تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 235 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 235

234

118- "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة" أي أهل دين واحد، إما أهل ضلالة، أو أهل هدى، وقيل معناه: جعلهم مجتمعين على الحق غير مختلفين فيه، أو مجتمعين على دين الإسلام دون سائر الأديان ولكنه لم يشأ ذلك فلم يكن، ولهذا قال: "ولا يزالون مختلفين" في ذات بينهم على أديان شتى، أو لا يزالون مختلفين في الحق أو دين الإسلام، وقيل: مختلفين في الرزق: فهذا غني، وهذا فقير.
119- "إلا من رحم ربك" بالهداية إلى الدين الحق، فإنهم لم يختلفوا، أو إلا من رحم ربك من المختلفين في الحق أو دين الإسلام، بهدايته إلى الصواب الذي هو حكم الله، وهو الحق الذي لا حق غيره، أو إلا من رحم ربك بالقناعة. والأولى: تفسير "لجعل الناس أمة واحدة" بالمجتمعة على الحق حتى يكون معنى الاستثناء في "إلا من رحم ربك" واضحاً غير محتاج إلى تكلف "ولذلك" أي لما ذكر من الاختلاف "خلقهم" أو ولرحمته خلقهم، وصح تذكير الإشارة إلى الرحمة لكون تأنيثها غير حقيقي، والضمير في خلقهم راجع إلى الناس، أو إلى من في من رحم ربك، وقيل: الإشارة بذلك إلى مجموع الاختلاف والرحمة، ولا مانع من الإشارة بها إلى شيئين كما في قوله: "عوان بين ذلك" "وابتغ بين ذلك سبيلاً" "فبذلك فليفرحوا". قوله: "وتمت كلمة ربك" معنى تمت ثبتت كما قدره في أزله، وإذا تمت امتنعت من التغيير والتبديل وقيل الكلمة هي قوله: "لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين" أي ممن يستحقها من الطائفتين.
والتنوين في "وكلاً" للتعويض عن المضاف إليه، وهو منصوب بنقص. والمعنى: وكل نبإ من أنباء الرسل مما يحتاج إليه نقص عليك: أي نخبرك به. وقال الأخفش "كلاً" حال مقدمة كقولك: كلاً ضربت القوم، والأنباء الأخبار "ما نثبت به فؤادك" أي ما نجعل به فؤادك مثبتاً بزيادة يقينه بما قصصناه عليك ووفور طمأنينته، لأن تكاثر الأدلة أثبت للقلب وأرسخ في النفس وأقوى للعلم، وجملة "ما نثبت" بدل من أنباء الرسل، وهو بيان لكلاً، ويجوز أن يكون "ما نثبت" مفعولاً لنقص، ويكون كلاً مفعولاً مطلقاً، والتقدير: كل أسلوب من أساليب الاقتصاص نقص عليك ما نثبت به فؤادك "وجاءك في هذه الحق" أي جاءك في هذه السورة، أو في هذه الأنباء البراهين القاطعة الدالة على صحة المبدأ والمعاد "وموعظة" يتعظ بها الواقف عليها من المؤمنين "وذكرى" يتذكر بها من تفكر فيها منهم، وخص المؤمنين لكونهم المتأهلين للاتعاظ والتذكر، وقيل المعنى: وجاءك في هذه الدنيا الحق، وهو النبوة، وعلى التفسير الأول يكون تخصيص هذه السورة بمجيء الحق فيها مع كونه قد جاء في غيرها من السور لقصد بيان اشتمالها على ذلك، لا بيان كونه موجوداً فيها دون غيرها.
121- "وقل للذين لا يؤمنون" بهذا الحق ولا يتعظون ولا يتذكرون "اعملوا على مكانتكم" على تمكنكم وحالكم وجهتكم، وقد تقدم تحقيقه "إنا عاملون" على مكانتنا وحالنا وجهتنا من الإيمان بالحق والاتعاظ والتذكر، وفي هذا تشديد للوعيد والتهديد لهم.
