالة وسائر الأحكام كراهة أن تضلوا، هكذا حكاه القرطبي عن البصريين. وقال الكسائي: المعنى لئلا تضلوا، ووافقه الفراء وغيره من الكوفيين "والله بكل شيء" من الأشياء التي هذه الأحكام المذكورة منها "عليم" أي: كثير العلم. وقد أخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن جابر بن عبد الله قال: "دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض لا أعقل، فتوضأ ثم صب علي فعقلت، فقلت: إنه لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث؟ فنزلت آية الفرائض". وأخرجه عنه ابن سعد وابن أبي حاتم بلفظ أنزلت في "يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة". وأخرج ابن راهويه وابن مردويه عن عمر أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تورث الكلالة: فأنزل الله "يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة" الآية. وأخرج مالك ومسلم وابن جرير والبيهقي عن عمر قال: " ما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر مما سألته في الكلالة حتى طعن بأصبعه في صدري وقال: ما تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء". وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والبيهقي عن البراء بن عازب قال:" جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الكلالة؟ فقال: تكفيك آية الصيف". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عمر قال: ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إلينا فيهن عهداً ننتهي إليه: الجد، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن البراء بن عازب قال: آخر سورة نزلت كاملة براءة، وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء "يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة". وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن ابن سيرين قال: كان عمر بن الخطاب إذا قرأ "يبين الله لكم أن تضلوا" قال: اللهم من بينت له الكلالة فلم تبين لي. وقد أوضحنا الكلام خلافاً واستدلالاً وترجيحاً في شأن الكلالة في أوائل هذه السورة فلا نعيده. وإلى هنا انتهى الجزء الأول من التفسير المبارك: المسمى فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير بقلم مؤلفه الراجي من ربه سبحانه أن يعينه على تمامه، وينفع به من شاء من عباده، ويجعله ذخيرة له عند وفوده إلى الدار الآخرة محمد بن علي بن محمد الشوكاني غفر الله لهما. وكان الانتهاء إلى هذا الموضع في يوم العيد الأكبر، يوم النحر المبارك من سنة أربع وعشرين بعد مائتين وألف من الهجرة النبوية، حامداً لله ومصلياً ومسلماً على رسوله وحبيبه محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه. اهـ. الحمد له: كمل مساعاً، والحمد لله في شهر القعدة من عام سنة 1232. يحيى بن علي الشوكاني.سورة المائدة بسم الله الرحمن الرحيم قال القرطبي: هي مدنية بالإجماع. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال: المائدة مدنية. وأخرج أحمد والنسائي وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن جبير بن نفيرقال: حججت فدخلت على عائشة، فقالت لي: يا جبير تقرأ المائدة؟ فقلت: نعم، فقالت: أما إنها آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم من حرام فحرموه. وأخرج أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عبد الله بن عمر قال: آخر سورة نزلت سورة المائدة والفتح. وأخرج أحمد عنه قال: أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته فلم تستطع أن تحمله، فنزل عنها. قال ابن كثير: تفرد به أحمد. قلت: وفي إسناده ابن لهيعة وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن جرير ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة والطبراني وأبو نعيم في الدلائل والبيهقي في شعب الإيمان عن أسماء بنت يزيد نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة في مسنده والبغوي في معجمه وابن مردويه والبيهقي في دلائل النبوة عن أم عمرو بنت عيسى عن عمها نحوه أيضاً. وأخرج أبو عبيد عن محمد بن كعب القرظي نحوه. وزاد أنها نزلت في حجة الوداع فيما بين مكة والمدينة. وهكذا أخرج ابن جرير عن الربيع بن أنس بهذه الزيادة وأخرج أبو عبيد عن ضمرة بن حبيب وعطية بن قيس قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المائدة من آخر القرآن