تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 187 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 187

186

هي مائة وثلاثون آية، وقيل مائة وسبع وعشرون آية، ولها أسماء: منها سورة التوبة، لأن فيها التوبة على المؤمنين، وتسمى الفاضحة لأنه ما زال ينزل فيها: ومنهم، ومنهم حتى كادت أن لا تدع أحداً، وتسمى البحوث لأنها تبحث عن أسرار المنافقين، وتسمى المبعثرة، والبعثرة البحث، وتسمى أيضاً بأسماء آخر كالمقشقشة، لكونها تقشقش من النفاق: أي تبرئ منه، والمخزية لكونها أخزت المنافقين، والمثيرة لكونها تثير أسرارهم، والحافرة لكونها تحفر عنها، والمنكلة لما فيها من التنكيل لهم، والمدمدمة لأنها تدمدم عليهم. وهي مدنية. قال القرطبي باتفاق. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: نزلت براءة بعد فتح مكة. وأخرج ابن مردويه عنه قال: نزلت سورة التوبة بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير نحوه. وأخرج ابن المنذر عن قتادة نحوه أيضاً. وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري والنسائي وابن الضريس وابن المنذر والنحاس وأبو الشيخ وابن مردويه عن البراء قال: آخر آية نزلت: "يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة" وآخر سورة تامة براءة. وقد اختلف العلماء في سبب سقوط البسملة من أولها على أقوال: الأول: عن المبرد وغيره: أنه كان من شأن العرب إذا كان بينهم وبين قوم عهد، فإذا أرادوا نقضه كتبوا إليهم كتاباً ولم يكتبوا فيه بسملة، فلما نزلت براءة بنقض العهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين، بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فقرأها عليهم ولم يبسمل في ذلك على ما جرت به عادة العرب. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: سألت علي بن أبي طالب لم لا تكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم؟ قال: لأن بسم الله الرحمن الرحيم أمان. وبراءة نزلت بالسيف. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال ما حملكم ذلك؟ فقال عثمان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن نزولاً، وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتها في السبع الطوال. وأخرج أبو الشيخ عن أبي رجاء قال: سألت الحسن عن الأنفال وبراءة أسورتان أو سورة؟ قال: سورتان. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه عن حذيفة قال: يسمون هذه السورة سورة التوبة، وهي سورة العذاب. وأخرج هؤلاء عن ابن عباس قال في هذه السورة: هي الفاضحة ما زالت تنزل، ومنهم حتى ظننا أنه لا يبقى منا أحد إلا ذكر فيها. وأخرج أبو الشيخ عن عمر نحوه. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن زيد بن أسلم أن رجلاً قال لعبد الله بن عمر سورة التوبة، فقال ابن عمر: وأيتهن سورة التوبة، ثم قال: وهل فعل بالناس الأفاعيل إلا هي؟ ما كنا ندعوها إلا المقشقشة. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: يسمونها سورة التوبة، وإنها لسورة عذاب. وأخرج ابن المنذر عن ابن إسحاق قال: كانت براءة تسمى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعده المبعثرة لما كشفت من سرائر الناس. وأخرج أبو الشيخ عن عبيد الله بن عبيد بن عمير قال: كانت براءة تسمى المنقرة نقرت عما في قلوب المشركين. وأخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور وأبو الشيخ والبيهقي في الشعب عن أبي عطية الهمداني قال: كتب عمر بن الخطاب: تعلموا سورة براءة وعلموا نساءكم سورة النور. ومن جملة الأقوال في حذف البسملة أنها كانت تعدل سورة البقرة أو قريباً منها، وأنه