تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 502 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 502

501

34- "وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا" أي نترككم في النار كما تركتم العمل لهذا اليوم، وأضاف اللقاء إلى اليوم توسعاً، لأنه أضاف إلى الشيء ما هو واقع فيه "ومأواكم النار" أي مسكنكم ومستقركم الذين تأوون إليه "وما لكم من ناصرين" ينصرونكم فيمنعون عنكم العذاب.
35- "ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزواً" أي ذلكم العذاب بسبب أنكم اتخذتم القرآن هزواً ولعباً "وغرتكم الحياة الدنيا" أي خدعتكم بزخارفها وأباطيلها، فظننتم أنه لا دار غيرها ولا بعث ولا نشور "فاليوم لا يخرجون منها" أي من النار. قرأ الجمهور "يخرجون" بضم الياء وفتح الراء مبنياً للمفعول إلى الغيبة لتحقيرهم "ولا هم يستعتبون" أي لا يسترضون ويطلب منهم الرجوع إلى طاعة الله، لأنهم يوم لا تقبل فيه توبة ولا تنفع فيه معذرة.
36- " فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين " لا يستحق الحمد سواه. قرأ الجمهور "رب" في المواضع الثلاثة بالجر على الصفة للاسم الشريف. وقرأ مجاهد وحميد وابن محيصن بالرفع في الثلاثة على تقدير مبتدأ: أي هو رب السموات الخ.
37- "وله الكبرياء في السموات والأرض" أي الجلال والعظمة والسلطان، وخص السموات والأرض لظهور ذلك فيهما "وهو العزيز الحكيم" أي العزيز في سلطانه. فلا يغالبه مغالب، الحكيم في كل أفعاله وأقواله وجميع أقضيته. وقد أخرج سعيد بن منصور وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن عبد الله بن باباه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كأني أراكم بالكوم دون جهنم جاثين" ثم قرأ سفيان ويرى كل أمة [جاثية]. وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر في قوله: "وترى كل أمة جاثية" قال: كل أمة مع نبيها حتى يجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم على كوم قد علا الخلائق، فذلك المقام المحمود. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق" قال: هو أم الكتاب فيه أعمال بني آدم "إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون" قال: هم الملائكة يستنسخون أعمال بني آدم. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه بمعناه مطولاً، فقام رجل فقال: يا ابن عباس، ما كنا نرى هذا تكتبه الملائكة في كل يوم وليلة، فقال ابن عباس إنكم لستم قوماً عرباً " إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون " هل يستنسخ الشيء إلا من كتاب. وأخرج ابن جرير عنه نحوه أيضاً. وأخرج ابن جرير عن علي بن أبي طالب قال: إن لله ملائكة ينزلون في كل يوم بشيء يكتبون فيه أعمال بني آدم. وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر نحو ما روي عن ابن عباس. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: يستنسخ الحفظة من أم الكتاب ما يعمل بنو آدم، فإنما يعمل الإنسان ما استنسخ الملك من أم الكتاب وأخرج نحوه الحاكم عنه وصححه. وأخرج الطبراني عنه أيضاً في الآية قال: إن الله وكل ملائكته ينسخون من ذلك العام في رمضان ليلة القدر ما يكون في الأرض من حدث إلى مثلها من السنة المقبلة، فيتعارضون به حفظة الله على العباد عشية كل خميس، فيجدون ما رفع الحفظة موافقاً لما في كتابهم ذلك ليس فيه زيادة ولا نقصان. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: "اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا" قال: نتركم. وأخرج ابن أبي شيبة ومسلم وأبو داود وابن ماجه وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تبارك وتعالى: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما ألقيته في النار". سورة الأحقافهي أربع وثلاثون آية، وقيل خمس وثلاثون وهي مكية. قال القرطبي: في قول جميعهم: وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير قالا: نزلت سورة حم الأحقاف بمكة. وأخرج ابن الضريس والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: "أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الأحقاف وأقرأها آخر فخالف قراءته، فقلت من أقرأكها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: والله لقد أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم غير ذا، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت يا رسول الله ألم تقرئني كذا وكذا؟ قال: بلى، وقال الآخر: ألم تقرئني كذا وكذا؟ قال: بلى، فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ليقرأ كل واحد منكما ما سمع، فإنما هلك من كان قبلكم بالاختلاف". قوله: 1- "حم" قد تقدم الكلام على هذا في سورة غافر وما بعدها مستوفى وذكرنا وجه الإعراب وبيان ما هو الحق من أن فواتح السور من المتشابه الذي يجب أن يوكل علمه إلى من أنزله.
2- "تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم" قد تقدم الكلام على هذا في سورة غافر وما بعدها مستوفى وذكرنا وجه الإعراب وبيان ما هو الحق من أن فواتح السور من المتشابه الذي يجب أن يوكل علمه إلى من أنزله.