تنزيلاً، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها". وأخرج أبو داود والنحاس كلاهما في النسخ عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل قال: لم ينسخ من المائدة شيء. وكذا أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر عنه. وكذا أخرجه عبد بن حميد و أبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر عن الشعبي. وكذا أخرجه عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن المنذر عن الحسن البصري. وأخرج عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر عن الشعبي قال: لم ينسخ من المائدة إلا هذه الآية: "يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد". وأخرج أبو داود في ناسخه وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: نسخ من هذه السورة آيتان، آية القلائد وقوله: "فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم" وأخرج عبد بن حميد في مسنده عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في خطبته سورة المائدة والتوبة، وذكر النقاش عن أبي سلمة أنه قال: "لما رجع صلى الله عليه وسلم من الحديبية قال: يا علي أشعرت أنها نزلت علي سورة المائدة؟ ونعمت الفائدة" قال ابن العربي: هذا حديث موضوع لا يحل لمسلم اعتقاده وقال ابن عطية: هذا عندي لا يشبه كلام النبي صلى الله عليه وسلم. هذه الآية التي افتتح الله بها هذه السورة إلى قوله: 1- "إن الله يحكم ما يريد" فيها من البلاغة ما تتقاصر عنده القوى البشرية مع شمولها لأحكام عدة: منها الوفاء بالعقود، ومنها تحليل بهيمة الأنعام، ومنها استثناء ما سيتلى مما لا يحل ومنها تحريم الصيد على المحرم، ومنها إباحة الصيد لمن ليس بمحرم. وقد حكى النقاش أن أصحاب الفيلسوف الكندي قالوا له: أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن، فقال: نعم أعمل مثل بعضه، فاحتجب أياماً كثيرة ثم خرج فقال: والله ما أقدر ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة، فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ونهى عن النكث، وحلل تحليلاً عاماً، ثم استثنى بعد استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا. قوله: "أوفوا بالعقود" يقال: أوفى ووفى لغتان وقد جمع بينهما الشاعر فقال: أما ابن طوف فقد أوفى بذمته كما وفى بقلاص النجم حاديها والعقود: والعهود، وأصل العقود الربوط، واحدها عقد، يقال: عقدت الحبل والعهد، فهو يستعمل في الأجسام والمعاني، وإذا استعمل في المعاني كما هنا أفاد أنه شديد الإحكام، قوي التوثيق، قيل: المراد بالعقود هي التي عقدها الله على عباده وألزمهم بها من الأحكام، وقيل هي العقود التي يعقدونها بينهم من عقود المعاملات والأولى شمول الآية للأمرين جميعاً، ولا وجه لتخصيص بعضها دون بعض. قال الزجاج: المعنى أوفوا بعقد الله عليكم وبعقدكم بعضكم على بعض انتهى. والعقد الذي يجب الوفاء به ما وافق كتاب الله وسنة رسول الله، فإن خالفهما فهو رد لا يجب الوفاء به ولا يحل. قوله: "أحلت لكم بهيمة الأنعام" الخطاب للذين آمنوا. والبهيمة: اسم لكل ذي أربع، سميت بذلك لإبهامها من جهة نقص نطقها وفهمها وعقلها، ومنه باب مبهم: أي مغلق، وليل بهيم، وبهمة للشجاع الذي لا يدري من أين يؤتى، وحلقة مبهمة: لا يدري أين طرفاها. والأنعام: اسم للإبل والبقر والغنم، سميت بذلك لما في مشيها من اللين وقيل بهيمة الأنعام: وحشيها كالظباء وبقر الوحش والحمر الوحشية وغير ذلك، حكاه ابن جرير الطبري عن قوم، وحكاه غيره عن السدي والربيع وقتادة والضحاك. قال ابن عطية: وهذا قول حسن، وذلك أن الأنعام هي الثمانية، الأزواج، وما انضاف إليها من سائر الحيوانات يقال له أنعام مجموعة معها، وكأن المفترس كالأسد، وكل ذي ناب خارج عن حد الأنعام، فبهيمة الأنعام هي الراعي من ذوات الأربع، وقيل بهيمة الأنعام: ما لم تكن صيداً، لأن الصيد يسمى وحشاً لا بهيمة، وقيل بهيمة الأنعام: الأجنة التي تخرج عند الذبح من بطون الأنعام فهي تؤكل من دون ذكاة. وعلى القول الأول أعني تخصيص الأنعام بالإبل والبقر والغنم تكون الإضافة بيانية، ويلحق بها ما يحل مما هو خارج عنها بالقياس، بل وبالنصوص التي في الكتاب والسنة كقوله تعالى: " قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة " الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم: "يحرم كل ذي ناب من السبع ومخلب من الطير" فإنه يدل بمفهومه على