تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 312 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 312

311

"وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً" أي كل واحد منهم يأتيه يوم القيامة فرداً لا ناصر له ولا مال معه كما قال سبحانه: "يوم لا ينفع مال ولا بنون". وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ويكونون عليهم ضداً" قال: أعواناً. وأخرج عبد بن حميد عنه "ضداً" قال: حسرة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال "تؤزهم أزاً" تغويهم إغواءً. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً "تؤزهم أزاً" قال: تحرض المشركين على محمد وأصحابه. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: تزعجهم إزعاجاً إلى معاصي الله وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن ابن عباس "وفداً" قال: ركباناً. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن أبي هريرة "وفداً" قال: على الإبل. وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحشر الناس يوم القيامة على ثلاث طرائق: راغبين وراهبين وإثنان على بعير وثلاثة على بعير وأربعة على بعير وعشرة على بعير، وتحشر بقيتهم النار تقيل معهم حيث قالوا: وتبيت معهم حيث باتوا" والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن ابن عباس "ورداً" قال: عطاشاً. وأخرج ابن المنذر عن أبي هريرة مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: "إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً" قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وتبرأ من الحول والقوة، ولا يرجو إلا الله. وأخرج ابن مردويه عنه في الآية قال: من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قرأ "إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً" قال: إن الله يقول يوم القيامة: من كان له عندي عهد فليقم، فلا يقوم إلا من قال هذا في الدنيا، قولوا: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك في الحياة الدنيا أنك إن تكلني إلى عملي تقربني من الشر وتباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك، فاجعله لي عندك عهداً تؤديه إلأي يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أدخل على مؤمن سروراً فقد سرني، ومن سرني فقد اتخذ عند الرحمن عهداً، ومن اتخذ عند الرحمن عهداً فلا تمسه النار، إن الله لا يخلف الميعاد". وأخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جاءنا بالصلوات الخمس يوم القيامة قد حافظ على وضوئها ومواقيتها وركوعها وسجودها لم ينقص منها شيئاً جاء وله عند الله عهد أن لا يعذبه، ومن جاء قد انتقص منهم شيئاً فليس له عند الله عهد، إن شاء رحمه وإن شاء عذبه". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "لقد جئتم شيئاً إداً" قال: قولاً عظيماً، وفي قوله: " تكاد السماوات " قال: إن الشرك فرغت منه السموات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين وكادت تزول منه لعظمة الله سبحانه، وكما لا ينفع مع الشرك إحسان المشرك كذلك يرجو أن يغفر الله ذنوب الموحدين، وفي قوله: "وتخر الجبال هداً" قال: هدماً. وأخرج ابن المبارك وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة والطبراني والبيهقي في الشعب من طريق عون عن ابن مسعود قال: إن الجبل لينادي الجبل باسمه، يا فلان هل مر بك اليوم أحد ذكر الله؟ فإذا قال نعم استبشر. قال عون: أفيسمعن الزور إذا قيل ولا يسمعن الخير؟ هن للخير أسمع، وقرأ "وقالوا اتخذ الرحمن ولداً" الآيات.
ذكر سبحانه من أحوال المؤمنين بعض ما خصهم به بعد ذكره لقبائح الكافرين فقال: 96- "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً" أي حباً في قلوب عباده يجعله لهم من دون أن يطلبوه بالأسباب التي توجب ذلك كما يقذف في قلوب أعدائهم الرعب، والسين في سيجعل للدلالة على أن ذلك لم يكن من قبل وأنه مجعول من بعد نزول الآية. وقرئ وداً بكسر الواو، والجمهور من السبعة وغيرهم على الضم.
