تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 267 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 267

266

91- "الذين جعلوا القرآن عضين" جمع عضة، وأصلها عضوة فعلة من عضى الشاة إذا جعلها أجزاء، فيكون المعنى على هذا: الذين جعلوا القرآن أجزاء متفرقة، بعضه شعر، وبعضه سحر، وبعضه كهانة ونحو ذلك، وقيل هو مأخوذ من عضته إذا بهته، فالمحذوف منه الهاء لا الواو، وجمعت العضة على المعنيين جمع العقلاء لما لحقها من الحذف فجعلوا ذلك عوضاً عما لحقها من الحذف، وقيل معنى عضين إيمانهم ببعض الكتاب وكفرهم ببعض، ومما يؤيد، أن معنى عضين التفريق، قول رؤية: وليس دين الله بالعضين أي بالمفرق، وقيل العضة والعضين في لغة قريش السحر: وهم يقولون للساحر عاضه، وللساحرة عاضهة، ومنه قول الشاعر: أعوذ بربي من النافثات في عقد العاضهة والعضه وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن العاضهة والمستعضهة، وفسر بالساحرة والمستسحرة والمعنى: أنهم أكثروا البهت على القرآن، وسموه سحراً وكذباً وأساطير الأولين، ونظير عضة في النقصان شفة، والأصل شفهة، وكذلك سنة، والأصل سنهة. قال الكسائي: العضة: الكذب والبهتان: وجمعها عضون. وقال الفراء: إنه مأخوذ من العضاه، وهي شجر يؤذي ويجرح كالشوك، ويجوز أن يراد بالقرآن التوراة والإنجيل لكونهما مما يقرأ، ويراد بالمقتسمين هم اليهود والنصارى: أي جعلوهما أجزاء متفرقة، وهو أحد الأقوال المتقدمة.
92- "فوربك لنسألنهم أجمعين" أي لنسألن هؤلاء الكفرة أجمعين يوم القيامة عما كانوا يعملون في الدنيا من الأعمال التي يحاسبون عليها ويسألون عنها، وقيل إن المراد سؤالهم عن كلمة التوحيد.
والعموم في 93- "عما كانوا يعملون"، يفيد ما هو أوسع من ذلك، وقيل إن المسؤولين ها هنا هم جميع المؤمنين والعصاة والكفار، ويدل عليه قوله: "ثم لتسألن يومئذ عن النعيم" وقوله: "وقفوهم إنهم مسؤولون"، وقوله: " إن إلينا إيابهم * ثم إن علينا حسابهم "، ويمكن أن يقال: إن قصر هذا السؤال على المذكورين في السياق وصرف العموم إليهم لا ينافي سؤال غيرهم.
94- "فاصدع بما تؤمر" قال الزجاج: يقول أظهر ما تؤمر به، أخذ من الصديع وهو الصبح انتهى. وأصل الصدع الفرق والشق يقال صدعته فانصدع: أي انشق، وتصدع القوم: أي تفرقوا ومنه "يومئذ يصدعون" أي يتفرقون. قال الفراء: أراد فاصدع بالأمر: أي أظهر دينك فما مع الفعل على هذا بمنزلة المصدر، وقال ابن الأعرابي: معنى اصدع بما تؤمر: أي اقصد، وقيل فاصدع بما تؤمر: أي فرق جمعهم وكلمتهم بأن تدعوهم إلى التوحيد فإنهم يتفرقون، والأولى أن الصدع الإظهار، كما قاله الزجاج والفراء وغيرهم. قال النحويون: المعنى بما تؤمر به من الشرائع، وجوزوا أن تكون مصدرية: أي بأمرك وشأنك. قال الواحدي: قال المفسرون: أي اجهر بالأمر: أي بأمرك بعد إظهار الدعوة، وما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفياً حتى نزلت هذه الآية. ثم أمره سبحانه بعد أمره بالصدع بالإعراض وعدم الالتفات إلى المشركين، فقال: "وأعرض عن المشركين" أي لا تبال بهم ولا تلتفت إليهم إذا لاموك على إظهار الدعوة.