لما سقط أولها سقطت البسملة، روي هذا عن مالك بن أنس وابن عجلان. ومن جملة الأقوال في سقوط البسملة أنهم لما كتبوا المصحف في خلافة عثمان اختلف الصحابة فقال بعضهم: براءة والأنفال سورة واحدة، وقال بعضهم: هما سورتان، فتركت بينهما فرجة لقول من قال هما سورتان، وتركت بسم الله الرحمن الرحيم لقول من قال هما سورة واحدة، فرضي الفريقان. قاله خارجة وأبو عصمة وغيرهما. وقول من جعلهما سورة واحدة أظهر، لأنهما جميعاً في القتال، وتعدان جميعاً سابعة السبع الطوال. قوله: 1- "براءة من الله ورسوله" برئت من الشيء أبرأ براءة، وأنا منه بريء: إذا أزلته عن نفسك وقطعت سبب ما بينك وبينه، وبراءة مرتفعة على أنها خبر مبتدأ محذوف: أي هذه براءة، ويجوز أن ترتفع على الابتداء لأنها نكرة موصوفة، والخبر "إلى الذين عاهدتم". وقرأ عيسى بن عمر "براءة" بالنصب على تقدير اسمعوا براءة، أو على تقدير التزموا براءة، لأن فيها معنى الإغراء، و من في قوله: "من الله" لابتداء الغاية متعلق بمحذوف وقع صفة: أي واصلة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم. وقرأ روح وزيد بنصب رسوله، وقرأ الباقون بالرفع. والعهد: العقد الموثق باليمين. والخطاب في عاهدتم للمسلمين، وقد كانوا عاهدوا مشركي مكة وغيرهم بإذن من الله ومن الرسول صلى الله عليه وسلم، والمعنى: الإخبار للمسلمين بأن الله ورسوله قد برئا من تلك المعاهدة بسبب ما وقع من الكفار من النقض، فصار النبذ إليهم بعهدهم واجباً على المعاهدين من المسلمين، ومعنى براءة الله سبحانه: وقوع الإذن منه سبحانه بالنبذ من المسلمين لعهد المشركين بعد وقوع النقض منهم، وفي ذلك من التفخيم لشأن البراءة والتهويل لها والتسجيل على المشركين بالذل والهوان ما لا يخفى.
قوله: 2- "فسيحوا في الأرض أربعة أشهر" هذا أمر منه سبحانه بالسياحة بعد الإخبار بتلك البراءة، والسياحة: السير، يقال: ساح فلان في الأرض يسيح سياحة وسيوحاً وسيحاناً، ومنه سيح الماء في الأرض وسيح الخيل، ومنه قول طرفة بن العبد: لو خفت هذا منك ما نلتني حتى ترى خيلاً أمامي تسيح ومعنى الآية أن الله سبحانه بعد أن أذن بالنبذ إلى المشركين بعهدهم أباح للمشركين الضرب في الأرض والذهاب إلى حيث يريدون والاستعداد للحرب هذه الأربعة الأشهر، وليس المراد من الأمر بالسياحة تكليفهم بها. قال محمد بن إسحاق وغيره: إن المشركين صنفان: صنف كانت مدة عهدهم أقل من أربعة أشهر فأمهل تمام أربعة أشهر، والآخر كانت أكثر من ذلك فقصر على أربعة أشهر ليرتاد لنفسه، وهو حرب بعد ذلك لله ولرسوله وللمؤمنين يقتل حيث يوجد، وابتداء هذا الأجل يوم الحج الأكبر وانقضاؤه إلى عشر من ربيع الآخر، فأما من لم يكن له عهد فإنما أجله انسلاح الأشهر الحرم، وذلك خمسون يوماً: عشرون من ذي الحجة وشهر محرم. وقال الكلبي: إنما كانت الأربعة الأشهر لمن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد دون أربعة أشهر، ومن كان عهده أكثر من ذلك فهو الذي أمر الله أن يتم له عهده بقوله: "فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم" ورجح هذا ابن جرير وغيره، وسيأتي في آخر البحث من الرواية ما يتضح به معنى الآية: "واعلموا أنكم غير معجزي الله" أي اعلموا أن هذا الإمهال ليس لعجز، ولكن لمصلحة ليتوب من تاب، وفي ذلك ضرب من التهديد كأنه قيل: افعلوا في هذه المدة كل ما أمكنكم من إعداد الآلات والأدوات، فإنكم لا تفوتون الله وهو مخزيكم: أي مذلكم ومهينكم في الدنيا بالقتل والأسر، وفي الآخرة بالعذاب، وفي وضع الظاهر موضع المضمر إشارة إلى أن سبب هذا الإخزاء هو الكفر، ويجوز أن يكون المراد جنس الكافرين فيدخل فيه المخاطبون دخولاً أولياً.