أن ما عداه حلال، وكذلك سائر النصوص الخاصة بنوع كما في كتب السنة المطهرة. قوله: "إلا ما يتلى عليكم" استثناء من قوله: "أحلت لكم بهيمة الأنعام" أي إلا مدلول ما يتلى عليكم فإنه ليس بحلال. والمتلو: هو ما نص الله على تحريمه، نحو قوله تعالى: "حرمت عليكم الميتة" الآية، ويلحق به ما صرحت السنة بتحريمه، وهذا الاستثناء يحتمل أن يكون المراد به إلا ما يتلى عليكم الآن، ويحتمل أن يكون المراد به في مستقبل الزمان، فيدل على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ويحتمل الأمرين جميعاً. قوله: "غير محلي الصيد" ذهب البصريون إلى أن قوله: "إلا ما يتلى عليكم" استثناء من بهيمة الأنعام وقوله: "غير محلي الصيد" استثناء آخر منه أيضاً، فالاستثناءان جميعاً من بهيمة الأنعام، والتقدير: أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم إلا الصيد وأنتم محرومون، وقيل: الاستثناء الأول من بهيمة الأنعام، والاستثناء الثاني هو من الاستثناء الأول، ورد بأن هذا يستلزم إباحة الصيد في حال الإحرام، لأنه مستثنى من المحظور فيكون مباحاً، وأجاز الفراء أن يكون "إلا ما يتلى" في موضع رفع على البدل، ولا يجيزه البصريون إلا في النكرة وما قاربها من الأجناس. قال: وانتصاب "غير محلي الصيد" على الحال من قوله: "أوفوا بالعقود" وكذا قال الأخفش، وقال غيرهما: حال من الكاف والميم في "لكم" والتقدير: أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلي الصيد: أي الاصطياد في البر وأكل صيده. ومعنى عدم إحلالهم له تقرير حرمته عملاً واعتقاداً وهم حرم: أي محرومون وجملة "وأنتم حرم" في محل نصب على الحال من الضمير في "محلي" ومعنى هذا التقييد ظاهر عند من يخص بهيمة الأنعام بالحيوانات الوحشية البرية التي يحل أكلها كأنه قال: أحل لكم صيد البر إلا في حال الإحرام، وأما على قول من يجعل الإضافة بيانية فالمعنى: أحلت لكم بهيمة هي الأنعام حال تحريم الصيد عليكم بدخولكم في الإحرام لكونكم محتاجين إلى ذلك، فيكون المراد بهذا التقييد الامتنان عليهم بتحليل ما عدا ما هو محرم عليهم في تلك الحال. والمراد بالحرم من هو محرم بالحج أو العمرة أو بهما، وسمي محرماً لكونه يحرم عليه الصيد والطيب والنساء، وهكذا وجه تسمية الحرم حرماً، والإحرام إحراماً. وقرأ الحسن والنخعي ويحيى بن وثاب حرم بسكون الراء وهي لغة تميمية يقولون في رسل رسل وفي كتب كتب ونحو ذلك. قوله: "إن الله يحكم ما يريد" من الأحكام المخالفة لما كانت العرب تعتاده، فهو مالك الكل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا معقب لحكمه.
قوله: 2- "يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله" الشعائر: جمع شعيرة على وزن فعيلة. قال ابن فارس: ويقال للواحدة: شعار وهو أحسن، ومنه الإشعار للهدي. والمشاعر: المعالم، واحدها مشعر، وهي المواضع التي قد أشعرت بالعلامات، قيل المراد بها هنا جميع مناسك الحج: وقيل الصفا والمروة، والهدي والبنيان. والمعنى على هذين القولين: لا تحلوا هذه الأمور بأن يقع منكم الإخلال بشيء منها أو بأن تحولوا بينها وبين من أراد فعلها. ذكر سبحانه النهي عن أن يحلوا شعائر الله عقب ذكره تحريم صيد المحرم، وقيل المراد بالشعائر هنا فرائض الله، ومنه "ومن يعظم شعائر الله"، وقيل هي حرمات الله، ولا مانع من حمل ذلك على الجميع اعتباراً بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولا بما يدل عليه السياق. قوله: "ولا الشهر الحرام" المراد به الجنس، فيدخل في ذلك جميع الأشهر الحرم وهي أربعة: ذو القعدة، وذو الحجة ومحرم، ورجب: أي لا تحلوها بالقتال فيها، وقيل المراد به هنا شهر الحج فقط. قوله: "ولا الهدي" هو ما يهدى إلى بيت الله من ناقة أو بقرة أو شاة، الواحدة هدية. نهاهم سبحانه عن أن يحلوا حرمة الهدي بأن يأخذوه على صاحبه أو يحولوا بينه وبين المكان الذي يهدى إليه، وعطف الهدي على الشعائر مع دخوله تحتها لقصد التنبيه على مزيد خصوصيته والتشديد في شأنه. قوله: "ولا القلائد" جمع قلادة، وهي ما يقلد به الهدي من نعل أو نحوه. وإحلالها بأن تؤخذ غصباً، وفي النهي عن إحلال القلائد تأكيد للنهي عن إحلال الهدي، وقيل المراد بالقلائد المقلدات بها، ويكون عطفه على الهدي لزيادة التوصية بالهدي، والأول أولى، وقيل المراد بالقلائد ما كان الناس يتقلدونه أمنة لهم، فهو على حذف مضاف: أي ولأصحاب القلائد. قوله: "ولا آمين البيت الحرام" أي