وكذلك قوله: 122- "وانتظروا إنا منتظرون" فيه من الوعيد والتهديد ما لا يخفى. والمعنى: انتظروا عاقبة أمرنا فإنا منتظرون عاقبة أمركم وما يحل بكم من عذاب الله وعقوبته.
123- "ولله غيب السموات والأرض" أي علم جميع ما هو غائب عن العباد فيهما، وخص الغيب من كونه يعلم بما هو مشهود، كما يعلم بما هو مغيب، لكونه من العلم الذي لا يشاركه فيه غيره، وقيل: إن غيب السموات والأرض نزول العذاب من السماء وطلوعه من الأرض، والأول أولى، وبه قال أبو علي الفارسي وغيره، وأضاف الغيب إلى المفعول توسعاً "وإليه يرجع الأمر كله" أي يوم القيامة فيجازي كلاً بعمله. وقرأ نافع وحفص "يرجع" على البناء للمفعول. وقرأ الباقون على البناء للفاعل "فاعبده وتوكل عليه" فإنه كافيك كل ما تكره، ومعطيك كل ما تحب، والفاء لترتيب الأمر بالعبادة، والتوكل على كون مرجع الأمور كلها إلى الله سبحانه "وما ربك بغافل عما تعملون" بل عالم بجميع ذلك ومجاز عليه إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. وقرأ أهل المدينة والشام وحفص "تعملون" بالفوقية على الخطاب. وقرأ الباقون بالتحتية. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله: "فلولا" قال: فهلا. وأخرج ابن مردويه عن أبي بن كعب قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية وأحلام ينهون عن الفساد في الأرض. وأخرج أبو الشيخ عن ابن جريج "إلا قليلاً ممن أنجينا منهم" يستقلهم الله من كل قوم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد "واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه" قال: في ملكهم وتجبرهم وتركهم الحق. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ من طريق ابن جريج قال: قال ابن عباس: أترفوا فيه أبطروا فيه. وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن جرير قال: "قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن تفسير هذه الآية "وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأهلها ينصف بعضهم بعضاً". وأخرجه ابن أبي حاتم والخرائطي في مساوئ الأخلاق موقوفاً على جرير. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة" قال: أهل دين واحد أهل ضلالة أو أهل هدى. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس "ولا يزالون مختلفين" قال: أهل الحق وأهل الباطل "إلا من رحم ربك" قال: أهل الحق "ولذلك خلقهم" قال: للرحمة. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عنه "إلا من رحم ربك" قال: إلا أهل رحمته فإنهم لا يختلفون. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: لا يزالون مختلفين في الأهواء. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عطاء بن أبي رباح "ولا يزالون مختلفين" أي اليهود والنصارى والمجوس والحنيفية، وهم الذين رحم ربك الحنيفية. وأخرج هؤلاء عن الحسن في الآية قال: الناس مختلفون على أديان شتى إلا من رحم ربك، فمن رحم ربك غير مختلف "ولذلك خلقهم" قال: للاختلاف. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد "ولا يزالون مختلفين" قال: أهل الباطل "إلا من رحم ربك" قال: أهل الحق "ولذلك خلقهم" قال: للرحمة. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة نحوه. وأخرجا عن الحسن قال: لا يزالون مختلفين في الرزق. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس ولذلك خلقهم قال: خلقهم فريقين فريقاً يرحم فلا يختلف، وفريقاً لا يرحم يختلف، فذلك قوله: "فمنهم شقي وسعيد". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج في قوله: "وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك" لتعلم يا محمد ما لقيت الرسل قبلك من أممهم. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه من طرق عن ابن عباس قال: "وجاءك في هذه الحق" قال: في هذه السورة. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي موسى الأشعري مثله. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير مثله أيضاً. وأخرج أبو الشيخ عن الحسن مثله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال في هذه الدنيا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة "اعملوا على مكانتكم" أي منازلكم. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن جريج " فانتظروا إني معكم من المنتظرين " قال: يقول انتظروا مواعيد الشيطان إياكم على ما يزين لكم، وفي قوله: "وإليه يرجع الأمر كله" قال: فيقضي بينهم بحكم العدل. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن الضريس في فضائل القرآن وابن جرير وأبو الشيخ عن كعب قال: فاتحة التوراة فاتحة الأنعام، وخاتمة التوراة خاتمة هود "ولله غيب السموات والأرض" إلى آخر الآية. بحمد الله تم طبع الجزء الثاني، ويليه الجزء الثالث وأوله: تفسير سورة يوسف عليه السلامسورة يوسف قيل هي مائة وإحدى عشرة آية وهي مكية كلها، وقيل نزلت ما بين مكة والمدينة وقت الهجرة. وقال ابن عباس في رواية عنه وقتادة: إلا أربع آيات. وأخرج النحاس وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة يوسف بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج الحاكم وصححه عن رفاعة بن رافع الزرقي: أنه خرج هو وابن خالته معاذ بن عفراء حتى قدما مكة، وذكر قصة وفي آخرها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمهما سورة يوسف، و"اقرأ باسم ربك"، ثم رجعا. وأخرج البيهقي في الدلائل من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس "أن حبراً من اليهود دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوافقه وهو يقرأ سورة يوسف، فقال: يا محمد من علمكها؟ قال: الله علمنيها، فعجب الحبر لما سمع منه، فرجع إلى اليهود، فقال لهم: والله إن محمداً ليقرأ القرآن كما أنزل في التوراة، فانطلق بنفر منهم حتى دخلوا عليه فعرفوه بالصفة، ونظروا إلى خاتم النبوة بين كتفيه فجعلوا سمعهم إلى قراءته لسورة يوسف فتعجبوا منه، وأسلموا عند ذلك" وأخرج الثعلبي عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "علموا أقاربكم سورة يوسف، فإنه أيما مسلم تلاها أو علمها أهله وما ملكت يمينه هون الله عليه سكرات الموت، وأعطاه القوة أن لا يحسد مسلماً". وفي إسناده سلام بن سالم، ويقال ابن سليم المدائني، وهو متروك عن هارون بن كثير. قال أبو حاتم: مجهول، وقد ذكر له الحافظ ابن عساكر متابعاً من طريق القاسم بن الحكم عن هارون بن كثير، ومن طريق شبابة عن مجلز بن عبد الواحد البصري عن علي بن زيد بن جدعان، وعن عطاء بن ميمون عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب مرفوعاً فذكر نحوه، وهو منكر من جميع طرقه. قال القرطبي: قال سعد بن أبي وقاص: أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاه عليهم زماناً، فقالوا: لو حدثتنا، فنزل قوله تعالى: "الله نزل أحسن الحديث" قال: قال العلماء: وذكر الله أقاصيص الأنبياء في القرآن وكررها بمعنى واحد في وجوه مختلفة بألفاظ متباينة على درجات البلاغة. وقد ذكر قصة يوسف ولم يكررها، فلم يقدر مخالف على معارضة ما تكرر، ولا على معارضة غير المتكرر. قوله: 1- "الر" قد تقدم الكلام فيه في فاتحة سورة يونس، والإشارة بقوله: "تلك" إلى آيات السورة، والكتاب المبين: السورة، أي تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة آيات السورة الظاهر أمرها في إعجاز العرب وتبكيتهم، والمبين من أبان بمعنى بان: أي الظاهر أمره في كونه من عند الله وفي إعجازه، أو المبين بمعنى الواضح المعنى بحيث لا يلتبس على قارئه وسامعه، أو المبين لما فيه من الأحكام.
2- "إنا أنزلناه" أي الكتاب المبين حال كونه "قرآناً عربياً"، فعلى تقدير أن الكتاب السورة تكون تسميتها قرآناً باعتبار أن القرآن اسم جنس يقع على الكل وعلى البعض، وعلى تقدير أن المراد بالكتاب كل القرآن، فتكون تسميته قرآناً واضحة، وعربياً صفة لقرآنا: أي على لغة العرب "لعلكم تعقلون" أي لكي تعلموا معانيه وتفهموا ما فيه.