قوله: 3- "وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر" ارتفاع أذان على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو على أنه مبتدأ خبره ما بعده على ما تقدم في ارتفاع براءة، والجملة هذه معطوفة على جملة "براءة من الله ورسوله". وقال الزجاج: إن قوله: وأذان معطوف على قوله براءة. واعترض عليه بأن الأمر لو كان كذلك لكن أذان مخبر عنه بالخبر الأول، وهو "إلى الذين عاهدتم من المشركين" وليس ذلك بصحيح، بل الخبر هو إلى الناس والأذان بمعنى الإيذان وهو الإعلام كما أن الأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء، ومعنى قوله: "إلى الناس" التعميم في هذا: أي أنه إيذان من الله إلى كافة الناس غير مختص بقوم دون قوم، فهذه الجملة متضمنة للإخبار بوجوب الإعلام لجميع الناس، والجملة الأولى متضمنة للإخبار بالبراءة إلى المعاهدين خاصة، و "يوم الحج" ظرف لقوله وأذان، ووصفه بالأكبر لأنه يجتمع فيه الناس، أو لكون معظم أفعال الحج فيه. وقد اختلف العلماء في تعيين هذا اليوم المذكور في الآية، فذهب جمع منهم علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن أبي أوفى والمغيرة بن شعبة ومجاهد أنه يوم النحر، ورجحه ابن جرير. وذهب آخرون منهم عمر وابن عباس وطاوس أنه يوم عرفة. والأول أرجح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من بعثه لإبلاغ هذا إلى المشركين أن يبلغهم يوم النحر. قوله: "أن الله بريء من المشركين ورسوله" قرئ بفتح أن على تقدير بأن الله بريء من المشركين، فحذفت الباء تخفيفاً. وقرئ بكسرها، لأن في الإيذان معنى القول، وارتفاع رسوله على أنه معطوف على موضع اسم أن، أو على الضمير في بريء، أو على أنه مبتدأ وخبره محذوف، والتقدير: ورسوله بريء منهم، وقرأ الحسن وغيره "ورسوله" بالنصب عطفاً على لفظ اسم أن. وقرئ ورسوله بالجر على أن الواو للقسم، روي ذلك عن الحسن، وهي قراءة ضعيفة جداً، إذ لا معنى للقسم برسول الله صلى الله عليه وسلم هاهنا مع ما ثبت من النهي عن الحلف بغير الله، وقيل إنه مجرور على الجوار. قوله: "فإن تبتم" أي من الكفر، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، قيل: وفائدة هذا الالتفات زيادة التهديد، والضمير في قوله: "فهو" راجع إلى التوبة المفهومة من تبتم "خير لكم" مما أنتم فيه من الكفر "وإن توليتم" أي أعرضتم عن التوبة وبقيتم على الكفر "فاعلموا أنكم غير معجزي الله" أي غير فائتين عليه، بل هو مدرككم فمجازيكم بأعمالكم. قوله: "وبشر الذين كفروا بعذاب أليم" هذا تهكم بهم، وفيه من التهديد ما لا يخفى. وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين" إلى أهل العهد خزاعة ومدلج ومن كان له عهد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك حين فرغ منها فأراد الحج، ثم قال: إنه يحضر البيت مشركون يطوفون عراة فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك، فأرسل أبا بكر وعلياً فطافا في الناس بذي المجاز، وبأمكنتهم التي كانوا يبيعون بها، أو بالموسم كله، فآذنوا أصحاب العهد أن يأمنوا أربعة أشهر، وهي الأشهر الحرم المنسلخات المتواليات عشرون من آخر ذي الحجة إىل عشر تخلو من ربيع الآخر، ثم لا عهد هلم وآذن الناس كلهم بالقتال إلى أن يموتوا. وأخرج عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند وأبو الشيخ وابن مردويه عن علي قال: لما نزلت عشر آيات من براءة عن النبي صلى الله عليه وسلم دعا أبا بكر ليقرأها على أهل مكة، ثم دعاني فقال لي: أدرك يا أبا بكر، فحيثما لقيته فخذ الكتاب منه فاقرأه على أهل مكة، فلحقته فأخذت الكتاب منه، ورجع أبو بكر، وقال: يا رسول الله نزل في شيء، قال: لا، ولكن جبريل جاءني فقال: لن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وحسنه وأبو الشيخ وابن مردويه من حديث أنس نحوه. وأخرج ابن مردويه من حديث سعد بن أبي وقاص نحوه أيضاً. وأخرج أحمد والنسائي وابن المنذر وابن مردويه عن أبي هريرة قال: كنت مع علي حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة ببراءة، فكنا ننادي أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن ولا يطوف البيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فإن أجله وأمده إلى أربعة أشهر فإذا مضت الأربعة أشهر فإن الله بريء من المشركين ورسوله، ولا يحج هذا البيت بعد العام مشرك. