تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 483 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 483

482

هي ثلاث وخمسون آية، وهي مكية كلها. أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت " حم * عسق " بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله، وكذا قال الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وروي عن ابن عباس وقتادة أنها مكية إلا أربع آيات منها أنزلت بالمدينة "قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى" إلى آخرها. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم ونعيم بن حماد والخطيب عن أرطأة بن المنذر قال: جاء رجل إلى ابن عباس وعنده حذيفة بن اليمان فقال: أخبرني عن تفسير حم عسق، فأعرض عنه، ثم كرر مقالته فأعرض عنه وكرر مقالته، ثم كررها الثالثة فلم يجبه، فقال له حذيفة: أنا أنبئك بها لم كرهها؟ نزلت في رجل من أهل بيته يقال له عبد إله أو عبد الله ينزل على نهر من أنهار المشرق، يبني عليه مدينتين يشق النهر بينهما شقاً، يجتمع فيهما كل جبار عنيد، فإذا أذن الله في زوال ملكهم وانقطاع دولتهم ومدتهم بعث الله على إحداهما ناراً ليلاً فتصبح سوداء مظلمة قد احترقت كأنها لم تكن مكانها، وتصبح صاحبتها متعجبة كيف افتلتت، فما هو إلا بياض يومها ذلك حتى يجتمع فيها كل جبار عنيد منهم، ثم يخسف الله بها وبهم جميعاً، فذلك قوله: " حم * عسق " يعني عزيمة من الله وفتنة وقضاء جمع: يعني عدلاً منه، سين: يعني سيكون، ق لهاتين المدينتين. أقول: هذا الحديث لا يصح ولا يثبت وما أظنه إلا من الموضوعات المكذوبات، والحامل لواضعه عليه ما يقع لكثير من الناس من عداوة الدول والحط من شأنهم والإزراء عليهم. وأخرج أبو يعلى وابن عساكر قال السيوطي بسند ضعيف: قلت: بل بسند موضوع ومتن مكذوب عن أبي معاوية قال: صعد عمر بن الخطاب المنبر فقال: أيها الناس هل سمع منكم أحد رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر حم عسق فوثب ابن عباس فقال: إن حم اسم من أسماء الله، قال: فعين قال: عاين المذكور عذاب يوم بدر، قال: فسين، قال: "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون" قال: فقاف فسكت، فقام أبو ذر ففسر كما قال ابن العباس وقال: قاف قارعة من السماء تصيب الناس. قال ابن كثير في الحديث الأول: إنه غريب عجيب منكر، وفي الحديث الثاني: إنه أغرب من الحديث الأول. وعندي أنهما موضوعان مكذوبان. قوله: 1- "حم".
2- " حم * عسق " قد تقدم الكلام في أمثال هذه الفواتح، وسئل الحسن بن الفضل لم قطع حم عسق ولم يقطع كهيعص فقال: لأنها سور أولها حم فجرت مجرى نظائرها، فكأن حم مبتدأ وعسق خبره، ولأنهما عدا آيتين، وأخواتهما مثل: كهيعص والمر والمص آية واحدة. وقيل لأن أهل التأويل لم يختلفوا في كهيعص وأخواتها أنها حروف التهجي لا غير، واختلفوا في حم فقيل معناها حم: أي قضى كما تقدم. وقيل إن ح حلمه وم مجده، وع علمه، وق قدرته، أقسم الله بها. وقيل غير ذلك مما هو متكلف متعسف لم يدل عليه دليل ولا جاءت به حجة ولا شبهة حجة، وقد ذكرنا قبل هذا ما روي في ذلك مما لا أصل له، والحق ما قدمناه لك في فاتحة سورة البقرة. وقيل هما اسمان للسورة، وقيل اسم واحد لها، فعلى الأول يكونان خبرين لمبتدأ محذوف، وعلى الثاني يكون خبراً لذلك المبتدأ المحذوف. وقرأ ابن مسعود وابن عباس حم سق.
3- " كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم " هذا كلام مستأنف غير متعلق بما قبله: أي مثل ذلك الإيحاء الذي أوحي إلى سائر الأنبياء من كتب الله المنزلة عليهم المشتملة على الدعوة إلى التوحيد والبعث يوحى إليك يا محمد في هذه السورة. وقيل إن حم عسق أوحيت إلى من قبله من الأنبياء، فتكون الإشارة بقوله كذلك إليها. قرأ الجمهور "يوحى" بكسر الحاء مبنياً للفاعل وهو الله. وقرأ مجاهد وابن كثير وابن محيصن بفتحها مبنياً للمفعول، والقائم مقام الفاعل ضمير مستتر يعود على كذلك، والتقدير: مثل ذلك الإيحاء يوحي هو إليك، أو القائم مقام الفاعل إليك، أو الجملة المذكورة: أي يوحي إليك هذا اللفظ أو القرآن أو مصدر يوحي، وارتفاع الاسم الشريف على أنه فاعل لفعل محذوف كأنه قيل من يوحي؟ فقيل الله العزيز الحكيم. وأما قراءة الجمهور فهي واضحة اللفظ والمعنى، وقد تقدم مثل هذا في قوله: " يسبح له فيها بالغدو والآصال * رجال " وقرأ أبو حيوة والأعمش وأبان نوحي بالنون فيكون قوله: "الله العزيز الحكيم" في محل نصب، والمعنى: نوحي إليك هذا اللفظ.
