تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 385 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 385

384

89- "من جاء بالحسنة فله خير منها" الألف واللام للجنس: أي من جاء بجنس الحسنة فله من الجزاء والثواب عند الله خير منها: أي أفضل منها وأكثر، وقيل خير حاصل من جهتها، والأول أولى. وقيل المراد بالحسنة هنا: لا إله إلا الله، وقيل هي الإخلاص، وقيل أداء الفرائض، والتعميم أولى ولا وجه للتخصيص وإن قال به بعض السلف. قيل وهذه الجملة بيان لقوله إنه خبير بما تفعلون وقيل بيان لقوله وكل أتوه داخرين. قرأ عاصم وحمزة والكسائي "وهم من فزع" بالتنوين وفتح ميم "يومئذ". وقرأ نافع بفتحها من غير تنوين. وقرأ الباقون بإضافة فزع إلى يومئذ. قال أبو عبيد: وهذا أعجب إلي لأنه أعم التأويلين لأن معناه: الأمن من فزع جميع ذلك اليوم، ومع التنوين يكون الأمن من فزع دون فزع. وقيل إنه مصدر يتناول الكثير فلا يتم الترجيح بما ذكر، فتكون القراءتان بمعنى واحد. وقيل المراد بالفزع ها هنا هو الفزع الأكبر المذكور في قوله: "لا يحزنهم الفزع الأكبر"، ووجه قراءة نافع أنه نصب يوم على الظرفية لكون الإعراب فيه غير متمكن، ولما كانت إضافة الفزع إلى ظف غير متمكن بني، وقد تقدم في سورة هود كلام في هذا مستوفى.
90- "ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار". قال جماعة من الصحابة ومن بعدهم حتى قيل إنه مجمع عليه بين أهل التأويل: إن المراد بالسيئة هنا الشرك، ووجه التخصيص قوله: "فكبت وجوههم في النار" فهذا الجزاء لا يكون إلا بمثل سيئة الشرك ، ومعنى " فكبت وجوههم في النار "أنهم كبوا فيها على وجوههم وألقوا فيها وطرحوا عليها، يقال كببت الرجل: إذا ألقيته لوجهه فانكب وأكب، وجملة "هل تجزون إلا ما كنتم تعملون" بتقدير القول: أي يقال ذلك، والقائل خزنة جهنم: أي ما تجزون إلا جزاء عملكم.
91- "إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها" لما فرغ سبحانه من بيان أحوال المبدإ والمعاد أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هذه المقالة: أي قل يا محمد إنما أمرت أن أخص الله بالعبادة وحده لا شريك له، والمراد بالبلدة: مكة، وإنما خصها من بين سائر البلاد لكن فيها بيت الله الحرام، ولكونها أحب البلاد إلى رسوله، والموصول صلة للبلدة، ومعنى حرمها جعلها حرماً آمناً لا يسفك فيها دم، ولا يظلم فيها أحد، ولا يصطاد صيدها، ولا يختلى خلالها "وله كل شيء" من الأشياء خلقاً وملكاً وتصرفاً: أي ولله كل شيء "وأمرت أن أكون من المسلمين" أي المناقدين لأمر الله المستسلمين له بالطاعة، وامتثال أمره، واجتناب نهيه، والمراد بقوله أن أكون أن أثبت على ما أنا عليه.
92- " وأن أتلو القرآن " أي أداوم تلاوته وأواظب على ذلك. قيل وليس المراد من تلاوة القرآن هنا إلا تلاوة الدعوة إلى الإيمان، والأول أولى "فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه" لأن نفع ذلك راجع إليه: أي فمن اهتدى على العموم، أو فمن اهتدى بما أتلوه عليه فعمل بما فيه من الإيمان، والأول أولى "فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه" لأن نفع ذلك راجع إليه: أي فمن اهتدى على العموم، أو فمن اهتدى بما أتلوه عليه فعمل بما فيه من الإيمان بالله، والعمل بشرائعه. قرأ الجمهور "وأن أتلو" بإثبات الواو بعد اللام على أنه من التلاوة وهي القراءة، أو من التلو، وهو الاتباع. وقرأ عبد الله وأن اتل بحذف الواو أمراً له صلى الله عليه وسلم كذا وجهه الفراء. قال النحاس: ولا نعرف أحداً قرأ هذه القراءة، وهي مخالفة لجميع المصاحف "ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين" أي ومن ضل بالكفر وأعرض عن الهداية فقل له إنما أنا من المنذرين، وقد فعلت بإبلاغ ذلك إليكم وليس علي غير ذلك. وقيل الجواب محذوف: أي فوبال ضلاله عليه، وأقيم إنما أنا من المنذرين مقامه لكونه كالعلة له.