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى: أن لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فأمره أن يؤذن ببراءة فأذن علي في يوم النحر ببراءة: أن لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. وأخرج الترمذي وحسنه وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات، ثم أتبعه علياً وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات، فانطلقا فحجا، فقام علي في أيام التشريق فنادى: إن الله بريء من المشركين ورسوله فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، ولا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا مؤمن، فكان علي ينادي، فإذا أعيا قام أبو بكر ينادي بها. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وصححه وابن المنذر والنحاس والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن زيد بن تبيع قال: سألت علياً بأي شيء بعثت مع أبي بكر في الحج؟ قال: بعثت بأربع: لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة. ولا يطوف بالبيت عريان. ولا يجتمع مؤمن وكافر بالمسجد الحرام بعد عامهم هذا. ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "براءة من الله ورسوله" الآية قال: حد الله للذين عاهدوا رسوله أربعة أشهر يسيحون فيها حيث شاءوا، وحد أجل من ليس له عهد انسلاخ الأربعة الأشهر الحرم من يوم النحر إلى انسلاخ المحرم خمسين ليلة، فإذا انسلخ الأشهر الحرم أمره أن يضع السيف فيمن عاهد إن لم يدخلوا في الإسلام ونقض ما سمي لهم من العهد والميثاق، وأذهب الشرط الأول "إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام" يعني أهل مكة. وأخرج النحاس عنه نحو هذا، وقال: ولم يعاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا أحداً. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم والنحاس عن الزهري "فسيحوا في الأرض أربعة أشهر" قال: نزلت في شوال فهي الأربعة أشهر: شوال، ذو القعدة، وذو الحجة والمحرم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: "وأذان من الله ورسوله" قال: هو إعلام من الله ورسوله. وأخرج الترمذي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن علي قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يوم الحج الأكبر فقال: يوم النحر. وأخرجه ابن أبي شيبة والترمذي وأبو الشيخ عنه من قوله. وأخرج أبو داود والنسائي والحاكم وصححه عن عبد الله بن قرط قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم يوم القر". وأخرج ابن مردويه عن ابن أبي أوفى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يوم الأضحى هذا يوم الحج الأكبر". وأخرج البخاري تعليقاً وأبو داود وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن ابن عمر: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فقال: أي يوم هذا؟