ثم ذكر سبحانه تعظيم القرآن خصوصاً هذه السورة لاشتمالها على التوحيد والنبوة، وبيان حال المعاندين فقال: 97- "فإنما يسرناه بلسانك" أي يسرنا القرآن بإنزالنا له على لغتك، وفصلناه وسهلناه، والباء بمعنى على، والفاء لتعليل كلام ينساق إليه النظم كأنه قيل: بلغ هذا المنزل أو بشر به أو أنذر "فإنما يسرناه" الآية. ثم علل ما ذكره من التيسير فقال: "لتبشر به المتقين" أي المتلبسين بالتقوى، المتصفين بها "وتنذر به قوماً لداً" اللد جمع الألد، وهو الشديد الخصومة، ومنه قوله تعالى: "ألد الخصام" قال الشاعر: أبيت نجياً للهموم كأنني أخاصم أقواماً ذوي جدل لداً وقال أبو عبيدة: الألد الذي لا يقبل الحق ويدعي الباطل، وقيل اللد الصم، وقيل الظلمة.
98- "وكم أهلكنا قبلهم من قرن" أي من أمة وجماعة من الناس، وفي هذا وعد لرسول الله صلى الله عليهم بهلاك الكافرين ووعيد لهم "هل تحس منهم من أحد" هذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها: أي هل تشعر بأحد منهم أو تراه "أو تسمع لهم ركزاً" الركز الصوت الخفي، ومنه ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض. قال طرفة وصادفتها سمع التوجس للسرى لركز خفي أو لصوت مفند وقال ذو الرمة: إذا توجس ركزاً مقفر ندس بنبأة الصوت ما في سمعه كذب أي: في استماعه كذب بل هو صادق الاستماع، والندس الحاذق، والنبأة الصوت الخفي. وقال اليزيدي وأبو عبيدة: الركز ما لا يفهم من صوت أو حركة. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عبد الرحمن بن عوف أنه لما هاجر إلى المدينة وجد نفسه على فراق أصحابه بمكة منهم شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف، فأنزل الله "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات" الآية، قال ابن كثير: وهو خطأ، فإن السورة مكية بكمالها لم ينزل منها بعد الهجرة ولم يصح سند ذلك. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت في علي بن أبي طالب "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً" قال: محبة في قلوب المؤمنين. وأخرج ابن مردويه والديلمي عن البراء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: "قل اللهم اجعل لي عندك عهداً، واجعل لي عندك وداً واجعل لي في صدور المؤمنين مودة"، فأنزل الله الآية في علي. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير عن ابن عباس "وداً" قال: محبة في الناس في الدنيا. وأخرج الحكيم الترمذي وابن مردويه عن علي قال "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: "سيجعل لهم الرحمن وداً" ما هو؟ قال: المحبة الصادقة في صدور المؤمنين". وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أحب الله عبداً نادى جبريل إني قد أحببت فلاناً فأحبه، فينادي في السماء، ثم ينزل له المحبة في أهل الأرض فذلك قوله: "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً" وإذا أبغض الله عبداً نادى جبريل إني قد أبغضت فلاناً، فينادي في أهل السماء، ثم ينزل له البغضاء في الأرض" والأحاديث والآثار في هذا الباب كثيرة. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "وتنذر به قوماً لداً" قال: فجاراً. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن قال:صما . وأخرج إبن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله " هل تحس منهم من أحد " قال : هل ترى منهم من أحد. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "ركزاً" قال: صوتاً.سورة طههي مكية وآياتها مائة وخمس وثلاثون آية. قال القرطبي: مكية في قول الجميع. وأخرج النحاس وابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة طه بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج الدارمي وابن خزيمة في التوحيد، والعقيلي في الضعفاء، والطبراني في الأوسط، وابن عدي وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تبارك وتعالى قرأ طه ويس قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام، فلما سمعت الملائكة القرآن قالت: طوبى لأمة ينزل عليها هذا، وطوبى لأجواف تحمل هذا، وطوبى لألسنة تكلمت بهذا". قال ابن خزيمة بعد إخراجه: حديث غريب، وفيه نكارة، وإبراهيم بن مهاجر وشيخه تكلم فيهما، يعني إبراهيم بن مهاجر بن سمار وشيخه عمر بن حفص بن ذكوان وهما من رجال إسناده. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيب السورة التي ذكرت فيها الأنعام من الذكر الأول، وأعطيت سورة طه والطواسين من ألواح موسى، وأعطيت فواتح القرآن وخواتيم البقرة من تحت العرش، وأعطيت المفصل نافلة". وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل قرآن يوضع عن أهل الجنة فلا يقرأون منه شيئاً إلا سورة طه ويس، فإنهم يقرأون بهما في الجنة". وأخرج الدارقطني في سننه عن أنس بن مالك، فذكر قصة عمر بن الخطاب مع أخته وخباب وقراءتهما طه، وكان ذلك بسبب إسلام عمر، والقصة مشهورة في كتب السير. قوله: 1- "طه" قرأ بإمالة الهاء وفتح الطاء أبو عمرو وابن أبي إسحاق، وأمالهما جميعاً أبو بكر وحمزة والكسائي والأعمش. وقرأهما أبو جعفر وشيبة ونافع بين اللفظين، واختار هذه القراءة أبو عبيد. وقرأ الباقون بالتفخيم. قال الثعلبي: وهي كلها لغات صحيحة فصيحة. وقال النحاس: لا وجه للإمالة عند أكثر أهل العربية لعلتين: الأولى أنه ليس ها هنا ياء ولا كسرة حتى تكون الإمالة، والعلة الثانية أن الطاء من موانع الإمالة. وقد اختلف أهل العلم في معنى هذه الكلمة على أقوال: الأول أنها من المتشابه الذي لا يفهم المراد به، والثاني أنها بمعنى يا رجل في لغة عكل، وفي لغة عك. قال الكلبي: لو قلت لرجل من عك يا رجل لم يجب حتى تقول طه، وأنشد ابن جرير في ذلك: دعوت بطه في القتال فلم يجب فخفت عليه أن يكون موائلاً ويروى مزايلاً، وقيل إنها في لغة عك بمعنى يا حبيبي. وقال قطرب: هي كذلك في لغة طي: أي بمعنى يا رجل، وكذلك قال الحسن وعكرمة. وقيل هي كذلك في اللغة السريانية، حكاه المهدوي. وحكى ابن جرير أنها كذلك في اللغة النبطية، وبه قال السدي وسعيد بن حبين. وحكى الثعلبي عن عكرمة أنها كذلك في لغة الحبشة، ورواه عن عكرمة، ولا مانع من أن تكون هذه الكلمة موضوعة لذلك المعنى في تلك اللغات كلها إذا صح النقل. القول الثالث: أنها اسم من أسماء الله سبحانه. والقول الرابع أنها اسم للنبي صلى الله عليه وسلم. القول الخامس أنها اسم للسورة. القول السادس أنها حروف مقطعة يدل كل واحد منها على معنى. ثم اختلفوا في هذه المعاني التي تدل عليها هذه الحروف على أقوال كلها متكلفة متعسفة. القول السابع أن معناها طوبى لمن اهتدى. القول الثامن أن معناها: طإ الأرض يا محمد. قال ابن الأنباري: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحمل مشقة الصلاة حتى كادت قدماه تتورم ويحتاج إلى التروح، فقيل له طإ الأرض: أي لا تتعب حتى تحتاج إلى التروح. وحكى القاضي عياض في الشفاء عن الربيع بن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى، فأنزل الله "طه" يعني طإ الأرض يا محمد، وحكي عن الحسن البصري أنه قرأ طه على وزن دع أمر بالوطء، والأصل طأ فقلبت الهمزة هاء. وقد حكي الواحدى عن أكثر المفسرين أن هذه الكلمة معناها: يا رجل، يريد النبي صلى الله عليه وسلم قال: وهو قول الحسن وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة ومجاهد وابن عباس في رواية عطاء والكلبي غير أن بعضهم يقول: هي بلسان الحبشة والنبطية والسريانية، ويقول الكلبي: هي بلغة عك. قال ابن الأنباري: ولغة قريش وافقت تلك اللغة في هذا المعنى، لأن الله سبحانه لم يخاطب نبيه بلسان غير قريش انتهى. وإذا تقرر أنها لهذا المعنى في لغة من لغات العرب كانت ظاهرة المعنى واضحة الدلالة خارجة عن فواتح السور التي قدمنا بيان كونها من المتشابه في فاتحة سورة البقرة، وهكذا إذا كانت لهذا المعنى في لغة من لغات العجم واستعملها العرب في كلامها في ذلك المعنى كسائر الكلمات العجمية التي استعملتها العرب الموجودة في الكتاب العزيز، فإنها صارت بذلك الاستعمال من لغة العرب.
