تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 545 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 545

544

22- " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله " الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح له: أي يحبون ويوالون من عادى الله ورسوله وشاقهما، وجملة يوادون في محل نصب على أنها المفعول الثاني لتجد إن كان متعدياً إلى مفعولين، أو في محل نصب على الحال إن كان متعدياً إلى مفعول واحد، أو صفة أخرى لقوماً: أي جامعون بين الإيمان والموادة لمن حاد الله ورسوله "ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم" أي ولو كان المحادون لله ورسوله آباء الموادين الخ، فإن الإيمان يزجر عن ذلك ويمنع منه، ورعايته أقوى من رعاية الأبوة والبنوة والأخوة والعشيرة "أولئك كتب في قلوبهم الإيمان" يعني الذي لا يوادون من حاد الله ورسوله، ومعنى "كتب في قلوبهم الإيمان" خلقه، وقيل أثبته، وقيل جعله، وقيل جمعه، والمعاني متقاربة "وأيدهم بروح منه" أي قواهم بنصر منه على عدوهم في الدنيا، وسمى نصره لهم روحاً لأن به يحيا أمرهم، وقيل هو نور القلب. وقال الربيع بن أنس: بالقرآن والحجة، وقيل بجبريل، وقيل بالإيمان، وقيل برحمة. قرأ الجمهور "كتب" مبنياً للفاعل ونصب "الإيمان" على المفعولية. وقرأ زر بن حبيش والمفضل عن عاصم على البناء للمفعول ورفع الإيمان على النيابة. وقرأ زر بن حبيش عشيراتهم بالجمع، ورويت هذه القراءة عن عاصم "ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها" على الأبد "رضي الله عنهم" أي قبل أعمالهم وأفاض عليهم آثار رحمته العاجلة والآجلة "ورضوا عنه" أي فرحوا بما أعطاهم عاجلاً وآجلاً "أولئك حزب الله" أي جنده الذين يمتثلون أوامره ويقاتلون أعداءه وينصرون أولياءه، وفي إضافتهم إلى الله سبحانه تشريف لهم عظيم وتكريم فخيم "ألا إن حزب الله هم المفلحون" أي الفائزون بسعادة الدنيا والآخرة، الكاملون في الفالح الذين صار فلاحهم هو الفرد الكامل، حتى كان فلاح غيرهم بالنسبة إلى فلاحهم كلا فلاح. وقد أخرج أحمد والبزار وابن المنذر وابن حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في ظل حجرة من حجرة وعنده نفر من المسلمين، فقال: إنه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم بعين شيطان، فإذا جاءكم فلا تكلموه، فلم يلبثوا أن طلع عليهم رجل أزرق، فقال حين رآه: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فقال: ذرني آتيك بهم، فحلفوا واعتذروا، فأنزل الله "يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له كما يحلفون لكم" الآية والتي بعدها". وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في سننه عن عبد الله بن شوذب قال: جعل والد أبي عبيدة بن الجراح يتقصد لأبي عبيدة يوم بدر، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر قصده أبو عبيدة فقتله، فنزلت: "لا تجد قوماً يؤمنون بالله" الآية. سورة الحشرهي أربع وعشرون آية وهي مدنية. قال القرطبي في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن اب عباس قال: نزلت سورة الحشر بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة الحشر، قال: سورة النضير: يعني أنها نزلت في بني النضير كما صرح بذلك في بعض الروايات. قوله: 1- "سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم" قد تقدم تفسير هذا في سورة الحديد.