، قالوا: يوم النحر، قال: هذا يوم الحج الأكبر". وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن مردويه عن أبي هريرة قال: بعثني أبو بكر فيمن يؤذن يوم النحر بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ويوم الحج الأكبر: يوم النحر، والحج الأكبر: الحج، وإنما قيل الأكبر من أجل قول الناس الحج الأصغر، فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام فلم يحج عام حجة الوداع التي حج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرك، وأنزل الله في العام الذي نبذ فيه أبو بكر إلى المشركين "يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس" الآية. وأخرج الطبراني عن سمرة بن جندب "أن رسول الله قال زمن الفتح:إن هذا عام الحج الأكبر"، قال: "اجتماع حج المسلمين وحج المشركين في ثلاثة أيام متتابعات، واجتمع النصارى واليهود في ثلاثة أيام متتابعات، فاجتمع حج المسلمين والمشركين والنصارى واليهود في ستة أيام متتابعات، ولم يجتمع منذ خلق السموات والأرض كذلك قبل العام، ولا يجتمع بعد العام حتى تقوم الساعة". وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن أنه سئل عن يوم الحج الأكبر فقال: ما لكم وللحج الأكبر؟ ذاك عام حج فيه أبو بكر استخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحج بالناس، واجتمع فيه المسلمون والمشركون فلذلك سمي الحج الأكبر، ووافق عيد اليهود والنصارى. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب قال: الحج الأكبر اليوم الثاني من يوم النحر، ألم تر أن الإمام يخطب فيه. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن المسور بن مخرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يوم عرفة هذا يوم الحج الأكبر". وأخرج ابن سعد وابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عمر بن الخطاب قال: الحج الأكبر يوم عرفة. وأخرج ابن جرير عن أبي الصهباء البكري قال: سألت علي بن أبي طالب عن يوم الحج الأكبر فقال: يوم عرفة. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: إن يوم عرفة يوم الحج الأكبر. وأخرج ابن جرير عن الزبير نحوه. ولا يخفاك أن الأحاديث الواردة في كون يوم النحر هو يوم الحج الأكبر هي ثابتة في الصحيحين وغيرهم من طرق، فلا تقوى لمعارضتها هذه الروايات المصرحة بأنه يوم عرفة. وأخرج ابن أبي شيبة عن الشعبي أنه سئل: هذا الحج الأكبر، فما الحج الأصغر؟ قال: عمرة في رمضان. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن إسحاق قال: سألت عبد الله بن شداد عن الحج الأكبر فقال: الحج الأكبر يوم النحر، والحج الأصغر: العمرة. وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن مسعود قال: سئل سفيان بن عيينة عن البشارة تكون في المكروه فقال: ألم تسمع قوله: "وبشر الذين كفروا بعذاب أليم".
الاستثناء بقوله: 4- "إلا الذين عاهدتم". قال الزجاج: إنه يعود إلى قوله: "براءة" والتقدير: براءة من الله ورسوله إلى المعاهدين من المشركين إلا الذين لم ينقضوا العهد منهم. وقال في الكشاف: إنه مستثنى من قوله: "فسيحوا" والتقدير: فقولوا لهم فسيحوا إلا الذين عاهدتم ثم لم ينقضوكم فأتموا إليهم عهدهم. قال: والاستثناء بمعنى الاستدراك كأنه قيل بعد أن أمروا في الناكثين، ولكن الذين لم ينكثوا فأتموا إليهم عهدهم ولا تجروهم مجراه. وقد اعترض عليه بأنه قد تخلل الفاصل بين المستثنى والمستثنى منه. وهو "وأذان من الله" إلخ. وأجيب بأن ذلك لا يضر لأنه ليس بأجنبي، وقيل: إن الاستثناء من المشركين المذكورين قبله فيكون متصلاً وهو ضعيف. قوله: "ثم لم ينقصوكم شيئاً" أي لم يقع منهم أي نقص. وإن كان يسيراً، وقرأ عكرمة وعطاء بن يسار ينقضوكم بالضاد المعجمة: أي لم ينقضوا عهدكم، وفيه دليل على أنه كان من أهل العهد من خاس بعهده، ومنهم من ثبت عليه، فأذن الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم بنقض عهد من نقض، وبالوفاء لمن لم ينقض إلى مدته "ولم يظاهروا عليكم أحداً" المظاهرة: المعاونة: أي لم يعاونوا عليكم أحداً من أعدائكم "فأتموا إليهم عهدهم" أي أدوا إليهم عهدهم تاماً غير ناقص "إلى مدتهم" التي عاهدتموهم إليها وإن كانت أكثر من أربعة أشهر، ولا تعاملوهم معاملة الناكثين من القتال بعد مضي المدة المذكورة سابقاً، وهي أربعة أشهر أو خمسون يوماً على الخلاف السابق.