93- "وقل الحمد لله" على نعمه التي أنعم بها علي من النبوة والعلم وغير ذلك، وقوله: "سيريكم آياته" هو من جملة ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله: أي سيريكم الله آياته في أنفسكم وفي غيركم "فتعرفونها" أي تعرفون آياته، ودلائل قدرته ووحدانيته، وهذه المعرفة لا تنفع الكفار لأنهم عرفوها حين لا يقبل منهم الإيمان، وذلك عند حضور الموت. ثم ختم السورة بقوله: "وما ربك بغافل عما تعملون" وهو كلام من جهته سبحانه غير داخل تحت الكلام الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله، وفيه ترهيب شديد وتهديد عظيم. قرأ أهل المدينة والشام وحفص عن عاصم "تعملون" بالفوقية على الخطاب، وقرأ الباقون بالتحتية. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "داخرين" قال: صاغرين. وأخرج هؤلاء عنه في قوله: "وترى الجبال تحسبها جامدة" قال: قائمة "صنع الله الذي أتقن كل شيء" قال: أحكم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "صنع الله الذي أتقن كل شيء" قال: أحسن كل شيء خلقه وأوثقه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " من جاء بالحسنة فله خير منها " قال: هي لا إله إلا الله، "ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار" قال: هي الشرك، وإذا صح هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فالمصير إليه في تفسير كلام الله سبحانه متعين ويحمل على أن المراد قال: لا إله إلا الله بحقها، وما يجب لها، فيدخل تحت ذلك كل طاعة، ويشهد له ما أخرجه الحاكم في الكنى عن صفوان بن عسال قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة: جاء الإيمان والشرك يجثوان بين يدي الله سبحانه، فيقول الله للإيمان: انطلق أنت وأهلك إلى الجنة، ويقول للشرك: انطلق أنت وأهلك إلى النار، "من جاء بالحسنة فله خير منها" يعني قوله: لا إله إلا الله، "ومن جاء بالسيئة" يعني الشرك "فكبت وجوههم في النار"". وأخرج ابن مردويه من حديث أبي هريرة وأنس ونحوه مرفوعاً. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه وسلم -من جاء بالحسنة- يعني شهادة أن لا إله إلا الله "فله خير منها" يعني بالخير الجنة "ومن جاء بالسيئة" يعني الشرك فكبت وجههم في النار وقال هذه تنجي، وهذه تردي. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات، والخرائطي في مكارم الأخلاق: عن ابن مسعود "من جاء بالحسنة" قال: لا إله إلا الله. "ومن جاء بالسيئة" قال: بالشرك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم "فله خير منها" قال: له منها خير، يعني من جهتها. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً "فله خير منها" قال: ثواب. وأخرج أيضاً عنه أيضاً قال: البلدة مكة.سورة القصصآياتها ثمان وثمانون آية، وهي مكية كلها في قول الحسن وعكرمة عطاء وأخرج ابن الضريس وابن النجار وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: نزلت سورة القصص بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثل ذلك: قال القرطبي: قال ابن عباس وقتادة: إنها نزلت بين مكة والمدينة. وقال ابن سلام: بالجحفة وقت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي قوله عز وجل "إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد" وقال مقاتل: فيها من المدني "الذين آتيناهم الكتاب" إلى قوله: "لا نبتغي الجاهلين". وأخرج أحمد والطبراني وابن مردويه: قال السيوطي: سنده جيد عن معد يكرب قال: أتينا عبد الله بن مسعود فسألناه أن يقرأ علينا طسم المائتين، فقال: ما هي معي، ولكن عليكم بمن أخذها من رسول الله صلى الله عليه وسلم خباب بن الأرت، فأتيت خبابا فقلت: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ طسم أو طس؟ فقال: كل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأه. 1- "طسم" الكلام في فاتحة السورة قد مر في فاتحة الشعراء وغيرها فلا نعيده.
وكذلك مر الكلام على قوله: 2- "تلك آيات الكتاب المبين" فاسم الإشارة مبتدأ خبره ما بعده، أو خبر مبتدأ محذوف وآيات بدل من اسم الإشارة، ويجوز أن يكون تلك في موضع نصب بنتلو، والمبين المشتمل على بيان الحق من الباطل. قال الزجاج: مبين الحق من الباطل، والحلال من الحرام، وهو من أبان بمعنى أظهر.
3- " نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون " أي نوحي إليك من خبرهما ملتبساً بالحق، وخص المؤمنين لأن التلاوة إنما ينتفع بها المؤمن. وقيل إن مفعول نتلو محذوف، والتقدير: نتلو عليك شيئاً من نبئهما، ويجوز أن تكون من مزيدة على رأي الأخفش: أي نتلو عليك نبأ موسى وفرعون، والأولى أن تكون للبيان على تقدير المفعول كما ذكر، أو للتبعيض، ولا ملجئ للحكم بزيادتها، والحق الصدق.
وجملة 4- "إن فرعون علا في الأرض" وما بعدها مستأنفة مسوقة لبيان ما أجمله من النبأ. قال المفسرون: معنى علا تكبر وتجبر بسلطانه، والمراد بالأرض أرض مصر. وقيل معنى علا: ادعى الربوبية، وقيل علا عن عبادة ربه "وجعل أهلها شيعاً" أي فرقاً وأصنافاً في خدمته يشايعونه على ما يريد ويطيعونه، وجملة "يستضعف طائفة منهم" مستأنفة مسوقة لبيان حال الأهل الذين جعلهم فرقاً وأصنافاً، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من فاعل جعل: أي جعلهم شيعاً حال كونهم مستضعفاً طائفة منهم، ويجوز أن تكون صفة لطائفة، والطائفة هم بنو إسرائيل، وجملة "يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم" بدل من الجملة الأولى، ويجوز أن تكون مستأنفة للبيان، أو حالاً، أو صفة كالتي قبلها على تقدير عدم كونها بدلاً منها، وإنما كان فرعون يذبح أبناءهم ويترك النساء، لأن المنجمين في ذلك العصر أخبروه أنه يذهب ملكه على يد مولود من بني إسرائيل. قال الزجاج: والعجب من حمق فرعون، فإن الكاهن الذي أخبره بذلك إن كان صادقاً عنده فما ينفع القتل، وإن كان كاذباً فلا معنى للقتل "إنه كان من المفسدين" في الأرض بالمعاصي والتجبر، وفيه بيان أن القتل من فعل أهل الإفساد.
5- "ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض" جاء بصيغة المضارع لحكاية الحالة الماضية. واستحضار صورها: أي نريد أن نتفضل عليهم بعد استضعافهم، والمراد بهؤلاء بنو إسرائيل، والواو في ونريد للعطف على جملة إن فرعون علا وإن كانت الجملة المعطوف عليها إسمية، لأن بينهما تناسباً من حيث أن كل واحدة منهما للتفسير والبيان، ويجوز أن تكون حالاً من فاعل يستضعف بتقدير مبتدأ: أي ونحن نريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض كما في قول الشاعر: نجوت وأرهنهم ملكاً والأول أولى "ونجعلهم أئمة" أي قادة في الخير ودعاة إليه، وولاة على الناس وملوكاً فيهم "ونجعلهم الوارثين" لملك فرعون ومساكن القبط وأملاكهم، فيكون ملك فرعون فيهم ويسكنون في مساكنه ومساكن قومه، وينتفعون بأملاكه وأملاكهم.