تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 551 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 551

550

12- "يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك" أي قاصدات لمبايعتك على الإسلام، و"على أن لا يشركن بالله شيئاً" من الأشياء كائناً ما كان، هذا كان يوم فتح مكة، فإن نساء أهل مكة آتين رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايعنه، فأمره الله أن يأخذ عليهن أن لا يشركن "ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن" وهو ما كانت تفعله الجاهلية من وأد البنات " ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن " أي لا يلحقن بأزواجهم ولداً ليس منهم. قال الفراء: كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها: هذا ولدي منك فذلك البهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهن، وذلك أن الولد إذا وضعته الأم سقط بين يديها ورجليها، وليس المراد هنا أنها تنسب ولدها من الزنا إلى زوجها، لأن ذلك قد دخل تحت النهي عن الزنا "ولا يعصينك في معروف" أي في كل أمر هو طاعة لله. قال عطاء: في كل بر وتقوى، وقال المقاتلان: عنى بالمعروف النهي عن النوح، وتمزيق الثياب، وجز الشعر، وشق الجيب، وخمش الوجوه، والدعاء بالويل، وكذا قال قتادة وسعيد بن المسيب ومحمد بن السائب وزيد بن أسلم، ومعنى القرآن أوسمع مما قالوه. قيل ووجه التقييد بالمعروف، مع كونه صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا به، التنبيه على أنه لا يجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق "فبايعهن" هذا جواب إذا، والمعنى إذا بايعنك على هذه الأمور فبايعهن، ولم يذكر في بيعتهن الصلاة والزكاة والصيام والحج لوضوح كون هذه الأمور ونحوها من أركان الدين وشعائر الإسلام، وإنما خص الأمور المذكور لكثرة وقوعها من النساء "واستغفر لهن الله" أي اطلب من الله المغفرة لهن بعد هذه المبايعة لهن منك "إن الله غفور رحيم" أي بليغ المغفرة والرحمة لعباده.
13- "يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم" هم جميع طوائف الكفر، وقيل اليهود خاصة، وقيل المنافقون خاصة وقال الحسن: اليهود والنصارى. والأول أولى، لأن جميع طوائف الكفر تتصف بأن الله سبحانه غضب عليها "قد يئسوا من الآخرة" من لابتداء الغاية: أي أنهم لا يوقنون بالآخرة البتة بسبب كفرهم "كما يئس الكفار من أصحاب القبور" أي كيأسهم من بعث موتاهم لاعتقادهم عدم البعث، وقيل كما يئس الكفار الذين قد ماتوا منهم من الآخرة، لأنهم قد وقفوا على الحقيقة وعلموا أنه لا نصيب لهم في الآخرة، فتكون من على الوجه الأول ابتدائية، وعلى الثانية بيانية، والأول أولى. وقد أخرج البخاري عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية جاءه نساء مسلمات، فأنزل الله: "يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات" حتى بلغ "ولا تمسكوا بعصم الكوافر" فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك. وأخرجه أيضاً من حديثهما بأطول من هذا، وفيه كانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي عاتق، فجاء أهلها يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجعها إليهم حتى أنزل الله في المؤمنات ما أنزل، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "فامتحنوهن" قال: كان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فإذا علموا أن ذلك حقاً منهن لم يرجعن إلى الكفار وأعطى بعلها في الكفار الذين عقد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم صداقها الذي أصدقها وأحلهن للمؤمنين إذا آتوهن أجورهن. وأخرج ابن مردويه عنه قال: نهزلت سورة الممتحنة بعد ذلك الصلح، فكان من أسلم من نسائهم، فسئلت ما أخرجك؟ فإن كانت خرجت فراراً من زوجها ورغبة عنه ردت، وإن كانت خرجت رغبة في الإسلام أمسكت ورد على زوجها مثل ما أنفق، وأخرج ابن أبي أسامة والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير وانب مردويه بسند حسن كما قال السيوطي عن ابن عباس في قوله: "إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن" قال: كان إذا جاءت المرأة النبي صلى الله عليه وسلم حلفها عمر بن الخطاب بالله ما خرجت رغبة بأرض عن أرض، وبالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت التماس دنيا، وبالله ما خرجت إلا حباً لله ورسوله. وأخرج ابن منيع من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: أسلم عمر بن الخطاب وتأخرت امرأته في المشركين، فأنزل الله: "ولا تمسكوا بعصم الكوافر". وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد والبخاري والترمذي وابن المنذر وابن مردويه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية "يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك" إلى قوله: "غفور رحيم" فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد بايعتك كلاماً، والله ما مست يده يد امرأة قط من المبايعات ما بايعهن إلا بقوله: قد بايعتك على ذلك. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن سعيد وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن أميمة بنت رقيقة قالت: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في نساء لنبايعه، فأخذ علينا ما في القرآن أن لا نشرك بالله شيئاً حتى بلغ" ولا يعصينك في معروف" فقال: فيما استطعتن وأطقتن، فقلنا: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا يا رسول الله ألا تصافحنا؟ قال: إني لا أصافح النساء، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة" وفي الباب أحاديث. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عبادة بن الصامت قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "بايعوني على أن لا تشركون بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، وقرأ آية النساء، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله فهو إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له". وأخرج ابن المنذر من طريق ابن جريح عن ابن عباس في قوله: "ولا يأتين ببهتان يفترينه" قال: كانت الحرة تولد لها الجارية فتجعل مكانها غلاماً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه في الآية. قال لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهن "ولا يعصينك في معروف" قال: إنما هو شرط شرطه الله للنساء. وأخرج ابن سعد وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أم سلمة الأنصارية قالت: "قالت امرأة من النسوة ما هذا المعروف الذي لا ينبغي لنا أن نعصيك فيه؟ قال:لا تنحن، قلت: يا رسول الله إن بني فلان أسعدوني على عمي لا بد لي من قضائهن، فأبى علي فعاودته مراراً فأذن لي في قضائهن، فلم أنح بعد، ولم يبق من النسوة إلا وقد ناحت غيري" وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أم عطية قالت: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ علينا أن لا نشرك بالله شيئاً ونهانا عن النياحة. فقبضت امرأة منا يدها فقالت: يا رسول الله إن فلانة أسعدتني وأنا أريد أن أجزيها فلم يقل لها شيئاً. فذهبت ثم رجعت فقالت: ما وفت منا امرأة إلا أم سليم وأم العلاء وبنت أبي سبرة امرأة معاذ أو بنت أبي سبرة وامرأة معاذ". وقد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن النوح. وأخرج أبو إسحاق وابن المنذر عن ابن عباس قال: كان عبد الله بن عمرو وزيد بن الحارث يودان رجلاً من اليهود، فأنزل الله: "يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم" الآية. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن مسعود في قوله: "قد يئسوا من الآخرة" قال: فلا يؤمنون بها ولا يرجونها كما يئس الكافر إذا مات وعاين ثوابه واطلع عليه وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس في الآية قال: هم الكفار أصحاب القبور الذين يئسوا من الآخرة. وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال: من مات من الذين كفروا فقد يئس الأحياء من الذين كفروا أن يرجعوا إليهم أو يبعثهم الله. سورة الصف هي أربع عشرة آية وهي مدنية. قال الماوردي: في قول الجمع. وأخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة الصف بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج النحاس عن ابن عباس قال: نزلت سورة الصف بمكة، ولعل هذا لا يصح عنه ويؤيد كونها مدنية ما أخرجه أحمد عن عبد الله بن سلام قال: تذاكرنا أيكم يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسأله أي الأعمال أحب إلى الله؟ فلم يقم أحد منا، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا رجلاً رجلاً فجمعنا، فقرأ علينا هذه السورة يعني سورة الصف كلها، وأخرجه ابن أبي حاتم، وقال في آخره: فنزلت فيهم هذه السورة. وأخرجه أيضاً الترمذي وابن حبان والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين والبيهقي في الشعب والسنن. قوله: 1- "سبح لله ما في السموات وما في الأرض" قد تقدم الكلام على هذا ووجه التعبير في بعض السور بلفظ المضارع، وفي بعضها بلفظ الأمر الإرشاد إلى مشروعية التسبيح في كل الأوقات ماضيها ومستقبلها وحالها، وقد قدمنا نحو هذا في أول سورة الحديد "وهو العزيز الحكيم" أي الغالب الذي لا يغالب: الحكيم في أفعاله وأقواله.
2- " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون " هذا الاستفهام للتقريع والتوبيخ: أي لم تقولون من الخير ما لا تفعلونه، ولم مركبة من اللام الجارة، وما الاستفهامية، وحذفت ألفها تخفيفاً لكثرة استعمالها كما في نظائرها.