وجملة 2- "ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى" مستأنفة مسوقة لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يعتريه من جهة المشركين من التعب، والشقاء يجيء في معنى التعب. قال ابن كيسان: وأصل الشقاء في اللغة العناء والتعب، ومنه قول الشاعر: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم والمعنى: ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وتحسرك على أن يؤمنوا، فهو كقوله سبحانه: "فلعلك باخع نفسك" قال النحاس: بعض النحويين يقول: هذه اللام في "لتشقى" لام النفي، وبعضهم يقول لام الجحود. وقال ابن كيسان: هي لام الخفض، وهذا التفسير للآية هو على قول من قال إن طه كسائر فواتح السور التي ذكرت تعديداً لأسماء الحروف، وإن جعلت إسماً للسورة كان قوله: "ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى" خبراً عنها، وهي في موضع المبتدإ، وأما على قول من قال: إن معناها يا رجل، أو بمعنى الأمر بوطء الأرض فتكون الجملة مستأنفة لصرفه صلى الله عليه وسلم عما كان عليه من المبالغة في العبادة.
وانتصاب 3- "إلا تذكرة" على أنه مفعول له لـ "أنزلنا" كقولك: ما ضربتك للتأديب إلا إشفاقاً عليك. وقال الزجاج: هو بدل من لتشقى: أي ما أنزلناه إلا تذكرة. وأنكره أبو علي الفارسي من جهة أن التذكرة ليست بشقاء، قال: وإنما هو منصوب على المصدرية: أي أنزلناه لتذكر به تذكرة، أو على المفعول من أجله: أي ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى به، ما أنزلناه إلا للتذكرة.
وانتصاب 4- "تنزيلاً ممن خلق الأرض والسموات العلى" على المصدرية: أي أنزلناه تنزيلاً، وقيل بدل من قوله تذكرة، وقيل هو منصوب على المدح، وقيل منصوب ب"يخشى": أي يخشى تنزيلاً من الله على أنه مفعول به، وقيل منصوب على الحال بتأوله باسم الفاعل. وقرأ أبو حيوة الشامي تنزيل بالرفع على معنى هذا تنزيل، وممن خلق متعلق بتنزيلاً، أو بمحذوف هو صفة له، وتخصيص خلق الأرض والسموات لكونهما أعظم ما يشاهده العباد من مخلوقاته عز وجل، والعلى: جمع العليا: أي المرتفعة كجمع كبرى وصغرى على كبر وصغر. ومعنى الآية إخبار العباد عن كمال عظمته سبحانه وعظيم جلاله.