4- "له ما في السموات وما في الأرض وهو العلي العظيم" ذكر سبحانه لنفسه هذا الوصف وهو ملك جميع ما في السموات والأرض لدلالته على كمال قدرته ونفوذ تصرفه في جميع مخلوقاته.
5- "تكاد السموات يتفطرن من فوقهن" قرأ الجمهور "تكاد" بالفوقية، وكذلك " يتفطرن " قرأوه بالفوقية مع تشديد الطاء. وقرأ نافع والكسائي وابن وثاب " تكاد السماوات يتفطرن " بالتحتية فيهما، وقرأ أبو عمرو والمفضل وأبو بكر وأبو عبيد " يتفطرن " بالتحتية والنون من الانفطار كقوله "إذا السماء انفطرت" والتفطر: التشقق. قال الضحاك والسدي: يتفطرن يتشققن من عظمة الله وجلاله من فوقهن. وقيل المعنى: تكاد كل واحدة منها تتفطر فوق التي تليها من قول المشركين اتخذ الله ولداً، وقيل من فوقهن: من فوق الأرضين، والأول أولى. ومن في من فوقهن لابتداء الغاية: أي يبتدئ التفطر من جهة الفوق. وقال الأخفش الصغير: إن الضمير يعود إلى جماعات الكفار: أي من فوق جماعات الكفار وهو بعيد جداً، ووجه تخصيص جهة الفوق أنها أقرب إلى الآيات العظيمة والمصنوعات الباهرة، أو على طريق المبالغة كأن كلمة الكفار مع كونها جاءت من جهة التحت أثرت في جهة الفوق، فتأثيرها في جهة التحت بالأولى "والملائكة يسبحون بحمد ربهم" أي ينزهونه عما لا يليق به ولا يجوز عليه متلبسين بحمده. وقيل إن التسبيح موضوع موضع التعجب: أي يتعجبون من جراءة المشركين على الله. وقيل معنى بحمد ربهم بأمر ربهم قاله السدي "ويستغفرون لمن في الأرض" من عباد الله المؤمنين. كما في قوله "ويستغفرون للذين آمنوا" وقيل الاستغفار منهم بمعنى السعي فيما يستدعي المغفرة لهم وتأخير عقوبتهم طمعاً في إيمان الكافر وتوبة الفاسق فتكون الآية عامة كما هو ظاهر اللفظ غير خاصة بالمؤمنين وإن كانوا داخلين فيها دخولاً أولياً "ألا إن الله هو الغفور الرحيم" أي كثير المغفرة والرحمة لأهل طاعته وأوليائه أو لجميع عباده فإن تأخير عقوبة الكفار والعصاة نوع من أنواع مغفرته ورحمته.
6- "والذين اتخذوا من دونه أولياء" أي أصناماً يعبدونها " الله حفيظ عليهم " أي يحفظ أعمالهم ليجازيهم بها "وما أنت عليهم بوكيل" أي لم يوكلك بهم حتى تؤاخذ بذنوبهم، ولا وكل إليك هدايتهم، وإنما عليك البلاغ قيل وهذه الآية منسوخة بآية السيف.
7- "وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً" أي مثل ذلك الإيحاء أوحينا إليك، وقرآناً مفعول أوحينا، والمعنى: أنزلنا عليك قرآناً عربياً بلسان قومك كما أرسلنا كل رسول بلسان قومه "لتنذر أم القرى" وهي مكة والمراد أهلها "ومن حولها" من الناس والمفعول الثاني محذوف: أي لتنذرهم العذاب "وتنذر يوم الجمع" أي ولتنذر بيوم الجمع: وهو يوم القيامة لأنه مجمع الخلائق. وقيل المراد جمع الأرواح بالأجساد، وقيل جمع الظالم والمظلوم، وقيل جمع العامل والعمل "لا ريب فيه" أي لا شك فيه، والجملة معترضة مقررة لما قبلها أو صفة ليوم الجمع أو حال منه "فريق في الجنة وفريق في السعير" قرأ الجمهور برفع " فريق " في الموضعين، إما على أنه مبتدأ وخبره الجار والمجرور، وشاع الابتداء بالنكرة لأن المقام مقام تفصيل، أو على أنه مبتدأ وخبره الجار والمجرور، وشاع الابتداء بالنكرة لأن المقام مقام تفصيل، أو على أن الخبر مقدر قبله: أي منهم فريق في الجنة ومنهم فريق في السعير، أو أنه خبر مبتدإ محذوف وهو ضمير عائد إلى المجموعين المدلول عليهم بذكر الجمع: أي هم فريق في الجنة وفريق في السعير. وقرأ زيد بن علي فريقاً بالنصب في الموضعين على الحال من جملة محذوفة: أي افترقوا حال كونهم كذلك، وأجاز الفراء والكسائي النصب على تقدير لتنذر فريقاً.