قاصديه من قولهم أممت كذا: أي قصدته. وقرأ الأعمش: ولا آمي البيت الحرام بالإضافة. والمعنى: لا تمنعوا من قصد البيت الحرام لحج أو عمرة أو ليسكن فيه، وقيل إن سبب نزول هذه الآية أن المشركين كانوا يحجون ويعتمرون ويهدون فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم، فنزل: "يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله" إلى آخر الآية فيكون ذلك منسوخاً بقوله: "اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم"، وقوله: "فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحجن بعد العام مشرك". وقال قوم: الآية محكمة وهي في المسلمين. قوله: "يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً" جملة حالية من الضمير المستتر في "آمين" قال جمهور المفسرين: معناه يبتغون الفضل والأرباح في التجارة، ويبتغون مع ذلك رضوان الله، وقيل كان منهم من يطلب التجارة، ومنهم من يبتغي بالحج رضوان الله، ويكون هذا الابتغاء للرضوان بحسب اعتقادهم وفي ظنهم عند من جعل الآية في المشركين، وقيل المراد بالفضل هنا الثواب لا الأرباح في التجارة. قوله: "وإذا حللتم فاصطادوا" هذا تصريح بما أفاده مفهوم "وأنتم حرم" أباح لهم الصيد بعد أن حظره عليهم لزوال السبب الذي حرم لأجله، وهو الإحرام. قوله: " ولا يجرمنكم شنآن قوم " قال ابن فارس: جرم وأجرم ولا جرم بمعنى قولك لا بد ولا محالة، وأصلها من جرم أي كسب، وقيل المعنى: لا يحملنكم قاله الكسائي وثعلب وهو يتعدى إلى مفعولين يقال: جرمني كذا على بغضك: أي حملني عليه ومنه قول الشاعر: ولقد طعنــــت أبا عيينة طعنــــة جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا أي حملتهم على الغضب. وقال أبو عبيدة والفراء: معنى "لا يجرمنكم" لا يكسبنكم بغض قوم أن تعتدوا الحق إلى الباطل، والعدل إلى الجور والجريمة والجارم بمعنى الكاسب، ومنه قول الشاعر: جريمة ناهــــــض في رأس نيــــق يرى لعظام ما جمعت صليبـــا معناه كاسب قوت. والصليب: الودك، ومنه قول الآخر: يا أيها المشتكي عكلاً وما جرمت إلى القبائــل من قتــل وإيئاس أي كسبت، والمعنى في الآية: لا يحملنكم بغض قوم على الاعتداء عليهم أو لا يكسبنكم بغضهم اعتداءكم للحق إلى الباطل، ويقال: جرم يجرم جرماً: إذا قطع. قال علي بن عيسى الرماني: وهو الأصل، فجرم بمعنى حمل على الشيء لقطعه من غيره، وجرم بمعنى كسب لانقطاعه إلى الكسب، ولا جرم بمعنى حق لأن الحق يقطع عليه. قال الخليل: معنى "لا جرم أن لهم النار" لقد حق أن لهم النار. وقال الكسائي: جرم وأجرم لغتان بمعنى واحد: أي اكتسب. وقرأ ابن مسعود: "لا يجرمنكم" بضم الياء، والمعنى: لا يكسبنكم ولا يعرف البصريون أجرم، وإنما يقولون جرم لا غير. والشنآن: البغض. وقرئ بفتح النون وإسكانها، يقال: شنيت الرجل أشنوه شناء ومشنأة وشنآناً كل ذلك: إذا أبغضته، وشنآن هنا مضاف إلى المفعول: أي بغض قوم منكم لا بغض قوم لكم. قوله: "أن صدوكم" بفتح الهمزة مفعول لأجله: أي لأن صدوكم. وقرأ أبو عمرو وابن كثير بكسر الهمزة على الشرطية، وهو اختيار أبي عبيد، وقرأ الأعمش: " أن يصدكم " والمعنى على قراءة الشرطية: لا يحملنكم بغضهم إن وقع منهم الصد لكم عن المسجد الحرام على الاعتداء عليهم. قال النحاس: وأما إن صدوكم بكسر إن، فالعلماء الجلة بالنحو والحديث والنظر يمنعون القراءة بها لأشياء: منها أن الآية نزلت عام الفتح سنة ثمان، وكان المشركون صدوا المؤمنين عام الحديبية سنة ست، فالصد كان قبل الآية، وإذا قرئ بالكسر لم يجز أن يكون إلا بعده كما تقول: لا تعط فلاناً شيئاً إن قاتلك، فهذا لا يكون إلا للمستقبل وإن فتحت كان للماضي، وما أحسن هذا الكلام. وقد أنكر أبو حاتم وأبو عبيدة شنآن بسكون النون. لأن المصادر إنما تأتي في مثل هذا متحركة وخالفهما غيرهما فقال: ليس هذا مصدراً، ولكنه اسم فاعل على وزن كسلان وغضبان. ولما نهاهم عن الاعتداء أمرهم بالتعاون على البر والتقوى كائناً ما كان، قيل: إن البر والتقوى لفظان لمعنى واحد، وكرر للتأكد. وقال ابن عطية: إن البر يتناول الواجب والمندوب، والتقوى تختص بالواجب، وقال الماوردي: إن في البر رضا الناس وفي التقوى رضا الله، فمن جمع بينهما فقد تمت سعادته ثم نهاهم سبحانه عن التعاون على الإثم والعدوان، فالإثم: كل فعل أو قول يوجب إثم فاعله أو قائله، والعدوان: التعدي على الناس بما فيه ظلم، فلا يبقى نوع من أنواع الموجبات للإثم ولا نوع من أنواع الظلم للناس الذين من جملتهم النفس إلا وهو داخل تحت هذا النهي لصدق هذين النوعين على كل ما يوجد فيه معناهما، ثم أمر عباده بالتقوى وتوعد من خالف ما أمر به فتركه أو خالف ما نهى عنه ففعله بقوله: "إن الله شديد العقاب". وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله: "أوفوا بالعقود" قال: ما أحل الله وما حرم وما فرض وما حد في القرآن كله لا تغدروا ولا تنكثوا. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال: هي عقود الجاهلية الحلف. وروى عنه ابن جرير أنه قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "وأوفوا بعقد الجاهلية ولا تحدثوا عقداً في الإسلام". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن الحسن في قوله: "أحلت لكم بهيمة الأنعام" قال: الإبل والبقر والغنم. وأخرج ابن جرير عن ابن عمر في قوله: "أحلت لكم بهيمة الأنعام" قال: ما في بطونها، قلت: إن خرج ميتاً آكله؟ قال: نعم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله: "إلا ما يتلى عليكم" قال: الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به إلى آخر الآية، فهذا ما حرم الله من بهيمة الأنعام. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "لا تحلوا شعائر الله" قال: كان المشركون يحجون البيت الحرام ويهدون الهدايا ويعظمون حرمة المشاعر وينحرون في حجهم، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم، فقال الله: "لا تحلوا شعائر الله" وفي قوله: "ولا الشهر الحرام" يعني: لا تستحلوا قتالاً فيه "ولا آمين البيت الحرام" يعني: من توجه قبل البيت الحرام، فكان المؤمنون والمشركون يحجون جميعاً، فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحداً حج البيت أو يتعرضوا له من مؤمن أو كافر، ثم أنزل الله بعد هذه الآية: "إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا" وفي قوله: "يبتغون فضلاً" يعني أنهم يرضون الله بحجهم "ولا يجرمنكم" يقول: لا يحملنكم " شنآن قوم " يقول: عداوة قوم "وتعاونوا على البر والتقوى" قال: البر ما أمرت به، والتقوى ما نهيت عنه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: شعائر الله ما نهى الله عنه أن تصيبه وأنت محرم، والهدي: ما لم يقلد والقلائد مقلدات الهدي "ولا آمين البيت الحرام" يقول: من توجه حاجاً. وأخرج ابن جرير عنه في قوله: "لا تحلوا شعائر الله" قال: مناسك الحج. وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية وأصحابه حين صدهم المشركون عن البيت، وقد اشتد ذلك عليهم، فمر بهم أناس من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: نصد هؤلاء كما صدنا أصحابنا، فأنزل الله: "ولا يجرمنكم"" الآية. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه عن وابصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك". وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في الأدب ومسلم والترمذي والحاكم والبيهقي عن النواس بن سمعان قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم، فقال: "البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس". وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن حبان والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي أمامة "أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإثم، فقال: ما حاك في نفسك فدعه. قال فما الإيمان؟ قال: من ساءته سيئته وسرته حسنته فهو مؤمن".
هذا شروع في المحرمات التي أشار إليها سبحانه بقوله: "إلا ما يتلى عليكم". والميتة قد تقدم ذكرها في البقرة، وكذلك الدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله، وما هنا من تحريم مطلق الدم مقيد بكونه مسفوحاً كما تقدم حملاً للمطلق على المقيد، وقد ورد في السنة تخصيص الميتة بقوله صلى الله عليه وسلم: "أحل لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد وأما الدمان فالكبد والطحال" أخرجه الشافعي وأحمد وابن ماجه والدارقطني والبيهقي وفي إسناده يقال، ويقويه حديث: "هو الطهور ماؤه والحل ميتته" وهو عند أحمد وأهل السنن وغيرهم وصححه جماعة منهم ابن خزيمة وابن حبان، وقد أطلنا الكلام عليه في شرحنا للمنتقي. والإهلال رفع الصوت لغير الله كأن يقول بسم اللات والعزى ونحو ذلك، ولا حاجة بنا هنا إلى تكرير ما قد أسلفناه ففيه