تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 332 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 332

331

وهي ثمان وسبعون آية. اختلف أهل العلم، هل هي مكية أو مدينة؟ فأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة الحج بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير مثله. وأخرج ابن المنذر عن قتادة قال: نزل بالمدينة من القرآن الحج غير أربع آيات مكيات " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي " إلى "عذاب يوم عقيم" وحكى القرطبي عن ابن عباس أنها مكية سوى ثلاث آيات وقيل أربع آيات إلى قوله "عذاب الحريق". وحكي عن النقاش أنه نزل بالمدينة منها عشر آيات. قال القرطبي وقال الجمهور: إن السورة مختلطة، منها مكي، ومنها مدني. قال: وهذا هو الصحيح. قال العزيزي: وهي من أعاجيب السور نزلت ليلاً ونهاراً، سفراً وحضراً، مكياً ومدنياً، سلمياً وحربياً، ناسخاً ومنسوخاً، محكماً ومتشابهاً. وقد ورد في فضلها ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عقبة بن عامر قال "قلت يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين؟ قال: نعم، فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما". قال الترمذي: هذا حديث ليس إسناده بالقوي. وأخرج أبو داود في المراسيل والبيهقي عن خالد بن معدان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فضلت سورة الحج على القرآن بسجدتين". وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة والإسماعيلي وابن مردويه والبيهقي عن عمر أنه كان يسجد سجدتين في الحج وقال: إن هذه السورة فضلت على سائر القرآن بسجدتين. وقد روي عن كثير من الصحابة أن فيها سجدتين، وبه يقول ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق. وقال بعضهم: إن فيها سجدة واحدة، وهو قول سفيان الثوري، وأخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عباس وإبراهيم النخعي. لما انجر الكلام في خاتمة السورة المتقدمة إلى ذكر الإعادة وما قبلها وما بعدها، بدأ سبحانه في هذه السورة بذكر القيامة وأهوالها حثاً على التقوى التي هي أنفع زاد فقال: 1- "يا أيها الناس اتقوا ربكم" أي احذروا عقابه بفعل ما أمركم به من الواجبات وترك ما نهاكم عنه من المحرمات، ولفظ الناس يشمل جميع المكلفين من الموجودين ومن سيوجد على ما تقرر في موضعه، وقد قدمنا طرفاً من تحقيق ذلك في سورة البقرة، وجملة "إن زلزلة الساعة شيء عظيم" تعليل لما قبلها من الأمر بالتقوى، والزلزلة شدة الحركة، وأصلها من زل عن الموضع: أي زال عنه وتحرك، وزلزل الله قدمه: أي حركها، وتكرير الحرف يدل على تأكيد المعنى، وهو من إضافة المصدر إلى فاعله، وهي على هذا: الزلزلة التي هي أحد أشراط الساعة التي تكون في الدنيا قبل يوم القيامة، هذا قول الجمهور، وقيل إنها تكون في النصف من شهر رمضان، ومن بعدها طلوع الشمس من مغربها، وقيل إن المصدر هنا مضاف إلى الظرف، وهو الساعة إجراءً له مجرى المفعول، أو بتقدير في كما في قوله: "بل مكر الليل والنهار" وهي المذكورة في قوله: "إذا زلزلت الأرض زلزالها" قيل وفي التعبير عنها بالشيء إيذان بأن العقول قاصرة عن إدراك كنهها.
2- "يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت" انتصاب الظرف بما بعده، والضمير يرجع إلى الزلزلة: أي وقت رؤيتكم لها تذهل كل ذات رضاع عن رضيعها وتغفل عنه. قال قطرب: تذهل تشتغل، وأنشد قول الشاعر: ضرب يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله وقيل تنسى، وقيل تلهو، وقيل تسلو، وهذه معانيها متقاربة. قال المبرد: إن ما فيما أرضعت بمعنى المصدر: أي تذهل عن الإرضاع، قال: وهذا يدل على أن هذه الزلزلة في الدنيا، إذ ليس بعد القيامة حمل وإرضاع، إلا أن يقال: من ماتت حاملاً فتضع حملها للهول، ومن ماتت مرضعة بعثت كذلك، ويقال هذا مثل كما يقال: "يوماً يجعل الولدان شيباً" وقيل يكون من النفخة الأولى، قال: ويحتمل أن تكون الساعة عبارة عن أهوال يوم القيامة، كما في قوله "مستهم البأساء والضراء وزلزلوا" ومعنى "وتضع كل ذات حمل حملها" أنها تلقي جنينها لغير تمام من شدة الهول، كما أن المرضعة تترك ولدها بغير رضاع لذلك "وترى الناس سكارى" قرأ الجمهور بفتح التاء والراء خطاب لكل واحد: أي يراهم الرائي كأنهم سكارى "وما هم بسكارى" حقيقة، قرأ حمزة والكسائي " سكارى " بغير ألف، وقرأ الباقون بإثباتها وهما لغتان يجمع بهما سكران، مثل كسلى وكسالى، ولما نفى سبحانه عنهم السكر أوضح السبب الذي لأجله شابهوا السكارى فقال: "ولكن عذاب الله شديد" فبسبب هذه الشدة والهول العظيم طاشت عقولهم، واضطربت أفهامهم فصاروا كالسكارى، بجامع سلب كمال التمييز وصحة الإدراك وقرئ وترى بضم التاء وفتح الراء مسنداً إلى المخاطب من أرأيتك: أي تظنهم سكارى. قال الفراء ولهذه القراءة وجه جيد في العربية.