8- "ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة" قال الضحاك: أهل دين واحد، إما على هدى وإما على ضلالة، ولكنهم افترقوا على أديان مختلفة بالمشيئة الأزلية، وهو معنى قوله: "ولكن يدخل من يشاء في رحمته" في الدين الحق: وهو الإسلام "والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير" أي المشركون ما لهم من ولي يدفع عنهم العذاب، ولا نصير ينصرهم في ذلك المقام، ومثل هذا قوله: "ولو شاء الله لجمعهم على الهدى" وقوله: "ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها" وها هنا مخاصمات بين المتمذهبين المحامين على ما درج عليه أسلافهم فدبوا عليه من بعدهم وليس بنا إلى ذكر شيء من ذلك فائدة كما هو عادتنا في تفسيرها هذا فهو تفسير سلفي يمشي مع الحق ويدور مع مدلولات النظم الشريف، وإنما يعرف ذلك من رسخ قدمه وتبرأ من التعصب قلبه ولحمه ودمه.
وجملة 9- "أم اتخذوا من دونه أولياء" مستأنفة مقررة لما قبلها من انتفاء كون للظالمين ولياً ونصيراً، وأم هذه هي المنقطعة المقدرة ببل المفيدة للانتقال وبالهمزة المفيدة للإنكار: أي بل أإتخذ الكافرون من دون الله أولياء من الأصنام يعبدونها؟ "فالله هو الولي" أي هو الحقيق بأن يتخذوه ولياً، فإنه الخالق الرازق الضار النافع، وقيل الفاء جواب شرط محذوف: أي إن أرادوا أن يتخذوا ولياً في الحقيقة فالله هو الولي "وهو" أي ومن شأنه أنه " يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير " أي يقدر على كل مقدور، فهو الحقيق بتخصيصه بالألوهية وإفراده بالعبادة.
10- "وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله" هذا عام في كل ما اختلف فيه العباد من أمر الدين. فإن حكمه ومرجعه إلى الله يحكم فيه يوم القيامة بحكمه ويفصل خصومة المختصمين فيه، وعند ذلك يظهر المحق من المبطل، ويتميز فريق الجنة وفريق النار. قال الكلبي: وما اختلفتم فيه من شيء: أي من أمر الدين فحكمه إلى الله يقضي فيه. وقال مقاتل: إن أهل مكة كفر بعضهم بالقرآن وآمن به بعضهم فنزلت، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ويمكن أن يقال: معنى حكمه إلى الله: أنه مردود إلى كتابه، فإنه قد اشتمل على الحكم بين عباده فيما يختلفون فيه فتكون الآية عامة في كل اختلاف يتعلق بأمر الدين أنه يرد إلى كتاب الله، ومثله قوله: "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول" وقد حكم سبحانه بأن الدين هو الإسلام، وأن القرآن حق، وأن المؤمنين في الجنة والكافرين في النار، ولكن لما كان الكفار لا يذعنون لكون ذلك حقاً إلا في الدار الآخرة وعدهم الله بذلك يوم القيامة "ذلكم" الحاكم بهذا الحكم "الله ربي عليه توكلت" اعتمدت عليه في جميع أموري، لا على غيره وفوضته في كل شؤوني "وإليه أنيب" أي أرجع في كل شيء يعرض لي لا إلى غيره "فاطر السموات والأرض" قرأ الجمهور بالرفع على أنه خبر آخر لذلكم، أو خبر مبتدإ محذوف، أو مبتدأ وخبره ما بعده، أو نعت لربي لأن الإضافة محضة، ويكون "عليه توكلت وإليه أنيب" معترضاً بين الصفة والموصوف.وقرأ زيد بن علي فاطر بالجر على أنه نعت للاسم الشريف في قوله إلى الله وما بينهما اعتراض أو بدل من الهاء في عليه أو إليه، وأجاز الكسائي النصب على النداء وأجاز غيره على المدح، والفاطر: الخالق المبدع، وقد تقدم تحقيقه.