تفسير الشوكاني تفسير الصفحة 580 من المصحف



فتح القدير - صفحة القرآن رقم 580

579

26- "ومن الليل فاسجد له" أي صل المغرب والعشاء. وقيل المراد الصلاة في بعضه من غير تعيين، ومن للتبعيض على كل تقدير "وسبحه ليلاً طويلاً" أي نزهه عما لا يليق به، فيكون المراد الذكر بالتسبيح سواء كان في الصلاة أو في غيرها. وقيل المراد التطوع في الليل. قال ابن زيد وغيره: إن هذه الآية منسوخة بالصلوات الخمس. وقيل الأمر للندب. وقيل هو مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم.
27- "إن هؤلاء يحبون العاجلة" يعني كفار مكة ومن هو موافق لهم. والمعنى: أنهم يحبون الدار العاجلة، وهي دار الدنيا "ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً" أي يتركون ويدعون وراءهم: أي خلفهم أو بين أيديهم وأمامهم يوماً شديداً عسيراً، وهو يوم القيامة، وسمي ثقيلاً لما فيه من الشدائد والأهوال. ومعنى كونه يذرونه وراءهم: أنهم لا يستعدون له ولا يعبئون به، فهم كمن ينبذ الشيء وراء ظهره تهاوناً به واستخفافاً بشأنه، وإن كانوا في الحقيقة مستقبلين له وهو أمامهم.
28- "نحن خلقناهم" أي ابتدأنا خلقهم من تراب، ثم من نطفة ثم من علقة، ثم من مضغة إلى أن كمل خلقهم، ولم يكن لغيرنا في ذلك عمل ولا سعي لا اشتراكاً ولا استقلالاً "وشددنا أسرهم" الأسر: شدة الخلق، يقال شد الله أسر فلان: أي قوى خلقه. قال مجاهد وقتادة ومقاتل وغيرهم: شددنا خلقهم. قال الحسن: شددنا أوصالهم بعضاً إلى بعض بالعروق والعصب. قال أبو عبيد: يقال فرس شديد الأسر: أي الخلق. قال لبيد: ســاهم الوجــه شديد أسره مشرف الحارك محبوك القتد وقال الأخطل: من كل مجتنب شديد أسره سلس القيــاد تخــالــه مختـالا وقال ابن زيد: الأسر القوة، واشتقاقه من الإسار، وهو القد الذي تشد به الأقتاب. ومنه قول ابن أحمر يصف فرساً: يمشي بأوطفة شداد أسرها شم السبائك لا تفي بالجدجد "وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا" أي لو شئنا لأهلكناهم وجئنا بأطوع لله منهم. وقيل المعنى: مسخناهم إلى أسمج صورة وأقبح خلقة.
29- "إن هذه تذكرة" يعني إن هذه السورة تذكير وموعظة "فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا" أي طريقاً يتوسل به إليه، وذلك بالإيمان والطاعة. والمراد إلى ثوابه أو إلى جنته.
30- " وما تشاؤون إلا أن يشاء الله " أي وما تشاءون أن تتخذوا إلى الله سبيلاً إلا أن يشاء الله، فالأمر إليه سبحانه ليس إليهم، والخير والشر بيده، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، فمشيئة العبد مجردة لا تأتي بخير ولا تدفع شراً، وإن كان يثاب على المشيئة الصالحة، ويؤجر على قصد الخير كما في حديث "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى". قال الزجاج أي لستم تشاءون إلا بمشيئة الله "إن الله كان عليماً حكيما" في أمره ونهيه: أي بليغ العلم والحكمة.