3- "نحن نقص عليك أحسن القصص" القصص تتبع الشيء، ومنه قوله تعالى: "وقالت لأخته قصيه"، أي تتبعي أثره وهو مصدر، والتقدير: نحن نقص عليك قصصاً أحسن القصص، فيكون بمعنى الاقتصاص، أو هو بمعنى المفعول: أي المقصوص "بما أوحينا إليك" أي بإيحائنا إليك "هذا القرآن" وانتصاب القرآن على أنه صفة لاسم الإشارة، أو بدل منه، أو عطف بيان، وأجاز الزجاج الرفع على تقدير مبتدأ، وأجاز الفراء الجر، ولعل وجهه أن يقدر حرف الجر في بما أوحينا داخلاً على اسم الإشارة، فيكون المعنى: نحن نقص عليك أحسن القصص بهذا القرآن "وإن كنت من قبله لمن الغافلين" إن هي المخففة من الثقيلة بدليل اللام الفارقة بينها وبين النافية، والضمير في من قبله عائد على الإيحاء المفهوم من أوحينا، والمعنى: أنك قبل إيحائنا إليك من الغافلين عن هذه القصة. واختلف في وجه كون ما في هذه السورة هو أحسن القصص، فقيل: لأن ما في هذه السورة من القصص يتضمن من العبر والمواعظ والحكم ما لم يكن في غيرها، وقيل لما فيها من حسن المحاورة وما كان من يوسف عليه السلام من الصبر على أذاهم وعفوه عنهم، وقيل لأن فيها ذكر الأنبياء والصالحين والملائكة والشياطين والجن والإنس والأنعام والطير وسير الملوك والمماليك والتجار والعلماء والجهال والنساء وحيلهن ومكرهن، وقيل لأن فيها ذكر الحبيب والمحبوب وما دار بينهما، وقيل إن أحسن هنا بمعنى أعجب، وقيل إن كل من ذكر فيها كان مآله السعادة.
4- قوله: "إذ قال يوسف لأبيه" إذ منصوب على الظرفية بفعل مقدر: أي اذكر وقت قال يوسف. قرأ الجمهور يوسف بضم السين، وقرأ طلحة بن مصرف بكسرها مع الهمز مكان الواو، وحكى ابن زيد الهمز وفتح السين، وهو غير منصرف للعجمة والعلمية، وقيل هو عربي، والأول أولى بدليل عدم صرفه "لأبيه" أي يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم "يا أبت" بكسر التاء في قراءة أبي عمرو وعاصم وحمزة والكسائي ونافع وابن كثير، وهي عند البصريين علامة التأنيث، ولحقت في لفظ أب في النداء خاصة بدلاً من الياء وأصله يا أبي، وكسرها للدلالة على أنها عوض عن حرف بناسب الكسر، وقرأ ابن عامر بفتحها، لأن الأصل عنه يا أبتا، ولا يجمع بين العوض والمعوض، فيقال يا أبتي، وأجاز الفراء يا أبت بضم التاء "إني رأيت" من الرؤيا النومية لا من الرؤية البصرية كما يدل عليه "لا تقصص رؤياك على إخوتك". قوله: "أحد عشر كوكباً" قرئ بسكون العين تخفيفاً لتوالي الحركات، وقرأ بفتحها على الأصل "والشمس والقمر" إنما أخرهما عن الكواكب لإظهار مزيتهما وشرفهما كما في عطف جبريل وميكائيل على الملائكة، وقيل إن الواو بمعنى مع، وجملة "رأيتهم لي ساجدين" مستأنفة لبيان الحالة التي رآهم عليها، وأجريت مجرى العقلاء في الضمير المختص بهم لوصفها بوصف العقلاء، وهو كونها ساجدة كذا قال الخليل وسيبويه، والعرب تجمع ما لا يعقل جمع من يعقل إذا أنزلوه منزلته.