وارتفاع 5- "الرحمن" على أنه خبر مبتدأ محذوف كما قال الأخفش، ويجوز أن يكون مرتفعاً على المدح أو على الابتداء. وقرئ بالجر، قال الزجاج على البدل ممن، وجوز النحاس أن يكون مرتفعاً على البدل من المضمر في خلق، وجملة "على العرش استوى" في محل رفع على أنها خبر لمبتدإ محذوف، أو على أنها خبر الرحمن عند من جعله مبتدأ. قال أحمد بن يحيى: قال ثعلب: الاستواء الإقبال على الشيء، وكذا قال الزجاج والفراء. وقيل هو كناية عن الملك والسلطان، والبحث في تحقيق هذا يطول، وقد تقدم البحث عنه في الأعراف. والذي ذهب إليه أبو الحسن الأشعري أنه سبحانه مستو على عرشه بغير حد ولا كيف، وإلى هذا القول سبقه الجماهير من السلف الصالح الذي يروون الصفات كما وردت من دون تحريف ولا تأويل.
6- "له ما في السموات وما في الأرض" أي أنه مالك كل شيء ومدبره "وما بينهما" من الموجودات "وما تحت الثرى" الثرى في اللغة التراب الندي: أي ما تحت التراب من شيء. قال الواحدي: والمفسرون يقولون إنه سبحانه أراد الثرى الذي تحت الصخرة التي عليها الثور الذي تحت الأرض ولا يعلم ما تحت الثرى إلا الله سبحانه.
7- "وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى" الجهر بالقول هو رفع الصوت به والسر ما حدث به الإنسان غيره وأسره إليه، والأخفى من السر هو ما حدث به الإنسان نفسه وأخطره بباله. والمعنى: إن تجهر بذكر الله ودعائه فاعلم أنه غني عن ذلك، فإنه يعلم السر وما هو أخفى من السر، فلا حاجة لك إلى الجهر بالقول، وفي هذا معنى النهي عن الجهر كقوله سبحانه: "واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة" وقيل السر ما أسر الإنسان في نفسه، والأخفى منه هو ما خفي على ابن آدم مما هو فاعله وهو لا يعلمه، وقيل السر ما أضمره الإنسان في نفسه، والأخفى منه ما لم يكن ولا أضمره أحد، وقيل السر سر الخلائق، والأخفى منه سر الله عز وجل، وأنكر ذلك ابن جرير وقال: إن الأخفى ما ليس في سر الإنسان وسيكون في نفسه.
ثم ذكر ان الموصوف بالعبادة على الوجه المذكور هو الله سبحانه المنزه عن الشريك المستحق لتسميته بالأسماء الحسنى فقال: 8- "الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى" فالله خبر مبتدإ محذوف: أي الموصوف بهذه الصفات الكمالية الله، وجملة لا إله إلا هو مستأنفة لبيان اختصاص الإلهية به سبحانه: أي لا إله في الوجود إلا هو، وهكذا جملة له الأسماء الحسنى مبينة لاستحقاقه تعالى للأسماء الحسنى، وهي التسعة والتسعى التى ورد بها الحديث الصحيح. وقد تقدم بيانها في قوله سبحانه: "ولله الأسماء الحسنى" من سورة الأعراف، والحسنى تأنيث الأحسن، والأسماء مبتدأ وخبرها الحسنى، ويجوز أن يكون الله مبتدأ وخبره الجملة التي بعده، ويجوز أن يكون بدلاً من الضمير في يعلم.
ثم قرر سبحانه أمر التوحيد بذكر قصة موسى المشتملة على القدرة الباهرة، والخبر الغريب، فقال: 9- "وهل أتاك حديث موسى" الاستفهام للتقرير، ومعناه: أليس قد أتاك حديث موسى، وقيل معناه: قد أتاك حديث موسى، وقال الكلبي: لم يكن قد أتاه حديث موسى إذ ذاك. وفي سياق هذه القصة تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم لما يلاقيه من مشاق أحكام النبوة، وتحمل أثقالها ومقاساة خطوبها، وأن ذلك شأن الأنبياء قبله. والمراد بالحديث القصة الواقعة لموسى.