ثم لما أراد سبحانه أن يحتج على على منكري البعث قدم قبل ذلك مقدمة تشمل أهل الجدال كلهم فقال: 3- "ومن الناس من يجادل في الله بغير علم" وقد تقدم إعراب مثل هذا التركيب في قوله: "ومن الناس من يقول" ومعنى في الله في شأن الله وقدرته، ومحل بغير علم النصب على الحال. والمعنى: أنه يخاصم في قدرة الله فيزعم أنه غير قادر على البعث بغير علم يعلمه، ولا حجة يدلي بها "ويتبع" فيما يقوله ويتعاطاه ويحتج به ويجادل عنه "كل شيطان مريد" أي متمرد على الله وهو العاتي، سمي بذلك لخلوه عن كل خير، والمراد إبليس وجنوده أو رؤساء الكفار الذين يدعون أشياعهم إلى الكفر. وقال الواحدي: قال المفسرون: نزلت في النضر بن الحارث وكان كثير الجدال، وكان ينكر أن الله يقدر على إحياء الأموات، وقيل نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة.
4- " كتب عليه أنه من تولاه " أي كتب على الشيطان، وفاعل كتب أنه من تولاه، والضمير للشأن: أي من اتخذ ولياً " فأنه يضله " أي فشأن الشيطان أن يضله عن طريق الحق، فقوله أنه يضله جواب الشرط إن جعلت من شرطية أو خبر الموصول إن جعلت موصولة، فقد وصف الشيطان بوصفين: الأول أنه مريد، والثاني ما أفاده جملة كتب عليه إلخ. وجملة "ويهديه إلى عذاب السعير" معطوفة على جملة يضله: أي يحمله على مباشرة ما يصير به في عذاب السعير.
ثم ذكر سبحانه ما هو المقصود من الاحتجاج على الكفار بعد فراغه من تلك المقدمة، فقال: 5- "يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث" قرأ الحسن البعث بفتح العين وهي لغة، وقرأ الجمهور بالسكون، وشكهم يحتمل أن يكون في وقوعه أو في إمكانه. والمعنى: إن كنتم في شك من الإعادة فانظروا في مبدإ خلقكم أي خلق أبيكم آدم ليزول عنكم الريب ويرتفع الشك وتدحض الشبهة الباطلة "فإنا خلقناكم من تراب" في ضمن خلق أبيكم آدم "ثم" خلقناكم "من نطفة" أي من مني، سمي نطفة لقلته، والنطفة: القليل من الماء. وقد يقع على الكثير منه، والنطفة: القطرة، يقال نطف ينطف: أي قطر، وليلة نطوف: أي دائمة القطر "ثم من علقة" والعلقة: الدم الجامد، والعلق: الدم العبيط: أي الطري أو المتجمد، وقيل الشديد الحمرة والمراد الدم الجامد المتكون من المني "ثم من مضغة" وهي القطعة من الحم قدر ما يمضغ الماضغ تتكون من العلقة "مخلقة" بالجر صفة لمضغة: أي مستبينة الخلق ظاهرة التصوير "وغير مخلقة" أي لم يستبن خلقها ولا ظهر تصويرها. قال ابن الأعرابي: مخلقة يريد قد بدأ خلقه، وغير مخلقة لم تصور. قال الأكثر: ما أكمل خلقه بنفخ الروح فيه فهو المخلقة وهو الذي ولد لتمام، وما سقط كان غير مخلقة أي غير حي بإكمال خلقته بالروح. قال الفراء: مخلقة تام الخلق، وغير مخلقة: السقط، ومنه قول الشاعر: أفي غير المخلقة البكاء فأين الحزم ويحك والحياء واللام في "لنبين لكم" متعلق بخلقنا: أي خلقناكم على هذا النمط لنبين لكم كمال قدرتنا بتصريفنا أطوار خلقكم "ونقر في الأرحام ما نشاء" روى أبو حاتم عن أبي زيد عن المفضل عن عاصم أنه قرأ بنصب تقر عطفاً على نبين، وقرأ الجمهور "نقر" بالرفع على الاستئناف: أي ونحن نقر. قال الزجاج: نقر بالرفع لا غير، لأنه ليس المعنى فعلنا ذلك لنقر في الأرحام ما نشاء، ومعنى الآية: ونثبت في الأرحام ما نشاء فلا يكون