2- "ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما" من المخلوقات بأسرها "إلا بالحق" هو استثناء مفرغ من أعلم الأحوال أي إلا خلقاً ملتبساً بالحق الذي تقتضيه المشيئة الإلهية، وقوله: "وأجل مسمى" معطوف على الحق: أي إلا بالحق، وبأجل مسمى على تقدير مضاف محذوف: أي وبتقدير أجل مسمى، وهذا الأجل هو يوم القيامة، فإنها تنتهي فيه السموات والأرض وما بينهما وتبدل الأرض غير الأرض والسموات. وقيل المراد بالأجل المسمى هو انتهاء أجل كل فرد من أفراد المخلوقات، والأول لغير شيء، بل خلقه للثواب والعقاب "والذين كفروا عما أنذروا معرضون" أي عما أنذروا وخوفوا به في القرآن من البعث والحساب والجزاء معرضون عنه غير مؤمنين به، وما في قوله: "ما أنذروا" يجوز أن تكون الموصولة، ويجوز أن تكون المصدرية.
3- "قل أرأيتم ما تدعون من دون الله" أي أخبروني ما تعبدون من دون الله من الأصنام "أروني ماذا خلقوا من الأرض" أي أي شيء خلقوا منها، وقوله: "أروني" يحتمل أن يكون تأكيداً لقوله أرأيتم: أي أخبروني أروني والمفعول الثاني لأرأيتم "ماذا خلقوا"، ويحتمل أن لا يكون تأكيداً، بل يكون هذا من باب التنازع، لأن أرأيتم يطلب مفعولاً ثانياً، و"أروني" كذلك "أم لهم شرك في السموات" أم هذه هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة، والمعنى: بل ألهم شركة مع الله فيها، والاستفهام للتوبيخ والتقريع "ائتوني بكتاب من قبل هذا" هذا تبكيت لهم وإظهار لعجزهم وقصورهم عن الإتيان بذلك، والإشارة بقوله هذا إلى القرآن، فإنه قد صرح ببطلان الشرك، وأن الله واحد لا شريك له، وأن الساعة حق لا ريب فيها، فهل للمشركين من كتاب يخالف هذا الكتاب، أو حجة تنافي هذه الحجة "أو أثارة من علم". قال في الصحاح: أو أثارة من علم بقية منه، وكذا الأثرة بالتحريك. قال ابن قتيبة: أي بقية من علم الأولين. وقال الفراء والمبرد: يعني ما يؤثر عن كتب الأولين. قال الواحدي: وهو معنى قول المفسرين. قال عطاء: أو شيء تأثرونه عن نبي كان قبل محمد صلى الله عليه وسلم. قال مقاتل: أو رواية من علم عن الأنبياء. وقال الزجاج أو أثارة: يقال أثرت الحديث آثره أثرة وأثارة وأثراً: إذا ذكرته عن غيرك. قرأ الجمهور "أثارة" على المصدر كالسماحة والغواية. وقرأ ابن عباس وزيد بن علي وعكرمة والسلمي والحسن وأبو رجاء بفتح الهمزة والثاء من غير ألف. وقرأ الكسائي " أثارة " بضم الهمزة وسكون الثاء "إن كنتم صادقين" في دعواكم التي تدعونها، وهي قولكم إن لله شريكاً ولم تأتوا بشيء من ذلك فتبين بطلان قولهم لقيام البرهان العقلي والنقلي على خلافه.
4- " ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له " أي لا أحد أضل منه ولا أجهل فإنه دعا من لا يسمع، فكيف يطمع في الإجابة فضلاً عن جلب نفع أو دفع ضر؟ فتبين بهذا أنه أجهل الجاهلين وأضل الضالين، والاستفهام للترقيع والتوبيخ، وقوله: "إلى يوم القيامة" غاية لعدم الاستجابة "وهم عن دعائهم غافلون" الضمير الأول للأصنام، والثاني لعابديها، والمعنى: والأصنام التي يدعونها عن دعائهم إياها غافلون عن ذلك، لا يسمعون ولا يعقلون لكونهم جمادات، والجمع في الضميرين باعتبار معنى من، وأجرى على الأصنام ما هو للعقلاء لاعتقاد المشركين فيها أنها تعقل.
5- "وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء" أي إذا حشر الناس العابدين للأصنام كان الأصنام لهم أعداء يتبرأ بعضهم من بعض ويلعن بعضهم بعضاً وقد قيل إن الله يخلق الحياة في الأصنام فتكذبهم. وقيل المراد أنها تكذيبهم وتعاديهم بلسان الحال لا بلسان المقال. وأما الملائكة والمسيح وعزير والشيطاين فإنهم يتبرأون ممن عبدهم يوم القيامة كما في قوله تعالى: "تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون" "وكانوا بعبادتهم كافرين" أي كان المعبودون بعبادة المشركين إياهم كافرين: أي جاحدين مكذبين وقيل الضمير في "كانوا" للعابدين كما في قوله: "والله ربنا ما كنا مشركين"، والأول أولى.