قوله: 5- "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" انسلاخ الشهر: تكامله جزءاً فجزءاً إلى أن ينقضي كانسلاخ الجلد عما يحويه، شبه خروج المتزمن عن زمانه بانفصال المتمكن عن مكانه، وأصله الانسلاخ الواقع بين الحيوان وجلده، فاستعير لانقضاء الأشهر، يقال: سلخت الشهر تسلخه سلخاً وسلوخاً بمعنى خرجت منه، ومنه قول الشاعر: إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله كفى قاتلاً سلخي الشهور وإهلالي ويقال: سلخت المرأة درعها: نزعته، وفي التنزيل "وآية لهم الليل نسلخ منه النهار". واختلف العلماء في تعيين الأشهر الحرم المذكورة هاهنا، فقيل: هي الأشهر الحرم المعروفة التي هي ذو القعدة وذو الحجة، ومحرم، ورجب: ثلاثة سرد، وواحد فرد. ومعنى الآية على هذا وجوب الإمساك عن قتال من لا عهد له من المشركين في هذه الأشهر الحرم. وقد وقع النداء والنبذ إلى المشركين بعهدهم يوم النحر، فكان الباقي من الأشهر الحرم التي هي الثلاثة المسرودة خمسين يوماً تنقضي بانقضاء شهر المحرم فأمرهم الله بقتل المشركين حيث يوجدون، وبه قال جماعة من أهل العلم منهم الضحاك والباقر. وروي عن ابن عباس واختاره ابن جرير، وقيل المراد بها شهور العهد المشار إليها بقوله: "فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم" وسميت حرماً لأن الله سبحانه حرم على المسلمين فيها دماء المشركين والتعرض لهم، وإلى هذا ذهب جماعة من أهل العلم منهم مجاهد وابن إسحاق وابن زيد وعمرو بن شعيب، وقيل: هي الأشهر المذكورة في قوله: "فسيحوا في الأرض أربعة أشهر". وقد روي ذلك عن ابن عباس وجماعة، ورجحه ابن كثير، وحكاه عن مجاهد وعمرو بن شعيب ومحمد بن إسحاق وقتادة والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وسيأتي بيان حكم القتال في الأشهر الحرم الدائرة في كل سنة في هذه السورة إن شاء الله. ومعنى "حيث وجدتموهم" في أي مكان وجدتموهم من حل أو حرم. ومعنى "خذوهم" الأسر فإن الأخيذ هو الأسير. ومعنى الحصر منعهم من التصرف في بلاد المسلمين إلا بإذن منهم، والمرصد: الموضع الذي يرقب فيه العدو، يقال: رصدت فلاناً أرصده: أي رقبته، أي اقعدوا لهم في المواضع التي ترتقبونهم فيها. قال عامر بن الطفيل: ولقد علمت وما إخالك عالماً أن المنية للفتى بالمرصــد وقال النابغة: أعاذل إن الجهل من لذة الفتى وإن المنايا للنفوس بمرصد وكل في "كل مرصد" ينتصب على الظرفية وهو اختيار الزجاج، وقيل: هو منتصب بنزع الخافض: أي في كل مرصد، وخطأ أبو علي الفارسي الزجاج في جعله ظرفاً. وهذه الآية المتضمنة للأمر بقتل المشركين عند انسلاخ الأشهر الحرم عامة لكل مشرك لا يخرج عنها إلا من خصته السنة، وهو المرأة والصبي والعاجز الذي لا يقاتل وكذلك يخصص منها أهل الكتاب الذين يعطون الجزية على فرض تناول لفظ المشركين لهم، وهذه الآية نسخت كل آية فيها ذكر الإعراض عن المشركين والصبر على أذاهم. وقال الضحاك وعطاء والسدي: هي منسوخة بقوله: "فإما مناً بعد وإما فداء" وأن الأسير لا يقتل صبراً بل يمن عليه أو يفادى. وقال مجاهد وقتادة: بل هي ناسخه لقوله: "فإما مناً بعد وإما فداء" وأنه لا يجوز في الأسارى من المشركين إلا القتل. وقال ابن زيد: الآيتان محكمتان. قال القرطبي: وهي الصحيح لأن المن والقتل والفداء لم تزل من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم من أول حرب جاء بهم وهو يوم بدر. قوله: "فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة" أي تابوا عن الشرك الذي هو سبب القتل وحققوا التوبة بفعل ما هو من أعظم أركان الإسلام، وهو إقامة الصلاة، وهذا الركن اكتفى به عن ذكر ما يتعلق بالأبدان من العبادات لكونه رأسها، واكتفى بالركن الآخر المالي، وهو إيتاء الزكاة عن كل ما يتعلق بالأموال من العبادات لأنه أعظمها "فخلوا سبيلهم" أي اتركوهم وشأنهم فلا تأسروهم ولا تحصروهم ولا تقتلوهم "إن الله غفور" لهم "رحيم" بهم.
