تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 549 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 549

548

هي ثلاث عشرة آية وهي مدنية. قال القرطبي: في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة الممتحنة بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. والممتحنة بكسر الحاء اسم فاعل أضيف الفعل إليها مجازاً، كما سميت سورة براءة الفاضحة لكشفها عيوب المنافقين، وقيل الممتحنة بفتح الحاء اسم مفعول أضافه إلى المرأة التي نزلت فيها، وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، لقوله سبحانه: "فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن". قال المفسرون: نزلت: 1- "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء" في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى مشركي قريش بمسير النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، وسيأتي ذكر القصة آخر البحث إن شاء الله، وقوله: "عدوي" هو المفعول الأول "وعدوكم" معطوف عليه، والمفعول الثاني أولياء، وأضاف سبحانه العدو إلى نفسه تعظيماً لجرمهم، والعدو مصدر يطلق على الواحد والاثنين والجماعة، والآية تدل على النهي عن موالات الكفار بوجه من الوجوه " تلقون إليهم بالمودة " أي توصلون إليهم المودة على أن الباء زائدة، أو هي سببية. والمعنى: تلقون إليهم أخبار النبي صلى الله عليه وسلم بسبب المودة التي بينكم وبينهم. قال الزجاج: تلقون إليهم أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وسره بالمودة التي بينكم وبينهم، والجملة في محل نصب على الحال من ضمير تتخذوا، ويجوز أن تكون مستأنفة لقصد الإخبار بما تضمنته أو لتفسير موالاتهم إياهم، ويجوز أن تكون في محل نصب صفة لأولياء، وجملة "وقد كفروا بما جاءكم من الحق" في محل نصب على الحال من فاعل تلقون، أو من فاعل لا تتخذوا، ويجوز أن تكون مستأنفة لبيان حال الكفار. قرأ الجمهور "بما جاءكم" بالباء الموحدة. وقرأ الجحدري وعاصم في رواية عنه لما جاءكم باللام: أي لأجل ما جاءكم من الحق على حذف المكفور به: أي كفروا بالله والرسول لأجل ما جاءكم من الحق، أو على جعل ما هو سبب للإيمان سبباً للكفر توبيخاً لهم "يخرجون الرسول وإياكم" الجملة مستأنفة لبيان كفرهم، أو في محل نصب على الحال، وقوله: "أن تؤمنوا بالله ربكم" تعليل للإخراج: أي يخرجونكم لأجل إيمانكم، أو كراهة أن تؤمنوا "إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي" جواب الشرط محذوف أي إن كنتم كذلك فلا تلقوا إليهم بالمودة، أو إن كنتم كذلك فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء، وانتصاب جهاداً وابتغاءً على العلة: أي إن كنتم خرجتم لأجل الجهاد في سبيلي ولأجل ابتغاء مرضاتي، وجملة "تسرون إليهم بالمودة" مستأنفة للتقريع والتوبيخ: أي تسرون إليهم الأخبار بسبب المودة، وقيل هي بدل من قوله: تلقون: ثم أخبر سبحانه بأنه لا يخفى عليه من أحوالهم شيء، فقال: "وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم" والجملة في محل نصب على الحال: أي بما أضمرتم وما أظهرتم، والباء في بما زائدة: يقال علمت كذا وعلمت بكذا، هذا على أن أعلم مضارع، وقيل هو أفعل تفضيل: أي أعلم من كل أحد بما تخفون وما تعلنون "ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل" أي من يفعل ذلك الاتخاذ لعدوي وعدوكم أولياء ويلقي إليهم بالمودة فقد أخطأ طريق الحق والصوب وضل عن قصد السبيل.
2- "إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء" أي إن يلقوكم ويصادوفكم يظهروا لكم ما في قلوبهم من العداوة، ومنه المثاقفة، وهي طلب مصادفة الغرة في المسابقة، وقيل المعنى: إن يظفروا بكم ويتمكنوا منكم، والمعنيان متقاربان "ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء" أي يبسطوا إليكم أيديهم بالضرب ونحوه، وألسنتهم بالشتم ونحوه "وودوا لو تكفرون" هذا معطوف على جواب الشرط، أو على جملة الشرط والجزاء، ورجح هذا أبو حيان، والمعنى: أنهم تمنوا ارتدادهم وودوا رجوعهم إلى الكفر.