ثم ذمهم سبحانه على ذلك فقال: 3- "كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون" أي عظم ذلك في المقت، وهو البغض، والمقت والمقاتة مصدران، يقال رجل مقيت وممقوت: إذا لم يحبه الناس قال الكسائي: "أن تقولوا" في موضع رفع، لأن كبر فعل بمعنى بئس، ومقتاً منتصب على التمييز، وعلى هذا فيكون في كبر ضمير مبهم مفسر بالنكرة، وأن تقولوا هو المخصوص بالذم، ويجيء فيه الخلاف هل رفعه بالابتداء، وخبره الجملة المتقدمة عليه، أو خبره محذوف أو هو خبر مبتدأ محذوف. لو قيل إنه قصد بقوله كبر التعجب، وقد عده ابن عصفور من أفعال التعجب. وقيل إنه ليس من أفعال الذم ولا من أفعال التعجب، بل هو مسند إلى أن تقولوا، ومقتاً تمييز محول عن الفاعل.
4- "إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً" قال المفسرون: إن المؤمنين قالوا: وددنا أن الله يخبرنا بأحب الأعمال إليه حتى نعمله ولو ذهبت فيه أموالنا وأنفسنا. فأنزل الله "إن الله يحب الذين يقاتلون" الآية، وانتصاب صفاً على المصدرية، والمفعول محذوف: أي يصفون أنفسهم صفاً، وقيل هو مصدر في موضع الحال: أي صافين أو مصفوفين. قرأ الجمهور "يقاتلون" على البناء للفاعل. وقرأ زيد بن علي على البناء للمفعول وقرئ يقتلون بالتشديد، وجملة "كأنهم بنيان مرصوص" في محل نصب على الحال من فاعل يقاتلون، أو من الضمير في صفاً على تقدير أنه مؤول بصافين أو مصفوفين، ومعنى مرصوص: ملتزق بعضه ببعض، يقال رصصت البناء أرصه رصاً: إذا ضممت بعضه إلى بعض. قال الفراء: مرصوص بالرصاص. قال المبرد: هو مأخوذ من رصصت البناء: إذا لا يمت بينه وقاربت حتى يصير كقطعة واحدة، وقيل هو من الرصيص. وهو ضم الأشياء بعضها إلى بعض، والتراص: التلاصق.
5- "وإذ قال موسى لقومه" لما ذكر سبحانه أنه يحب المقاتلين في سبيله بين أن موسى وعيسى أمرا بالتوحيد وجاهدا في سبيل الله وحل العقاب بمن خالفهما، والظرف متعلق بمحذوف هو اذكر: أي اذكر يا محمد لهؤلاء المعرضين وقت قول موسى، ويجوز أن يكون وجه ذكر قصة موسى وعيسى بعد محبة المجاهدين في سبيل الله التحذير لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن يفعلوا مع نبيهم ما فعله قوم موسى وعيسى معهما "يا قوم لم تؤذونني" هذا مقول القول: أي لم تؤذونني بمخالفة ما [آمركم] به من الشرائع التي افترضها الله عليكم، أو لم تؤذونني بالشتم والانتقاص، ومن ذلك رميه بالأدرة، وقد تقدم بيان هذا في سورة الأحزاب، وجملة "وقد تعلمون أني رسول الله إليكم" في محل نصب على الحال، وقد لتحقق العلم أو لتأكيده، وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار، والمعنى: كيف تؤذونني مع علمكم بأني رسول الله، والرسول يحترم ويعظم، ولم يبق معكم شك في الرسالة لما قد شاهدتم من المعجزات التي توجب عليكم الاعتراف برسالتي، وتفيدكم العلم بها علماً يقيناً "فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم" أي لما أصروا على الزيغ واستمروا عليه أزاغ الله قلوبهم عن الخدى، وصرفها عن قبول الحق، وقيل فلما زغوا عن الإيمان أزاغ الله قلوبهم عن الثواب. قال مقاتل: لما عدولوا عن الحق أمال الله قلوبهم عنه، يعني أنهم لما تركوا الحق بإيذاء نبيهم أمال الله قلوبهم عن الحق جزاء بما ارتكبوا "والله لا يهدي القوم الفاسقين" هذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها. قال الزجاج: لا يهدي من سبق في علمه أنه فاسق، والمعنى: أنه لا يهدي كل متصف بالفسق وهؤلاء من جملتهم.