31- "يدخل من يشاء في رحمته" أي يدخل في رحمته من يشاء أن يدخله فيها، أو يدخل في جنته من يشاء من عباده. قال عطاء: من صدقت نيته أدخله جنته "والظالمين أعد لهم عذاباً أليماً" انتصاب الظالمين بفعل مقدر يدل عليه ما قبله: أي يعذب الظالمين، نصب الظالمين لأن ما قبله منصوب أي يدخل من يشاء في رحمته ويعذب الظالمين: أي المشركين، ويكون أعد لهم تفسيراً لهذا المضمر، والاختيار النصب وإن جاز الرفع، وبالنصب قرأ الجمهور. وقرأ أبان بن عثمان بالرفع على الابتداء، ووجهه أنه لم يكن بعده فعل يقع عليه. وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس "وشددنا أسرهم" قال: خلقهم. وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة "وشددنا أسرهم" قال هي المفاصل. سورة المرسلاتهي خمسون آية وهي مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. قال قتادة: إلا آية منها وهي قوله: "وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون" فإنها مدنية، وروي هذا عن ابن عباس. وأخرج النحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة المرسلات بمكة. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: "بينما نحن مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار بمنى إذ نزلت سورة المرسلات عرفاً، فإنه ليتلوها وإني لأتلقاها من فيه وإن فاه لرطب بها إذ وثبت علينا حية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اقتلوها، فابتدرناه فذهبت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وقيت شركم كما وقيتم شرها". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس أن أم الفضل سمعته وهو يقرأ: "والمرسلات عرفاً" فقالت: يا بني لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة، إنها آخر ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب. قوله: 1- "والمرسلات عرفاً" قال جمهور المفسرين: هي الرياح، وقيل هي الملائكة، وبه قال مقاتل وأبو صالح والكلبي، وقيل هم الأنبياء، فعلى الأول أقسم سبحانه بالرياح المرسلة لما يأمرها به كما في قوله: "وأرسلنا الرياح لواقح" وقوله: " يرسل الرياح " وغير ذلك. وعلى الثاني أقسم سبحانه بالملائكة المرسلة بوحيه وأمره ونهيه. وعلى الثالث أقسم سبحانه برسله المرسلة إلى عباده لتبليغ شرائعه، وانتصاب "عرفاً" إما على أنه مفعول لأجله: أي المرسلات لأجل العرف وهو ضد النكر، ومنه قول الشاعر: من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس أو على أنه حال بمعنى متتابعة يتبع بعضها بعضاً كعرف الفرس، تقول العرب: سار الناس إلى فلان عرفاً واحداً: إذا توجهوا إليه، وهم على فلان كعرف الضبع: إذا تألبوا عليه، أو على أنه مصدر كأنه قال: والمرسلات إرسالاً: أي متتابعة، أو على أنه منصوب بنزع الخافض: أي والمرسلات بالعرف. قرأ الجمهور "عرفاً" بسكون الراء: وقرأ عيسى بن عمر بضمها، وقيل المراد بالمرسلات السحاب لما فيها من نعمة ونقمة.
2- "فالعاصفات عصفاً" وهي الرياح الشديدة الهبوب. قال القرطبي بغير اختلاف: يقال عصف بالشيء: إذا أباده وأهلكه، وناقة عصوف: أي تعصف براكبها فتمضي كأنها ريح في السرعة، ويقال عصفت الحرب بالقوم إذا ذهبت بهم، وقيل هي الملائكة الموكلون بالرياح يعصفون بها، وقيل يعصفون بروح الكافر، وقيل هي الآيات المهلكة كالزلازل ونحوها.
3- "والناشرات نشراً" يعني الرياح تأتي بالمطر وهي تنشر السحاب نشراً، أو الملائكة الموكلون بالسحاب ينشرونها أو ينشرون أجنحتهم في الجو عند النزول بالوحي، أو هي الأمطار لأنها تنشر النبات. وقال الضحاك: يريد ما ينشر من الكتب وأعمال بني آدم. وقال الربيع: إنه البعث للقيامة بنشر الأرواح، وجاء بالواو هنا لأنه استئناف قسم آخر.
4- "فالفارقات فرقاً" يعني الملائكة تأتي بما يفرق بين الحق والباطل والحلال والحرام. وقال مجاهد: هي الريح تفرق بين السحاب فتبدده. وروي عنه أنها آيات القرآن تفرق بين الحق والباطل، وقيل هي الرسل فرقوا ما بين ما أمر الله به ونهى عنه.
وبه قال الحسن: 5- "فالملقيات ذكراً" هي الملائكة. قال القرطبي بإجماع: أي تلقي الوحي إلى الأنبياء، وقيل هو جبريل، وسمي باسم الجمع تعظيماً له، وقيل هي الرسل يلقون إلى أممهم ما أنزل الله عليهم، قال قطرب. قرأ الجمهور "فالملقيات" بسكون اللام وتخفيف القاف اسم فاعل، وقرأ ابن عباس بفتح اللام وتشديد القاف من التلقية وهي إيصال الكلام إلى المخاطب، والرجح أن الثلاثة الأول للرياح، والرابع والخامس للملائكة، وهو الذي اختاره الزجاج والقاضي وغيرهما.
6- "عذراً أو نذراً" انتصابهما على البدل من ذكراً، أو على المفعولية، والعامل فيهما المصدر المنون، كما في قوله: " أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيما " أو على المفعول لأجله: أي للإعذار والإنذار، أو على الحال بالتأويل المعروف: أي معذرين أو منذرين. قرأ الجمهور بإسكان الذال فيهما. وقرأ زيد بن ثابت وابنه خارجة بن زيد وطلحة بضمهما. وقرأ الحرميان وابن عامر وأبو بكر بسكونها في عذراً وضمها في نذراً. وقرأ الجمهور "عذراً أو نذراً" على العطف بأو. وقرأ إبراهيم التيمي وقتادة على العطف بالواو بدون ألف، والمعنى: أن الملائكة تلقي الوحي إعذاراً من الله إلى خلقه وإنذاراً من عذابه، كذا قال الفراء، وقيل عذراً للمحقين ونذراً للمبطلين. قال أبو علي الفارسي: يجوز أن يكون العذر والنذر بالتثقيل جمع عاذر وناذر كقوله: "هذا نذير من النذر الأولى" فيكون نصباً على الحال من الإلقاء: أي يلقون الذكر في حال العذر والإنذار، أو مفعولان لذكرا: أي تذكر عذراً أو نذراً. قال المبرد: هما بالتثقيل جمع، والواحد عذير ونذير.