ثم أكد هذا الأمر وثبت قلب رسوله بقوله: 95- "إنا كفيناك المستهزئين" مع كونهم كانوا من أكابر الكفار، وأهل الشوكة فيهم فإذا كفاه الله أمرهم بقمعهم وتدميرهم كفاه أمر من هو دونهم بالأولى، وهؤلاء المستهزئون كانوا خمسة من رؤساء أهل مكة: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل والأسود بن المطلب بن الحرث بن زمعة، والأسود بن عبد يغوث، والحرث بن الطلاطلة. كذا قال القرطبي ووافقه غيره من المفسرين. وقد أهلكهم الله جميعاً وكفاهم أمرهم في يوم واحد.
ثم وصف هؤلاء المستهزئين بالشرك فقال: 96- "الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر" فلم يكن ذنبهم مجرد الاستهزاء، بل لهم ذنب آخر وهو الشرك بالله سبحانه، ثم توعدهم فقال: "فسوف يعلمون" كيف عاقبتهم في الآخرة وما يصيبهم من عقوبة الله سبحانه.
ثم ذكر تسلية أخرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد التسلية الأولى بكفايته شرهم ودفعه لمكرهم فقال: 97- "ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون" من الأقوال الكفرية المتضمنة للطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسحر والجنون والكهانة والكذب، وقد كان يحصل ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقتضى الجبلة البشرية والمزاج الإنساني.
ثم أمره سبحانه بأن يفزع لكشف ما نابه من ضيق الصدر إلى تسبيح الله سبحانه وحمده فقال: 98- "فسبح بحمد ربك" أي متلبساً بحمده: أي افعل التسبيح المتلبس بالحمد "وكن من الساجدين" أي المصلين فإنك إذا فعلت ذلك كشف الله همك وأذهب غمك وشرح صدرك.
ثم أمره بعبادة ربه: أي بالدوام عليها إلى غاية هي قوله: "حتى يأتيك اليقين" أي الموت. قال الواحدي، قال جماعة المفسرين: يعني الموت لأنه موقن به. قال الزجاج المعنى أعبد ربك أبداً، لأنه لو قيل اعبد ربك بغير توقيت لجاز إذا عبد الإنسان مرة أن يكون مطيعاً، فإذا قال حتى يأتيك اليقين، فقد أمره بالإقامة على العبادة أبداً ما دام حياً. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عمر في قوله: "ولقد آتيناك سبعاً من المثاني" قال: السبع المثاني فاتحة الكتاب. وأخرجه سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والدارقطني وابن مردويه والبيهقي من طرق عن علي بمثله. وأخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن مسعود مثله وزاد: والقرآن العظيم سائر القرآن. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس في الآية قال: فاتحة الكتاب استثناها الله لأمة محمد، فرفعها في أم الكتاب فادخرها لهم حتى أخرجها ولم يعط أحد قبل، قيل فأين الآية السابعة؟ قال: بسم الله الرحمن الرحيم، وروي عنه نحو هذا من طرق. وأخرج ابن الضريس وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة قال: السبع المثاني فاتحة الكتاب. وأخرج ابن جرير عن أبي بن كعب قال: السبع المثاني الحمد لله رب العالمين. وروي نحو قول هؤلاء الصحابة عن جماعة من التابعين. وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد بن المعلى أنه قال له النبي صلى الله عليه وسلم "ألا أعلمك أفضل سورة قبل أن أخرج من المسجد، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم ليخرج فذكرت، فقال: الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم". وأخرج البخاري أيضاً من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم" فوجب بهذا المصير إلى القوم بأنها فاتحة الكتاب، ولكن تسميتها بذلك لا ينافي تسمية غيرها به كما قدمنا. وأخرج ابن مردويه عن عمر قال في الآية: هي السبع الطوال. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود مثله. وأخرج الفريابي وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال في الآية: هي السبع الطوال. وأخرج الدارمي وابن مردويه عن أبي بن كعب مثله. وروي نحو ذلك عن جماعة من التابعين. وأخرج ابن مردويه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: هي فاتحة الكتاب والسبع الطوال. وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال: ماثني من القرآن، ألم تسمع لقول الله "الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني". وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: المثاني القرآن يذكر الله القصة الواحدة مراراً. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن زياد بن أبي مريم في الآية قال: أعطيتك سبعة أجزاء: مر، وآنه، وشر، وأنذر، واضرب الأمثال، واعدد النعم، واتل نبأ القرآن. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "لا تمدن عينيك" قال: نهى الرجل أن يتمنى مال صاحبه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "أزواجاً منهم" قال: الأغنياء الأمثال والأشباه. وأخرج ابن المنذر عن سفيان بن عيينة قال: من أعطي القرآن فمد عينه إلى شيء مما صغر القرآن فقد خالف القرآن، ألم يستمع إلى قوله: "ولقد آتيناك سبعاً من المثاني" وإلى قوله: "ورزق ربك خير وأبقى" وقد فسر ابن عيينة أيضاً الحديث الصحيح "ليس منا من لم يتغن بالقرآن" فقال: إن المعنى يستغني به. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "واخفض جناحك" قال: اخضع. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور والبخاري وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه من طرق عن ابن عباس في قوله: "كما أنزلنا على المقتسمين" الآية قال: هم أهل الكتاب جزأوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه. وأخرج ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عنه قال: عضين فرقاً. وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم وأبو نعيم والبيهقي عن ابن عباس أنها نزلت في نفر من قريش كانوا يصدون الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم الوليد بن المغيرة. وأخرج الترمذي وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون " قال: عن قول لا إله إلا الله. وأخرجه ابن أبي شيبة والترمذي وابن جرير وابن المنذر من وجه آخر عن أنس موقوفاً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عمر مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "فاصدع بما تؤمر" فامضه، وفي علي بن أبي طلحة مقال معروف. وأخرج ابن جرير عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال: ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفياً حتى نزل "فاصدع بما تؤمر" فخرج هو وأصحابه. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: هذا أمر من الله لنبيه بتبليغ رسالته قومه وجميع من أرسل إليه. وأخرج ابن المنذر عنه "فاصدع بما تؤمر" قال: أعلن بما تؤمر. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن أبي حاتم عن ابن عباس "وأعرض عن المشركين" قال: نسخه قوله تعالى: "فاقتلوا المشركين". وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه وأبو نعيم والضياء في المختارة عن ابن عباس في قوله: "إنا كفيناك المستهزئين" قال: المستهزئون الوليد بن المغيرة والأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب والحارث بن عيطل السهمي والعاص بن وائل، وذكر قصة هلاكهم. وقد روي هذا عن جماعة من الصحابة مع زيادة في عددهم ونقص، على طول في ذلك. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والحاكم في التاريخ وابن مردويه والديلمي عن أبي مسلم الخولاني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أوحي إلي أن أجمع المال وأكن من التاجرين، ولكن أوحي إلي أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين". وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود مرفوعاً مثله. وأخرج ابن مردويه والديلمي عن أبي الدرداء مرفوعاً نحوه. وأخرج الخطيب في المتفق والمفترق من طريق عبيد الله بن أبان بن عثمان بن حذيفة ابن أوس الطائفي قال: حدثني أبان بن عثمان عن أبيه عن جده يرفعه مثل حديث أبي مسلم الخولاني. وأخرج ابن أبي شيبة عن سالم بن عبد الله بن عمر "حتى يأتيك اليقين" قال الموت. وأخرج ابن المبارك عن الحسن مثله. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد مثله.سورة النحلآياتها مائة آية وثمان وعشرون آية وهي مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، ورواه ابن مردويه عن ابن عباس وعن أبي الزبير. وأخرج النحاس من طريق مجاهد عن ابن عباس قال: سورة النحل نزلت بمكة سوى ثلاث آيات من آخرها فإنهن نزلن بين مكة والمدينة في منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد، قيل وهي قوله: "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به" الآية، وقوله: "واصبر وما صبرك إلا بالله" في شأن التمثيل بحمزة وقتلى أحد، وقوله: "ثم إن ربك للذين هاجروا" الآية، وقيل الثالثة "ولا تشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً" إلى قوله "بأحسن ما كانوا يعملون" وتسمى هذه السورة سورة النعم بسبب ما عدد الله فيها. قوله: 1- "أتى أمر الله" أي عقابه للمشركين، وقال جماعة من المفسرين: القيامة. قال الزجاج: هو ما وعدهم به من المجازاة على كفرهم، وعبر عن المستقبل بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقيق وقوعه، وقيل إن المراد بأمر الله حكمه بذلك، وقد وقع وأتى، فأما المحكوم به فإنه لم يقع، لأنه سبحانه حكم بوقوعه في وقت معين، فقبل مجيء ذلك الوقت لا يخرج إلى الوجود، وقيل إن المراد بإتيانه إتيان مباديه ومقدماته "فلا تستعجلوه" نهاهم عن استعجاله: أي فلا تطلبوا حضوره قبل ذلك الوقت، وقد كان المشركون يستعجلون عذاب الله كما قال النضر بن الحارث "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك" الآية، والمعنى: قرب أمر الله فلا تستعجلوه، وقد كان استعجالهم له على طريقة الاستهزاء من دون استعجال على الحقيقة، وفي نهيهم عن الاستعجال تهكم بهم "سبحانه وتعالى عما يشركون" أي تنزه وترفع عن إشراكهم، أو عن أن يكون له شريك، وشركهم ههنا هو ما وقع منهم من استعجال العذاب، أو قيام الساعة استهزاءً وتكذيباً، فإنه يتضمن وصفهم له سبحانه بأنه لا يقدر على ذلك، وأنه عاجز عنه والعجز وعدم القدرة من صفات المخلوقات لا من صفات الخالق، فكان ذلك شركاً.
2- "ينزل الملائكة بالروح من أمره" قرأ المفضل عن عاصم تنزل الملائكة، والأصل تتنزل، فالفعل مسند إلى الملائكة. وقرأ الأعمش تنزل على البناء للمفعول، وقرأ الجعفي عن أبي بكر عن عاصم ننزل بالنون، والفاعل هو الله سبحانه. وقرأ الباقون "ينزل الملائكة" بالياء التحتية إلا أن ابن كثير وأبا عمرو يسكنان النون، والفاعل هو الله سبحانه، ووجه اتصال هذه الجملة بما قبلها أنه صلى الله عليه وسلم لما أخبرهم عن الله أنه قد قرب أمره، ونهاهم عن الاستعجال ترددوا في الطريق التي علم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فأخبر أنه علم بها بالوحي على ألسن رسل الله سبحانه من ملائكته، والروح: الوحي، ومثله "يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده" وسمي الوحي روحاً لأنه يحيي قلوب المؤمنين، فإن من جملة الوحي القرآن، وهو نازل من الدين منزلة الروح من الجسد، وقيل المراد أرواح الخلائق، وقيل الروح الرحمة، وقيل الهداية لأنها تحيا بها القلوب كما تحيا الأبدان بالأرواح. قال الزجاج: الروح ما كان فيه من الله حياة بالإرشاد إلى أمره. وقال أبو عبيد: الروح هنا جبريل، وتكون الباء على هذا بمعنى مع، ومن في "من أمره" بيانية: أي بأشياء أو مبتدئاً من أمره أو صفة للروح، أو متعلق بينزل، ومعنى "على من يشاء من عباده" على من اختصه بذلك، وهم الأنبياء "أن أنذروا". قال الزجاج "أن أنذروا" بدل من الروح أي ينزلهم بأن أنذروا، وأن إما مفسرة لأن تنزل الوحي فيه معنى القول، وإما مخففة من الثقيلة وضمير الشأن مقدر: أي بأن الشأن أقول لكم أنذروا: أي أعلموا الناس "أنه لا إله إلا أنا" أي مروهم بتوحيدي وأعلموهم ذلك مع تخويفهم، لأن في الإنذار تخويفاً وتهديداً، والضمير في أنه للشأن "فاتقون" الخطاب للمستعجلين على طريق الالتفات، وهو تحذير لهم من الشرك بالله.