قوله: 6- "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره"، يقال: استجرت فلاناً: أي طلبت أن يكون جاراً: محامياً ومحافظاً من أن يظلمني ظالم، أو يتعرض لي متعرض، وأحد مرتفع بفعل مقدر يفسره المذكور بعده: أي وإن استجارك أحد استجارك، وكرهوا الجمع بين المفسر والمفسر، والمعنى: وإن استجارك أحد من المشركين الذين أمرت بقتالهم فأجره: أي كن جاراً له مؤمناً محامياً "حتى يسمع كلام الله" منك ويتدبره حق تدبره، ويقف على حقيقة ما تدعو إليه "ثم أبلغه مأمنه" أي إلى الدار التي يأمن فيها بعد أن يسمع كلام الله إن لم يسلم، ثم بعد أن تبلغه مأمنه قاتله فقد خرج من جوارك ورجع إلى ما كان عليه من إباحة دمه، ووجوب قتله حيث يوجد، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى ما تقدم من الأمر بالإجارة وما بعده "بأنهم قوم لا يعلمون" أي بسبب فقدانهم للعلم النافع المميز بين الخير والشر في الحال والمآل. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إلا الذين عاهدتم" قال: هم قريش. وأخرج أيضاً عن قتادة قال: هم مشركو قريش الذين عاهدهم نبي الله زمن الحديبية، وكان بقي من مدتهم أربعة أشهر بعد يوم النحر، فأمر نبيه أن يوفي بعهدهم هذا إلى مدتهم. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن محمد بن عباد بن جعفر في قوله: "إلا الذين عاهدتم" قال: هم بنو جذيمة بن عامر من بني بكر بن كنانة. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم" قال: كان بقي لبني مذحج وخزاعة عهد، فهو الذي قال الله: "فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم". وأخرج أبو الشيخ عن السدي في قوله: "إلا الذين عاهدتم من المشركين" قال: هؤلاء بنو ضمرة وبنو مدلج من بني كنانة كانوا حلفاء للنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة العشيرة من بطن ينبع "ثم لم ينقصوكم شيئاً" ثم لم ينقصوا عهدكم بغدر "ولم يظاهروا عليكم أحداً" قال: لم يظاهروا عدوكم عليكم "فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم" يقول: أجلهم الذي شرطتم لهم "إن الله يحب المتقين" يقول: الذين يتقون الله فيما حرم عليهم فيوفون بالعهد. قال: فلم يعاهد النبي صلى الله عليه وسلم بعد هؤلاء الآيات أحداً. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم" قال: هي الأربعة: عشرون من ذي الحجة والمحرم، وصفر، وشهر ربيع الأول، وعشر من ربيع الآخر. قلت: مراد السدي أن هذه الأشهر تسمى حرماً لكون تأمين المعاهدين فيها يستلزم تحريم القتال، لا أنها الأشهر الحرم المعروفة. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في الآية قال: هي عشر من ذي القعدة وذي الحجة والمحرم، سبعون ليلة. وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد قال: هي الأربعة الأشهر التي قال: "فسيحوا في الأرض أربعة أشهر". وأخرج ابن المنذر عن قتادة نحو قول السدي السابق. وأخرج أبو داود في ناسخه عن ابن عباس في قوله: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" ثم نسخ واستثنى. فقال: "فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم"، وقال: "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره" يقول: من جاءك واستمع ما تقول. واستمع ما أنزل إليك، فهو آمن حين يأتيك فيسمع كلام الله حتى يبلغ مأمنه من حيث جاء. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: "ثم أبلغه مأمنه" قال: إن لم يوافقه ما يقص عليه ويخبر به فأبلغه مأمنه، وهذا ليس بمنسوخ. وأخرج أبو الشيخ عن قتادة في قوله: "حتى يسمع كلام الله" أي كتاب الله. وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن أبي عروبة قال: كان الرجل يجيء إذا سمع كتاب الله وأقر به وأسلم فذاك الذي دعي إليه، وإن أنكر ولم يقر به رد مأمنه، ثم نسخ ذلك، فقال: "وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة".