تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 499 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 499

498

هي سبع وثلاثون آية وقيل ست وثلاثون وهي مكية كلها في قول الحسن وجابر وعكرمة. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير أنها نزلت بمكة، وروي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا: إلا آية منها، وهي قوله: "للذين آمنوا" إلى "أيام الله" فإنها نزلت بالمدينة في عمر بن الخطاب كما سيأتي. 1- قوله: "حم" قد تقدم الكلام في هذه الفاتحة وفي إعرابها في فاتحة سورة غافر وما بعدها، فإن جعل اسماً للسورة فمحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ، وإن جعل حروفاً مسرودة على نمط التعديد فلا محل له.
وقوله: "تنزيل الكتاب" على الوجه الأول خبر ثان، وعلى الوجه الثاني خبر المبتدأ، وعلى الوجه الثالث خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ وخبره "من الله العزيز الحكيم".
3- ثم أخبر سبحانه بما يدل على قدرته الباهرة فقال: "إن في السموات والأرض لآيات للمؤمنين" أي فيها نفسها فإنها من فنون الآيات أو في خلقها.
4- قال الزجاج: ويدل على أن المعنى في خلق السموات والأرض قوله: "وفي خلقكم" أي في خلقكم أنفسكم على أطوار مختلفة. قال مقاتل: من تراب ثم من نطفة إلى أن يصير إنساناً "وما يبث من دابة آيات" أي وفي خلق ما يبث من دابة، وارتفاع آيات على أنها مبتدأ مؤخر وخبره الظرف قبله، وبالرفع قرأ الجمهور، وقرأ حمزة والكسائي "آيات" بالنصب عطفاً على اسم إن، والخبر قوله: "وفي خلقكم" كأنه قيل: وإن في خلقكم وما يبث من دابة آيات، أو على أنها تأكيد لآيات الأولى. وقرأ الجمهور أيضاً " آيات لقوم يعلمون " بالرفع وقرأ حمزة والكسائي بنصبها مع اتفاقهم على الجر في اختلاف، أما جر اختلاف فهو على تقدير حرف الجر: أي "و" في "اختلاف الليل والنهار" آيات، فمن رفع آيات فعلى أنها مبتدأ، وخبرها: في اختلاف، وأما النصب فهو من باب العطف على معمولي عاملين مختلفين. قال الفراء: الرفع على الاستئناف بعد إن، تقول العرب: إن لي عليك مالاً وعلى أخيك مال، ينصبون الثاني ويرفعونه وللنحاة في هذا الموضع كلام طويل. والبحث في مسألة العطف على معمولي عاملين مختلفين وحجج المجوزين له وجوابات المانعين له مقرر في علم النحو مبسوط في مطولاته. ومعنى "ما يبث من دابة" ما يفرقه وينشره.
5- "واختلاف الليل والنهار" تعاقبهما أو تفاوتهما في الطول والقصر، وقوله: "وما أنزل الله من السماء من رزق" معطوف على اختلاف، والرزق المطر، لأنه سبب لكل ما يرزق الله العباد به، وإحياء الأرض: إخراج نباتها، و "موتها" خلوها عن النبات "و" معنى "تصريف الرياح" أنها تهب تارة من جهة، وتارة من أخرى، وتارة تكون حارة وتارة تكون باردة، وتارة نافعة وتارة ضارة.
6- "تلك آيات الله نتلوها عليك" أي هذه الآيات المذكورة هي حجج الله وبراهينه، ومحل: نتلوها عليك النصب على الحال، ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر اسم الإشارة، وآيات الله بيان له أو بدل منه، وقوله: "بالحق" حال من فاعل نتلو، أو من مفعوله: أي محقين، أو ملتبسة بالحق، ويجوز أن تكون الباء للسببية، فتتعلق بنفس الفعل "فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون" أي بعد حديث الله وبعد آياته، وقيل إن المقصود: فبأي حديث بعد آيات الله وذكر الاسم الشريف ليس إلا لقصد تعظيم الآيات فيكون من باب: أعجبني زيد وكرمه. وقيل المراد بعد حديث الله، وهو القرآن كما في قوله: "الله نزل أحسن الحديث" وهو المراد بالآيات، والعطف لمجرد التغاير العنواني. قرأ الجمهور "تؤمنون" بالفوقية، وقرأ حمزة والكسائي بالتحتية. والمعنى: يؤمنون بأي حديث، وإنما قدم عليه لأن الاستفهام له صدر الكلام.
7- "ويل لكل أفاك أثيم" أي لكل كذاب كثير الإثم مرتكب لما يوجبه، والويل واد في جهنم.
8- ثم وصف هذا الأفاك بصفة أخرى فقال: "يسمع آيات الله تتلى عليه" وقيل إن يسمع في محل نصب على الحال، وقيل استئناف، والأول أولى، وقوله: "تتلى عليه" في محل نصب على الحال "ثم يصر" على كفره ويقيم على ما كان عليه حال كونه "مستكبراً" أي يتمادى على كفره متعظماً في نفسه عن الانقياد للحق، والإصرار مأخوذ من إصرار الحمار على العانة، وهو أن ينحني عليها صاراً أذنيه. قال مقاتل: إذا سمع من آيات القرآن شيئاً اتخذها هزواً، وجملة "كأن لم يسمعها" في محل نصب على الحال أو مستأنفة، وأن هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف "فبشره بعذاب أليم" هذا من باب التهكم: أي فبشره على إصراره واستكباره وعدم استماعه إلى الآيات بعذاب شديد الألم.
9- "وإذا علم من آياتنا شيئاً" قرأ الجمهور: "علم" بفتح العين وكسر اللام مخففة على البناء للفاعل. وقرأ قتادة ومطر الوراق على البناء للمفعول. والمعنى: أنه إذا وصل إليه علم شيء من آيات الله "اتخذها" أي الآيات "هزواً" وقيل الضمير في اتخذها عائد إلى شيئاً، لأنه عبارة عن الآيات، والأول أولى. والإشارة بقوله: "أولئك" إلى كل أفاك متصف بتلك الصفات "لهم عذاب مهين" بسبب ما فعلوا من الإصرار والاستكبار عن سماع آيات الله واتخاذها هزواً، والعذاب المهين هو المشتمل على الإذلال والفضيحة.
10- "من ورائهم جهنم" أي من وراء ما هم فيه من التعزز بالدنيا والتكبر عن الحق جهنم، فإنها من قدامهم لأنهم متوجهون إليها، وعبر بالوراء عن القدام، كقوله: "من ورائه جهنم" وقول الشاعر: أليس ورائي إن تراخت منيتي وقيل جعلها باعتبار إعراضهم عنها كأنها خلفهم "ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئاً" أي لا يدفع عنهم ما كسبوا من أموالهم وأولادهم شيئاً من عذاب الله، ولا ينفعهم بوجه من وجوه النفع "ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء" معطوف على ما كسبوا: أي ولا يغني عنهم ما اتخذوا من دون الله أولياء من الأصنام، و ما في الموضعين إما مصدرية أو موصولة، وزيادة لا في الجملة الثانية للتأكيد "ولهم عذاب عظيم" في جهنم التي هي من ورائهم.
11- "هذا هدى" جملة مستأنفة من مبتدأ وخبر يعني هذا القرآن هدى للمهتدين به "والذين كفروا بآيات ربهم" القرآنية "لهم عذاب من رجز أليم" الرجز أشد العذاب. قرأ الجمهور "أليم" بالجر صفة للرجز. وقرأ ابن كثير وحفص وابن محيصن بالرفع صفة لعذاب.
12- "الله الذي سخر لكم البحر" أي جعله على صفة تتمكنون بها من الركوب عليه "لتجري الفلك فيه بأمره" أي بإذنه وإقداره لكم "ولتبتغوا من فضله" بالتجارة تارة، والغوص للدر، والمعالجة للصيد وغير ذلك "ولعلكم تشكرون" أي لكي تشكروا النعم التي تحصل لكم بسبب هذا التسخير للبحر.
13- "وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه" أي سخر لعباده ما خلقه في سماواته وأرضه مما تتعلق به مصالحهم وتقوم به معايشهم. ومما سخره لهم من مخلوقات السموات: الشمس والقمر والنجوم النيرات والمطر والسحاب والرياح، وانتصاب جميعاً على الحال من ما في السموات وما في الأرض أو تأكيد له، وقوله: منه يجوز أن يتعلق بمحذوف هو صفة لجميعاً: أي كائنة منه، ويجوز أن يتعلق بسخر، ويجوز أن يكون حالاً من ما في السموات، أو خبراً لمبتدأ محذوف. والمعنى: أن كل ذلك رحمة منه لعباده "إن في ذلك" المذكور من التسخير "لآيات لقوم يتفكرون" وخص المتفكرين لأنه لا ينتفع بها إلا من تفكر فيها، فإنه ينتقل من التفكر إلى الاستدلال بها على التوحيد.