ثم إن الله سبحانه لما أرشدهم إلى توحيده ذكر دلائل التوحيد فقال: 3- "خلق السموات والأرض بالحق" أي أوجدهما على هذه الصفة التي هما عليها بالحق: أي للدلالة على قدرته ووحدانيته، وقيل المراد بالحق هنا الفناء والزوال "تعالى" الله "عما يشركون" أي ترفع وتقدس عن إشراكهم أو عن شركة الذي يجعلونه شريكاً له.
ثم لما كان نوع الإنسان أشرف أنواع المخلوقات السفلية قدمه وخصه بالذكر فقال: 4- "خلق الإنسان" وهو اسم لجنس هذا النوع "من نطفة" من جماد يخرج من حيوان، وهو المني فنقله أطواراً إلى أن كملت صورته، ونفخ فيه الروح وأخرجه من بطن أمه إلى هذه الدار فعاش فيها "فإذا هو" بعد خلقه على هذه الصفة "خصيم" أي كثير الخصومة والمجادلة، والمعنى: أنه كالمخاصم لله سبحانه في قدرته، ومعنى "مبين" ظاهر الخصومة واضحها، وقيل يبين عن نفسه ما يخاصم به من الباطل، والمبين هو المفصح عما في ضميره بمنطقه ومثله قوله تعالى: "أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين".
ثم عقب ذكر خلق الإنسان بخلق الأنعام لما فيها من النفع لهذا النوع، فالامتنان بها أكمل من الامتناع بغيرها، فقال: "والأنعام خلقها لكم" وهي الإبل والبقر والغنم، وأكثر ما يقال نعم وأنعام للإبل، ويقال للمجموع، ولا يقال للغنم مفردة، ومنه قول حسان: وكانت لا يزال بها أنيس خلال مروجها نعم وشاء فعطف الشاء على النعم، وهي هنا الإبل خاصة. قال الجوهري: والنعم واحد الأنعام، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل. ثم لما أخبر سبحانه بأنه خلقها لبني آدم بين المنفعة التي فيها لهم فقال: "فيها دفء" الدفء: السخانة، وهو ما استدفئ به من أصوافها وأوبارها وأشعارها، والجملة في محل نصب على الحال "ومنافع" معطوف على دفء، وهي درها وركوبها ونتاجها والحراثة بها ونحو ذلك. وقد قيل إن الدفء: النتاج واللبن. قال في الصحاح: الدفء نتاج الإبل وألبانها وما ينتفع به منها، ثم قال: والدفء أيضاً السخونة، وعلى هذا فإن أريد بالدفء المعنى الأول فلا بد من حمل المنافع على ما عداه مما ينتفع به منها، وإن حمل على المعنى الثاني كان تفسير المنافع بما ذكرناه واضحاً، وقيل المراد بالمنافع النتاج خاصة، وقيل الركوب "ومنها تأكلون" أي من لحومها وشحومها، وخص هذه المنفعة بالذكر مع دخولها تحت المنافع لأنها أعظمها، وقيل خصها لأن الانتفاع بلحمها وشحمها تعدم عنده عينها بخلاف غيره من المنافع التي فيها، وتقديم الظرف المؤذن بالاختصاص للإشارة إلى أن الأكل منها هو الأصل، وغيره نادر.
6- "ولكم فيها جمال" أي لكم فيها مع ما تقدم ذكره جمال، والجمال: ما يتجمل به ويتزين، والجمال: الحسن، والمعنى هنا: لكم فهيا تجمل وتزين عند الناظرين إليها "حين تريحون وحين تسرحون" أي في هذين الوقتين، وهما وقت ردها من مراعيها، ووقت تسريحها إليها، فالرواح رجوعها بالعشي من المراعي، والسراح: مسيرها إلى مراعيها بالغداة، يقال سرحت الإبل أسرحها سرحاً وسروحاً: إذا غدوت بها إلى المرعى، وقدم الإراحة على التسريح لأن منظرها عند الإراحة أجمل، وذواتها أحسن لكونها في تلك الحالة قد نالت حاجتها من الأكل والشرب، فعظمت بطونها وانتفخت ضروعها، وخص هذين الوقتين لأنهما وقت نظر الناظرين إليها لأنها عنداستقرارها في الحظائر لا يراها أحد، وعند كونها في مراعيها هي متفرقة غير مجتمعة كل واحد منها يرعى في جانب.