ما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره. 3- "والمنخنقة" هي التي تموت بالخنق: وهو حبس النفس سواء كان ذلك بفعلها كأن تدخل رأسها في حبل أو بين عودين، أو بفعل آدمي أو بغيره، وقد كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة، فإذا ماتت أكلوها. "والموقوذة" هي التي تضرب بحجر أو عصا حتى تموت من غير تذكية، يقال: وقذه يقذه وقذاً فهو وقيذ، والوقد شدة الضرب، وفلان وقيذ: أي مثخن ضرباً، وقد كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك فيضربون الأنعام بالخشب لآلهتهم حتى تموت ثم يأكلونها، ومنه قول الفرزدق: شغارة تقذ الفصيل برجلهــــا فطارة لقــوادم الأظفـــار قال ابن عبد البر: واختلف العلماء قديماً وحديثاً في الصيد بالبندق والحجر والمعراض، ويعني بالبندق قوس البندقة، وبالمعراض السهم الذي لا ريش له أو العصا التي رأسها محدد، قال: فمن ذهب إلى أنه وقيذ لم يجزه إلا ما أدرك ذكاته على ما روي عن ابن عمر، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأصحابه والثوري والشافعي وخالفهم الشاميون في ذلك. قال الأوزاعي في المعراض: كله خرق أو لم يخرق، فقد كان أبو الدرداء وفضالة بن عبيد وعبد الله بن عمر ومكحول لا يرون به بأساً. قال ابن عبد البر: هكذا ذكر الأوزاعي عن عبد الله بن عمر، والمعروف عن ابن عمر ما ذكر مالك عن نافع، قال: والأصل في هذا الباب والذي عليه العمل وفيه الحجة حديث عدي بن حاتم، وفيه: "ما أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ" انتهى. قلت: والحديث في الصحيحين وغيرهما عن عدي قال:" قلت يا رسول الله إني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب فقال: إذا رميت بالمعراض فخرق فكله، وإن أصاب بعرضه فإنما هو وقيذ فلا تأكله" فقد اعتبر صلى الله عليه وسلم الخرق وعدمه، فالحق أنه لا يحل إلا ما خرق لا ما صدم، فلا بد من التذكية قبل الموت وإلا كان وقيذاً. وأما البنادق المعروفة الآن: وهي بنادق الحديد التي يجعل فيها البارود والرصاص ويرمى بها، فلم يتكلم عليها أهل العلم لتأخر حدوثها، فإنها لم تصل إلى الديار اليمنية إلا في المائة العاشرة من الهجرة، وقد سألني جماعة من أهل العلم عن الصيد بها إذا مات ولم يتمكن الصائد من تذكيته حياً. والذي يظهر لي أنه حلال لأنها تخرق وتدخل في الغالب من جانب منه وتخرج من الجانب الآخر، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح السابق: "إذا رميت بالمعراض فخرق فكله" فاعتبر الخرق في تحليل الصيد. قوله: "والمتردية" هي التي تتردى من علو إلى أسفل فتموت من غير فرق بين أن تتردى من جبل أو بئر أو مدفن أو غيرها، والتردي مأخوذ من الردى وهو الهلاك وسواء تردت بنفسها أو ردها غيرها. قوله: "والنطيحة" هي فعيلة بمعنى مفعولة، وهي التي تنطحها أخرى فتموت من دون تذكية. وقال قوم أيضاً: فعيلة بمعنى فاعلة، لأن الدابتين تتناطحان فتموتان، وقال: نطيحة ولم يقل نطيح مع أنه قياس فعيل، لأن لزوم الحذف مختص بما كان من هذا الباب صفة لموصوف مذكور فإن لم يذكر ثبتت التاء للنقل من الوصفية إلى الإسمية. وقرأ أبو ميسرة والمنطوحة. قوله: "وما أكل السبع" أي ما افترسه ذو ناب كالأسد والنمر والذئب والضبع ونحوها، والمراد هنا ما أكل منه السبع، لأن ما أكله السبع كله قد فني، ومن العرب من يخص اسم السبع بالأسد، وكانت العرب إذا أكل السبع شاة، ثم خلصوها منه أكلوها، وإن ماتت ولم يذكوها. وقرأ الحسن أبو حيوة السبع بسكون الباء، وهي لغة لأهل نجد، ومنه قول حسان في عتبة بن أبي لهب: من يرجع العــــام إلى أهــله فما أكيل السبـــع بالراجــع وقرأ ابن مسعود وأكيلة السبع. وقرأ ابن عباس: وأكيل السبع. قوله: "إلا ما ذكيتم" في محل نصب على الاستثناء المتصل عند الجمهور، وهو راجع على ما أدركت ذكاته من المذكورات سابقاً، وفيه حياة، وقال المدنيون: وهو المشهور من مذهب مالك، وهو أحد قولي الشافعي أنه إذا بلغ السبع منها إلا ما لا حياة معه فإنها لا تؤكل. وحكاه في الموطأ عن زيد بن ثابت، وإليه ذهب إسماعيل القاضي، فيكون الاستثناء على هذا القول منقطعاً: أي حرمت عليكم هذه الأشياء، لكن ما ذكيتم فهو الذي يحل ولا يحرم، والأول أولى. والذكاة في كلام العرب الذبح، قاله قطرب وغيره. وأصل الذكاة في اللغة: التمام: أي تمام استكمال القوة، والذكاء حدة القلب والذكاء سرعة الفطنة، والذكوة ما تذكى منه النار، ومنه أذكيت الحرب والنار: أوقدتهما، وذكاء اسم