سقطاً "إلى أجل مسمى" وهو وقت الولادة، وقال ما نشاء ولم يقل من نشاء، لأنه يرجع إلى الحمل وهو جماد قبل أن ينفخ فيه الروح، وقرئ ليبين -ويقر- ويخرجكم بالتحتية في الأفعال الثلاثة، وقرأ ابن أبي وثاب ما نشاء بكسر النون "ثم نخرجكم طفلاً" أي نخرجكم من بطون أمهاتكم طفلاً: أي أطفالاً، وإنما أفرده إرادة للجنس الشامل للواحد والمتعدد. قال الزجاج طفلاً في معنى أطفالاً، ودل عليه ذكر الجماعة: يعني في نخرجكم، والعرب كثيراً ما تطلق اسم الواحد على الجماعة، ومنه قول الشاعر: يليحنني من حبها ويلمنني إن العواذل لسن لي بأمير وقال المبرد: هو اسم يستعمل مصدراً كالرضا والعدل، فيقع على الواحد والجمع، قال الله سبحانه: "أو الطفل الذين لم يظهروا". قال ابن جرير: هو منصوب على التمييز كقوله: "فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً" وفيه بعد، والظاهر انتصابه على الحال بالتأويل المذكور، والطفل يطلق على الصغير من وقت انفصاله إلى البلوغ " ثم لتبلغوا أشدكم " قيل هو علة لنخرجكم معطوف على علة أخرى مناسبة له، كأنه قيل: نخرجكم لتكبروا شيئاً فشيئاً ثم لتبلغوا إلى الأشد، وقيل إن ثم زائدة، والتقدير لتبلغوا، وقيل إنه معطوف على نبين، والأشد هو كمال العقل وكمال القوة والتمييز، فيل وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين. وقد تقدم الكلام في هذا مستوفى في الأنعام "ومنكم من يتوفى" يعني قبل بلوغ الأشد، وقرئ يتوفى مبنياً للفاعل. وقرأ الجمهور "يتوفى" مبنياً للمفعول "ومنكم من يرد إلى أرذل العمر" أي أخسه وأدونه، وهو الهرم والخرف حتى لا يعقل، ولهذا قال سبحانه: "لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً" أي شيئاً من الأشياء، أو شيئاً من العلم، والمعنى: أنه يصير من بعد أن كان ذا علم بالأشياء وفهم لها، لا علم له ولا فهم، ومثله قوله: " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين " وقوله: "ومن نعمره ننكسه في الخلق"، "وترى الأرض هامدة" هذه حجة أخرى على البعث، فإنه سبحانه احتج بإحياء الأرض بإنزال الماء على إحياء الأموات، والهامدة اليابسة التي لا تنبت شيئاً. قال ابن قتيبة: أي ميتة يابسة كالنار إذا طفئت، وقيل دراسة، والهمود الدروس، ومنه قول الأعشى: قالت قتيلة ما لجسمك شاحباً وأرى ثيابك باليات همودا وقيل هي التي ذهب عنها الندى، وقيل هالكة، ومعني هذه الأقوال متقاربة "فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت" المراد بالماء هنا المطر، ومعنى اهتزت تحركت، والاهتزاز شدة الحركة، يقال هززت الشيء فاهتز: أي حركته فتحرك: والمعنى: تحركت بالنبات، لأن النبات لا يخرج منها حتى يزيل بعضها من بعض إزالة حقيقة، فسماه اهتزازاً مجازاً. وقال المبرد: المعنى اهتز نباتها فحذف المضاف، واهتزازه شدة حركته، والاهتزاز في النبات أظهر منه في الأرض، ومعنى ربت ارتفعت، وقيل انتفخت. والمعنى واحد، وأصله الزيادة، يقال ربا الشيء يربوا ربواً إذا زاد ومنه الربا والربوة. وقرأ يزيد بن القعقاع وخالد بن إلياس وربأت أي ارتفعت حتى صارت بمنزلة الرابية، وهو الذي يحفظ القوم على مكان مشرف يقال له رابئ ورابئة وربيئة "وأنبتت" أي أخرجت "من كل زوج بهيج" أي من كل صنف حسن ولون مستحسن، والبهجة الحسن.