2- "هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر" هم بنو النضير، وهم رهط من اليهود من ذرية هارون، نزلوا المدينة في فتن بني إسرائيل انظاراً منهم لمحمد صلى الله عليه وسلم، فغدروا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن عاهدوه، وصاروا عليه مع المشركين، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رضوا بالجلاء. قال الكلبي: كانوا أول من أجلي من أهل الذمة من جزيرة العرب، ثم أجلي آخرهم في زمن عمر بن الخطاب، فكان جلاؤهم أول حشر من المدينة، وآخر حشر إجلاء عمر لهم. وقيل إن أول الحشر إخراجهم من حصونهم إلى خيبر، وآخر الحشر إخراجهم من خيبر إلى الشام، وقيل آخر الحشر هو حشر جميع الناس إلى أرض المحشر، وهي الشام. قال عكرمة: من شك أن المحشر يوم القيامة في الشام فليقرأ هذه الآية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: اخرجوا، قالوا إلى أين؟ قال إلى أرض المحشر. قال ابن العربي: الحشر أول وأوسط وآخر. فالأول إجلاء بني النضير، والأوسط إجلاء أهل خيبر، والآخر يوم القيامة. وقد أجمع المفسرون على أن هؤلاء المذكورين في الآية هم بنو النضير، ولم يخالف في ذلك إلا الحسن البصري فقال: هم بنو قريظة، وهو غلط. فإن بني قريظة ما حشروا، بل قتلوا بحكم سعد بن معاذ لما رضوا بحكمه، فحكم عليهم بأن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتغنم أموالهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد: لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة. واللام في لأول الحشر متعلقة بأخرج، وهي لام التوقيت كقوله: "لدلوك الشمس". "ما ظننتم أن يخرجوا" هذا خطاب للمسلمين: أي ما ظننتم أيها المسلمون أن بني النضير يخرجون من ديارهم لعزتهم ومنعتهم، وذلك أنهم كانوا أهل حصون مانعة وعقار ونخيل واسعة، وأهل عدد وعدة "وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله" أي وظن بنو النضير أن حصونهم تمنعهم من بأس الله، وقوله مانعتهم خبر مقدم، وحصونهم مبتدأ مؤخر. والجملة خبر أنهم. ويجوز أن يكون مانعتهم خبر أنهم وحصونهم فاعل مانعتهم. ورجح الثاني أبو حيان. والأول أولى "فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا" أي أتاهم أمر الله من حيث لم يخطر ببالهم أنه يأتيهم أمره من تلك الجهة. وهو أنه سبحانه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقتالهم وإجلائهم وكانوا لا يظنون ذلك. وقيل هو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف قاله ابن جريح والسدي وأبو صالح. فإن قتله أضعف شوكتهم. وقيل إن الضمير في أتاهم ولم يحتسبوا للمؤمنين: أي فأتاهم نصر الله من حيث لم يحتسبوا. والأول أولى لقوله: "وقذف في قلوبهم الرعب" فإن قذف الرعب كان في قلوب بني النضير. لا في قلوب المسلمين. قال أهل اللغة: الرعب الخوف الذي يرعب الصدر: أي يملؤه، وقذفه إثباته فيه. وقيل كان قذف الرعب في قلوبهم بقتل سيدهم كعب بن الأشرف، والأولى عدم تقييده بذلك وتفسيره به. بل المراد بالرعب الذي قذفه الله في قلوبهم هو الذي ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: "نصرت بالرعب مسيرة شهر" "يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين" وذلك أنهم لما أيقنوا بالجلاء حسدوا المسلمين أن يسكنوا منازلهم فجعلوا يخربونها من داخل، والمسلمون من خارج. قال قتادة والضحاك: كان المؤمنون يخربون من خارج ليدخلوا، واليهود من داخل ليبنوا به ما خرب من حصنهم. قال الزجاج: معنى تخريبها بأيدي المؤمنين أنهم عرضوها لذلك. قرأ الجمهور "يخربون" بالتخفيف. وقرأ الحسن والسلمي ونصر بن عاصم وأبو العالية وأبو عمرو بالتشديد. قال أبو عمرو: إنما اخترت القراءة بالتشديد، لأن الإخراب ترك الشيء خراباً، وإنما خربوها بالهدم. وليس ما قاله بمسلم، فإن التخريب والإخراب عند أهل اللغة بمعنى واحد. قال سيبويه: إن معنى فعلت وأفعلت يتعاقبان نحو أخربته وخربته وأفرحته وفرحته واختار القراءة الأولى أبو عبيد وأبو حاتم. قال الزهري وابن زيد وعروة بن الزبير: لما صالحهم النبي صلى الله عليه وسلم على أن لهم ما أقلت الإبل كانوا يستحسنون الخشبة أو العمود فيهدمون بيوتهم ويحملون ذلك على إبلهم ويخرب المؤمنون باقيها. وقال الزهري أيضاً: يخربون بيوتهم بنقض المعاهدة وأيدي المؤمنين بالمقاتلة، وقال أبو عمرو: بأيديهم في تركهم لها وبأيدي المؤمنين في إجلائهم عنها، والجملة إما مستأنفة لبيان ما فعلوه، أو في محل نصب على الحال "فاعتبروا يا أولي الأبصار" أي اتعظوا وتدبروا وانظروا فيما نزل بهم يا أهل العقول والبصائر. قال الواحدي: ومعنى الاعتبار النظر في الأمور ليعرف بها شيء آخر من جنسها.
3- "ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا" أي لولا أن كتب الله عليهم الخروج من أوطانهم على ذلك الوجه وقضي به عليهم لعذبهم بالقتل والسبي في الدنيا كما فعل ببني قريظة. والجلاء مفارقة الوطن، يقال بنفسه جلاء، وأجلاه غير إجلاء. والفرق بين الجلاء والإخراج وإن كان معناهما في الإبعاد واحداً من جهتين: إحداهما أن الجلاء ما كان مع الأهل والولد، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد. الثاني أن الجلاء لا يكون إلا [لجماعة]. والإخراج يكون لجماعة ولواحد. كذا قال الماوردي "ولهم في الآخرة عذاب النار" هذه الجملة مستأنفة غير متعلقة بجواب لولا متضمنة لبيان ما يحصل لهم في الآخرة من العذاب وإن نجوا من عذاب الدنيا.