الشمس والمراد هنا: إلا ما أدركتم ذكاته على التمام، والتذكية في الشرع: عبارة عن إنهار الدم، وفري الأوداج في المذبوح والنحر في المنحور والعقر في غير المقدور مقروناً بالقصد لله، وذكر اسمه عليه. وأما الآلة التي تقع بها الذكاة، فذهب الجمهور إلى أن كل ما أنهر الدم. وفري الأوداج فهو آلة للذكاة ما خلا السن والعظم، وبهذا جاءت الأحاديث الصحيحة. قوله: "وما ذبح على النصب". قال ابن فارس: النصب حجر كان ينصب فيعبد ويصب عليه دماء الذبائح، والنصائب حجارة تنصب حوالي شفير البئر فتجعل عضائد. وقيل النصب: جمع واحده نصاب، كحمار وحمر. وقرأ طلحة بضم النون وسكون الصاد. وروي عن أبي عمرو بفتح النون وسكون الصاد. وقرأ الجحدري بفتح النون والصاد، جعله اسماً موحداً كالجبل والجمل، والجمع أنصاب كالأجبال والأجمال. قال مجاهد: هي حجارة كانت حوالي مكة يذبحون عليها. قال ابن جريج: كانت العرب تذبح بمكة وتنضح بالدم ما أقبل من البيت ويشرحون اللحم ويضعونه على الحجارة، فلما جاء الإسلام قال المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن أحق أن نعظم هذا البيت بهذه الأفعال، فأنزل الله: "وما ذبح على النصب" والمعنى: والنية بذلك تعظيم النصب لا أن الذبح عليها غير جائز، ولهذا قيل إن على بمعنى اللام: أي لأجلها. قالها قطرب، وهو على هذا داخل فيما أهل به لغير الله، وخص بالذكر لتأكيد تحريمه ولدفع ما كانوا يظنونه من ذلك لتشريف البيت وتعظيمه. قوله: "وأن تستقسموا بالأزلام" معطوف على ما قبله: أي وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام. والأزلام قداح الميسر واحدها زلم، قال الشاعر: بات يقاسيها غلام كلـــزم ليس براعــي إبــل ولا غنم ولا بجزار على ظهر وضم وقال آخر: فلئن جذيمة قتلت ساداتها فنســـاؤها يضـربن بالأزلام والأزلام للعرب ثلاثة أنواع: أحدها مكتوب فيه افعل، والآخر مكتوب فيه لا تفعل، والثالث مهمل لا شيء عليه فيجعلها في خريطة معه، إذا أراد فعل شيء أدخل يده وهي متشابهة فأخرج واحداً منها، فإن خرج الأول فعل ما عزم عليه، وإن خرج الثاني تركه، وإن خرج الثالث أعاد الضرب حتى يخرج واحد من الأولين. وإنما قيل لهذا الفعل استقسام لأنهم كانوا يستقسمون به الرزق وما يريدون فعله كما يقال استسقى: أي استدعى السقي، فالاستقسام: طلب القسم والنصيب. وجملة قداح الميسر عشرة، وقد قدمنا بيانها، وكانوا يضربون بها في المقامرة، وقيل: إن الأزلام كعاب فارس والروم التي يتقامرون بها، وقيل: هي الشطرنج، وإنما حرم الله الاستقسام بالأزلام لأنه تعرض لدعوى علم الغيب وضرب من الكهانة. قوله: "ذلكم فسق" إشارة إلى الاستقسام بالأزلام أو إلى جميع المحرمات المذكورة هنا. والفسق: الخروج عن الحد، وقد تقدم بيان معناه، وفي هذا وعيد شديد، لأن الفسق هو أشد الكفر لا ما وقع عليه اصطلاح قوم من أنه منزلة متوسطة بين الإيمان والكفر. قوله: "اليوم يئس الذين كفروا من دينكم" المراد اليوم الذي نزلت فيه الآية، وهو يوم فتح مكة لثمان بقين من رمضان سنة تسع وقيل: سنة ثمان، وقيل: المراد باليوم الزمان الحاضر وما يتصل به، ولم يرد يوماً معيناً ويئس فيه لغتان ييس بياءين يأساً، وأيس إياساً وإياسة. قاله النضر بن شميل: أي حصل لهم اليأس من إبطال دينكم وأن يردوكم إلى دينهم كما كانوا يزعمون "فلا تخشوهم": أي لا تخافوا منهم أن يغلبوكم أو يبطلوا دينكم "واخشون" فأنا القادر على كل شيء إن نصرتكم فلا غالب لكم، وإن خذلتكم لم يستطع غيري أن ينصركم. قوله: "اليوم أكملت لكم دينكم" جعلته كاملاً غير محتاج إلى إكمال لظهوره على الأديان كلها وغلبته لها ولكمال أحكامه التي يحتاج المسلمون إليها من الحلال والحرام والمشتبه، ووفى ما تضمنه الكتاب والسنة من ذلك، ولا يخفى ما يستفاد من تقديم قوله: "لكم". قال الجمهور: المراد بالإكمال هنا: نزول معظم الفرائض والتحليل والتحريم. قالوا: وقد نزل بعد ذلك قرآن كآية الربا وآية الكلالة ونحوهما. والمراد باليوم المذكور هنا هو يوم الجمعة، وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر، هكذا ثبت في الصحيح من حديث عمر بن الخطاب، وقيل: إنها نزلت في يوم الحج الأكبر. قوله: "وأتممت عليكم نعمتي" بإكمال الدين المشتمل على الأحكام وبفتح مكة وقهر الكفار وإياسهم عن الظهور عليكم كما وعدتكم بقولي: "ولأتم نعمتي عليكم". قوله: "ورضيت لكم الإسلام ديناً": أي أخبرتكم برضاي به لكم فإنه سبحانه لم يزل راضياً