و 10- "إذ رأى ناراً" ظرف للحديث، وقيل العامل فيه مقدر: أي اذكر، وقيل يقدر مؤخراً: أي حين رأى ناراً كان كيت وكيت، وكانت رؤيته للنار في ليلة مظلمة لما خرج مسافراً إلى أمه بعد استئذانه لشعيب فـ لما رآه "قال لأهله امكثوا" والمراد بالأهل هنا امرأته، والجمع لظاهر لفظ الأهل أو للتفخيم، وقيل المراد بهم المرأة والولد والخادم، ومعنى امكثوا أقيموا مكانكم، وعبر بالمكث دون الإقامة، لأن الإقامة تقتضي الدوام، والمكث ليس كذلك. وقرأ حمزة "لأهله" بضم الهاء، وكذا في القصص. قال النحاس وهذا على لغة من قال: مررت بهو يا رجل فجاء به على الأصل وهو جائز إلا أن حمزة خالف أصله في هذه الموضعين خاصة "إني آنست ناراً" أي أبصرت، يقال آنست الصوت سمعته، وآنست الرجل أبصرته. وقيل الإيناس الإبصار البين، وقيل الإيناس مختص بإبصار ما يؤنس، والجملة تعليل للأمر بالمكث، ولما كان الإتيان بالقبس، ووجود الهدى متوقعين بين الأمر على الرجاء فقال: "لعلي آتيكم منها بقبس" أي أجيئكم من النار بقبس، والقبس شعلة من النار، وكذا المقباس، يقال قبست منه ناراً أقبس قبساً فأقبسني: أي أعطاني وكذا اقتبست. قال اليزيدي: أقبست الرجل علماً وقبسته ناراً، فإن كنت طلبتها له قلت أقبسته. وقال الكسائي: أقبسته ناراً وعلماً سواء، قال: وقبسته أيضاً فيهما "أو أجد على النار هدىً" أي هادياً يهديني إلى الطريق ويدلني عليها. قال الفراء: أزاد هادياً، فذكره بلفظ المصدر، أو عبر بالمصدر لقصد المبالغة على حذف المضاف: أي ذا هدى، وكلمة: أو في الموضعين لمنع الخلو دون الجمع، وحرف الاستعلاء للدلالة على أن أهل النار مستعلون على أقرب مكان إليها.
11- "فلما أتاها نودي" أي فلما أتى النار التي آنسها "نودي" من الشجرة، كما هو مصرح بذلك في سورة القصص: أي من جهتها.
ومن ناحيتها 12- " يا موسى * إني أنا ربك " أي نودي فقيل يا موسى. وقرأ أبو عمرو وابن كثير وأبو جعفر وابن محيصن وحميد واليزيدي "أني" بفتح الهمزة. وقرأ الباقون بكسرها: أي بأني "فاخلع نعليك" أمره الله سبحانه بخلع نعليه، لأن ذلك أبلغ في التواضع، وأقرب إلى التشريف والتكريم وحسن التأدب. وقيل إنهما كانا من جلد حمار غير مدبوغ، وقيل معنى الخلع للنعلين: تفريغ القلب من الأهل والمال، وهو من بدع التفاسير. ثم علل سبحانه الأمر بالخلع فقال: "إنك بالواد المقدس طوى" المقدس المطهر، والقدس الطهارة، والأرض المقدسة المطهرة، سميت بذلك لأن الله أخرج منها الكافرين وعمرها بالمؤمنين، وطوى اسم للوادي. قال الجوهري: وطوى اسم موضع بالشام بكسر طاؤه ويضم، ويصرف ولا يصرف، فمن صرفه جعله اسم واد ومكان وجعله نكرة ومن لم يصرفه جعله بلدة، وبقعة وجعله معرفة، وقرأ عكرمة طوى بكسر الطاء، وقرأ الباقون بضمها. وقيل إن طوى كثنى من الطي مصدر لنودي، أو للمقدس: أي نودي نداءين، أو قدس مرة بعد أخرى.