ثم ذكر سبحانه جواب القسم فقال: 7- "إنما توعدون لواقع" أي إن الذي توعدونه من مجيء الساعة والبعث كائن لا محالة.
ثم بين سبحانه متى يقع ذلك فقال: 8- "فإذا النجوم طمست" أي محي نورها وذهب ضوءها، يقال طمس الشيء: إذا درس وذهب أثره.
9- "وإذا السماء فرجت" أي فتحت وشقت، ومثله قوله: "وفتحت السماء فكانت أبواباً".
10- "وإذا الجبال نسفت" أي قلعت من مكانها بسرعة، يقال نسفت الشيء وأنسفته: إذا أخذته بسرعة. وقال الكلبي: سويت بالأرض، والعرب تقول: نسفت الناقة الكلأ: إذا رعته، وقيل جعلت كالحب الذي ينسف بالمنسف، ومنه قوله: "وبست الجبال بساً" والأول أولى. قال المبرد: نسفت قلعت من مواضعها.
11- "وإذا الرسل أقتت" الهمزة في أقتت بدل من الواو المضمومة، وكل واو انضمت وكانت ضمتها لازمة يجوز إبدالها بالهمزة، وقد قرأ بالواو أبو عمرو وشيبة والأعرج وقرأ الباقون بالهمزة، والوقت: الأجل الذي يكون عنده الشيء المؤخر إليه، والمعنى: جعل لها وقت للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم كما في قوله سبحانه "يوم يجمع الله الرسل" وقيل هذا في الدنيا: أي جمعت الرسل لميقاتها الذي ضرب بها في إنزال العذاب بمن كذبها، والأول أولى، قال أبو علي الفارسي: أي جعل يوم الدين والفصل لها وقتاً، وقيل أقتت: أرسلت لأوقات معلومة على ما علم الله به.
12- "لأي يوم أجلت" هذا الاستفهام للتعظيم والتعجيب: أي لأي يوم عظيم يعجب العباد منه لشدته ومزيد أهواله ضرب لهم الأجل لجمعهم، والجملة مقول قول مقدر هو جواب لإذا، أو في محل نصب على الحال من الضمير في أقتت قال الزجاج: المراد بهذا التأقيت تبيين الوقت الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم.
ثم بين هذا اليوم فقال: 13- "ليوم الفصل" قال قتادة: يفصل فيه بين الناس بأعمالهم إلى الجنة والنار.
ثم عظم ذلك اليوم فقال: 14- "وما أدراك ما يوم الفصل" أي وما أعلمك بيوم الفصل يعني أنه أمر بديع هائل لا يقادر قدره، وما مبتدأ وأرادك خبره، أو العكس كما اختاره سيبويه.
ثم ذكر حال الذين كذبوا بذلك اليوم فقال: 15- "ويل يومئذ للمكذبين" أي ويل لهم في ذلك اليوم الهائل، وويل أصل مصدر ساد مسد فعله، وعدل به إلى الرفع للدلالة على الثبات، والويل الهلاك، أو هو اسم واد في جهنم، وكرر هذه الآية في هذه السورة لأنه قسم الويل بينهم على قدر تكذيبهم، فإن لكل مكذب بشيء عذاباً سوى تكذيبه بشيء آخر، ورب شيء كذب به هو أعظم جرماً من التكذيب بغيره، فيقسم له من الويل على قدر ذلك التكذيب.
ثم ذكر سبحانه ما فعل بالكفار من الأمم الخالية فقال: 16- "ألم نهلك الأولين" أخبر سبحانه بإهلاك الكفار من الأمم الماضية من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم. قال مقاتل: يعني بالعذاب في الدنيا حين كذبوا رسلهم.
17- "ثم نتبعهم الآخرين" يعني كفار مكة، ومن وافقهم حين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم قرأ الجمهور "نتبعهم" بالرفع على الاستئناف أي ثم نحن نتبعهم. قال أبو البقاء ليس بمعطوف لأن العطف يوجب أن يكون المعنى: أهلكنا الأولين ثم أتبعناهم الآخرين في الإهلاك. وليس كذلك لأن إهلاك الآخرين لم يقع بعد. ويدل على الرفع قراءة ابن مسعود ثم سنتبعهم وثرأ الأعرج والعباس عن أبي عمرو نتبعهم بالجزم عطفاً على نهلك قال شهاب الدين: على جعل الفعل معطوفاً على مجموع الجملة من قوله: ألم نهلك.
18- "كذلك نفعل بالمجرمين" أي مثل ذلك الفعل الفظيع نفعل بهم، يريد من يهلكه فيما بعد، والكاف في موضع نصب على النعت لمصدر محذوف: أي مثل ذلك الإهلاك نفعل بكل مشرك إما في الدنيا أو في الآخرة.
19- "ويل يومئذ للمكذبين" أي ويل يوم ذلك الإهلاك للمكذبين بكتب الله ورسله، قيل الويل الأول لعذاب الآخرة، وهذا لعذاب الدنيا.