3- "لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم" أي لا تنفعكم القرابات على عمومها ولا الأولاد، وخصهم بالذكر مع دخولهم في الأرحام لمزيد المحبة لهم والحنو عليهم، والمعنى: أن هؤلاء لا ينفعونكم حتى توالوا الكفار لأجلهم كما وقع في قصة حاطب بن أبي بلتعة، بل الذي ينفعكم هو ما أمركم الله به من معاداة الكفار وترك موالاتهم، وجملة "يوم القيامة يفصل بينكم" مستأنفة لبيان عدم نفع الأرحام والأولاد في ذلك اليوم ومعنى "يفصل بينكم" يفرق بينكم، فيدخل أهل طاعته الجنة، وأهل معصيته النار. وقيل المراد بالفصل بينهم أنه يفر كل منهم من الآخر من شدة الهول كما في قوله: "يوم يفر المرء من أخيه" الآية. قيل ويجوز أن يتعلق يوم القيامة بما قبله: أي لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة فيوقف عليه. ويبتدأ بقوله: "يفصل بينكم" والأولى أن يتعلق بما بعده كما ذكرنا "والله بما تعملون بصير" لا يخفى عليه شيء من أقوالكم وأفعالكم، فهو مجازيكم على ذلك. قرأ الجمهور "يفصل" بضم الياء وتخفيف الفاء وفتح الصاد مبنياً للمفعول، واختار هذه القراءة أبو عبيد. وقرأ عاصم بفتح الياء وكسر الصاد مبنياً للفاعل. وقرأ حمزة والكسائي بضم الياء وفتح الفاء وكسر الصاد مشددة. وقرأ علقمة بالنون. وقرأ قتادة وأبو حيوة بضم الياء وكسر الصاد مخففة. وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن علي بن أبي طالب قال: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها فأتوني به، فخرجنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا أخرجي الكتاب، قالت ما معي من كتاب، فقلنا لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا حاطب؟ قال: لا تعجل علي يا رسول الله، إني كنت امرأ ملصقاً في قريش ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن اصطنع إليهم يدا يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفراً ولا ارتداداً عن ديني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق، فقال عمر: دعني أضرب عنقه، فقال: إنه شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. ونزلت " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة "". وفي الباب أحاديث مسندة ومرسلة متضمنة لبيان هذه القصة، وأن هذه الآيات إلى قوله: "قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم" نازلة في ذلك.
لما فرغ سبحانه من النهي عن موالاة المشركين والذم لمن وقع منه ذلك ضرب لهم إبراهيم مثلاً حين تبرأ من قومه، فقال: 4- " قد كانت لكم أسوة حسنة " أي خصلة حميدة تقتدون بها: يقال لي به أسوة في هذا الأمر: أي اقتداءً، فأرشدهم سبحانه إلى الاقتداء به في ذلك إلا في استغفاره لأبيه. قرأ الجمهور " أسوة " بكسر الهمزة: وقرأ عاصم بضمها وهما لغتان، وأصل الأسوة بالضم والكسر القدوة، ويقال هو أسوتك: أي مثلك وأنت مثله: وقوله في إبراهيم والذين معه متعلق بأسوة، أو بحسنة، أو هو نعت لأسوة، أو حال من الضمير المستتر في حسنة، أو خبر كان، ولكم للبيان، والذين معه هم أصحابه المؤمنون. وقال ابن زيد: هم الأنبياء. قال الفراء: يقول أفلا تأسيت يا حاطب بإبراهيم فتتبرأ من أهلك كما تبرأ إبراهيم من أبيه وقومه، والظرف في قوله: "إذ قالوا لقومهم" هو خبر كان، أو متعلق به: أي وقت قولهم لقومهم الكفار " إنا برآء منكم " جمع بريء، مثل شركاء وشريك، وظرفاء وظريف. قرأ الجمهور "براء" بضم الباء وفتح الراء وألف بين همزتين، ككرماء في كريم. وقرأ عيسى بن عمر وابن ابي إسحاق بكسر الباء وهمزة واحدة بعد ألف، ككرام في جمع كريم. وقرأ أبو جعفر بضم الباء وهمزة بعد ألف "ومما تعبدون من دون الله" وهي الأصنام "كفرنا بكم" أي بما آمنتم به من الأوثان أو بدينكم أو بأفعالكم "وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً" أي هذا دأبنا معكم ما دمتم على كفركم "حتى تؤمنوا بالله وحده" وتتركوا ما أنتم عليه من الشرك، فإذا فعلتم ذلك صارت تلك العداوة موالاة والبغضاء محبة " إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك " هو استثناء متصل من قوله في إبراهيم، بتقدير مضاف محذوف ليصح الاستثناء: أي قد كانت لكم أسوة حسنة في مقالات إبراهيم إلا قوله لأبيه، أو من أسوة حسنة، وصح ذلك لأن القول من جملة الأسوة، كأنه قيل: قد كانت أسوة حسنة في إبراهيم في جميع أقواله وأفعاله إلا قوله لأبيه، أو من التبري والقطيعة التي ذكرت: أي لم يواسله إلا قوله، ذكر هذا ابن عطية، أو ه ومنقطع: أي لكن قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك، فلا تأتسوا به، فتستغفرون للمشركين، فإنه كان عن موعدة وعدها إيها، أو أن ذلك إنما وقع منه لأنه ظن أنه قد أسلم "فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه" وقد تقدم تحقيق هذا في سورة براءة "وما أملك لك من الله من شيء" هذا من تمام القوم المستثنى: يعني ما أغني عنك وما أدفع عنك من عذاب الله شيئاً، والجملة في محل نصب على الحال من فاعل لأستغفرن، فالاستثناء متوجه إلى الاستغفار لا إلى هذا القيد، فإنه إظهار للعجز وتفويض للأمر إلى الله، وذلك من خصال الخير "ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير" هذا من دعاء إبراهيم وأصحابه ومما فيه أسوة حسنة يقتدي به فيها، وقيل هو تعليم للمؤمنين أن يقولوا هذا القول، والتوكل هو تفويض الأمور إلى الله، والإنابة الرجوع، والمصير المرجع، وتقدير الجار والمجرور لقصر التوكل والإنابة والمصير على الله.
5- "ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا" قال الزجاج: لا تظهرهم علينا فيظنوا أنهم على حق فيفتنوا بذلك. وقال مجاهد: لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك، فيقولوا لو كان هؤلاء على حق ما أصابهم هذا "واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز" أي الغالب الذي لا يغالب "الحكيم" ذو الحكمة البالغة.