لأمة نبيه صلى الله عليه وسلم بالإسلام فلا يكون لاختصاص الرضا بهذا اليوم كثير فائدة إن حملناه على ظاهره، ويحتمل أن يريد رضيت لكم الإسلام الذي أنتم عليه اليوم ديناً باقياً إلى انقضاء أيام الدنيا. وديناً منتصب على التمييز، ويجوز أن يكون مفعولاً ثانياً. قوله: "فمن اضطر في مخمصة" هذا متصل بذكر المحرمات وما بينهما اعتراض: أي من دعته الضرورة "في مخمصة" أي مجاعة إلى أكل الميتة وما بعدها من المحرمات. والخمص: ضمور البطن، ورجل خميص وخمصان، وامرأة خميصة وخمصانة، ومنه أخمص القدم، ويستعمل كثيراً في الجوع، قال الأعشى: تبيتون في المشتاء ملأى بطونكــــم وجاراتكم غرثى يبتن خمــائصا قوله: "غير متجانف" الجنف: الميل، والإثم: الحرام: أي حال كون المضطر في مخمصة غير مائل لإثم، وهو بمعنى غير باغ ولا عاد، وكل مائل فهو متجانف وجنف. وقرأ النخعي ويحيى بن وثاب والسلمي متجنف "فإن الله غفور رحيم" به لا يؤاخذه بما ألجأته إليه الضرورة في الجوع مع عدم ميله بأكل ما حرم عليه إلى الإثم بأن يكون باغياً على غيره أو متعدياً لما دعت إليه الضرورة حسبما تقدم. وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والحاكم وصححه عن أبي أمامة قال:" بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومي أدعوهم إلى الله ورسوله وأعرض عليهم شعائر الإسلام، فبينما نحن كذلك إذ جاءوا بقصعة دم واجتمعوا عليها يأكلونها، قالوا: هلم يا صدي فكل قلت: ويحكم إنما أتيتكم من عند من يحرم هذا عليكم، لما أنزل الله عليه، قالوا: وما ذلك؟ قال: فتلوت عليهم هذه الآية: "حرمت عليكم الميتة"". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: "وما أهل لغير الله به" قال: وما أهل للطواغيت به "والمنخنقة" قال: التي تخنق فتموت "والموقوذة" قال: الشاة التي تنطح الشاة "وما أكل السبع" يقول: ما أخذ السبع "إلا ما ذكيتم" يقول: ذبحتم من ذلك، وبه روح فكلوه "وما ذبح على النصب" قال: النصب أنصاب كانوا يذبحون ويهلون عليها "وأن تستقسموا بالأزلام" قال: هي القداح كانوا يستقسمون بها في الأمور "ذلكم فسق" يعني من أكل ذلك كله فهو فسق. واخرج ابن أبي حاتم عنه قال: الرداة التي تتردى في البئر، والمتردية التي تتردى من الجبل. وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير في قوله: "وأن تستقسموا بالأزلام" قال: حصى بيض كانوا يضربون بها. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الحسن في الآية قال: كانوا إذا أرادوا أمراً أو سفراً يعمدون إلى قداح ثلاثة يكتبون على واحد منها: أمرني، وعلى الآخر: نهاني، ويتركون الثالث مخللاً بينهما ليس عليه شيء ثم يجيلونها، فإن خرج الذي عليه أمرني مضوا لأمرهم، وإن خرج الذي عليه نهاني كفوا، وإن خرج الذي ليس عليه شيء أعادوها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "اليوم يئس الذين كفروا من دينكم" قال: يئسوا أن يرجعوا إلى دينهم أبداً. وأخرج البيهقي عنه في الآية قال: يقول يئس أهل مكة أن يرجعوا إلى دينهم عبادة الأوثان أبداً "فلا تخشوهم" في اتباع محمد "واخشون" في عبادة الأوثان وتكذيب محمد فلما كان واقفاً بعرفات نزل عليه جبريل وهو رافع يديه والمسلمون يدعون الله "اليوم أكملت لكم دينكم" يقول حلالكم وحرامكم فلن ينزل بعد هذا حلال ولا حرام "وأتممت عليكم نعمتي" قال: منتي، فلم يحج معكم مشرك "ورضيت" يقول: اخترت "لكم الإسلام ديناً" فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية أحداً وثمانين يوماً، ثم قبضه الله إليه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال: أخبر الله نبيه والمؤمنين أنه أكمل لهم الإيمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبداً، وقد أتمه فلا ينقص أبداً، وقد رضيه فلا يسخطه أبداً. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن طارق بن شهاب قال: قالت اليهود لعمر: إنكم تقرأون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال: وأي آية؟ قالوا "اليوم أكملت لكم دينكم"، قال عمر: والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم والساعة التي نزلت فيها، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة في يوم الجمعة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "فمن اضطر" يعني إلى ما حرم مما سمى في صدر هذه السورة "في مخمصة" يعني في مجاعة "غير متجانف لإثم" يقول غير متعمد لإثم.